العلاقات الأميركية - الروسية في عالم ما بعد حرب العراق

 

سيرجي روجوف

 

لقد ولجت أنا وأبناء وبنات جيلي إلى هذا العالم إبان حقبة الحرب الباردة، وأمضيت الأربعين عاماً الماضية من عمري في دراسة العلاقات الأميركية- الروسية. ولذلك فإن الذي أخشاه هو أن تعود الدولتان إلى مواجهات الماضي، عندما تحين اللحظة التي نكون قد فارقنا نحن فيها الحياة. وكانت صفحة الحرب الباردة قد طويت منذ ما يقارب العقدين من الزمان. وقد علقت آمال عراض ساعة انهيار الشيوعية، في أن ينقلب العدوان اللدودان التقليديان، إلى شريكين استراتيجيين في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. غير أن تلك الآمال والأحلام آلت إلى سراب... ولكن لماذا؟ يلقي الكثيرون من الروس اللوم على أميركا، بينما يلقي كثير من الأميركيين اللوم على روسيا، ويحمِّل الطرفان أحدهما الآخر مسؤولية تبدد تلك الأحلام. وللأسف فإن كليهما مُحق وصحيح الطرح. ومهما يكن فإنه ليس في وسع الإعلانات والتمنيات الطيبة، أن تحل محل الاستراتيجية الواضحة المعالم والأهداف. كما أنه ليس بمقدور كيمياء التفاعل الشخصي بين الزعيمين الأميركي والروسي، التعويض عن وجود التعاون والسياسات المشتركة بين البلدين. ولذلك فما أقوى ردود الفعل والتداعيات اليوم في كلتيهما، على ضياع تلك الآمال والوعود التي رافقت انطواء صفحة الحرب الباردة.

وقد كان عقد التسعينيات، حقبة جد عصيبة في التاريخ الروسي الحديث. فهناك من الأميركيين من رأى فيه بداية عصر ذهبي للديمقراطية الروسية، في حين نظر إليه الروس بل شعروا بتفكك وأفول نجم قوة عظمى سابقة. ومما شهدته تلك السنوات، فرض الرئيس السابق "بوريس يلتسين" سياسات تسريع الخصخصة التي تبناها سواء في قطاع الصناعة أم الاستثمار والموارد البشرية، بقوة الدبابات التي وجهت فوهات نيرانها إلى قبة البرلمان الروسي. وبالنتيجة فقد ازدادت حفنة قليلة من الروس ثراءً وغنىًَ، بينما دفعت أغلبية المواطنين إلى مهاوي الفقر. وقد كانت روسيا حينها، على شفا أن تكون دولة فاشلة، غير أنها تمكنت من الإفلات من ذلك المصير المشؤوم. وبفضل المساعدات الجبارة التي قدمتها لها الإيرادات النفطية، جراء الارتفاع الذي شهدته أسعار النفط العالمي، تمكنت روسيا من العودة مرة أخرى إلى عصر الانتعاش الاقتصادي. وبالنتيجة فقد ارتفعت معدلات معيشة المواطنين اليوم، بينما زال من الأفق، شبح اندلاع الحرب الأهلية. على أننا ما زلنا نواجه مصاعب جمة في الانتقال إلى التجربة الديمقراطية الراسخة الناضجة، ولنمط اقتصاد السوق الحديث. لكن وعلى رغم عدم استبعادنا لارتكاب المزيد من الأخطاء الجديدة على هذا الطريق، فإنه يمكن القول إجمالاً إن روسيا قد بدأت بالتعافي من تلك الآثار المدمرة.

وفي غضون ذلك، واصلت الولايات المتحدة الأميركية تمتعها بمزايا نصرها في الحرب الباردة. ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي في بدايات عقد التسعينيات، ظلت الاستراتيجية الثابتة لواشنطن، هي الحيلولة دون بروز قوة دولية أخرى منافسة لها، ما يعني حرصها على إطالة أمد أحاديتها القطبية، لأطول فترة ممكنة خلال الألفية الجديدة هذه. وبفعل تأثير تلك الاستراتيجية، فقد شقت على واشنطن مقاومة إغراءات وغوايات الأحادية والحروب الاستباقية. وما بلغت جحافل الجيش الأميركي بغداد، إلا وهي محمولة على جناح هذا الصلف الأميركي الجديد! وتحت التأثير الطاغي لهذه النزعة، لم تعد العلاقات الأميركية- الروسية تتصدر أجندة وسياسات الخارجية الأميركية. ومن حينها كفت واشنطن عن أن تعامل موسكو على أنها ند لها في المسرح الدولي. وبدلاً من ذلك، شرعت واشنطن في تقديم المحاضرة تلو الأخرى للروس عن ضرورة إجراء إصلاحات سياسية داخلية. كما امتد بها الأمر لتقديم المساعدات المباشرة لهم، متى ما كانت الأهداف المرغوبة، تصب في خدمة المصالح الأميركية. لكن وباستثناء برنامج Nunn-Lugar الهادف إلى مساعدة الجمهوريات السوفييتية السابقة على تفكيك ترساناتها النووية، فإنه لا مجال لذكر أي مساعدات كبيرة تذكر، قدمت للروس. كما أن واشنطن لم تخصص أية "خطة مارشال" لروسيا. بل الحقيقة أنه تعين على روسيا أن تسدد ما عليها من ديون متراكمة من العهد السوفييتي، ومستحقة لكل من صندوق النقد والبنك الدوليين. ومن حسن حظ روسيا اليوم، أن تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية الضخمة التي شهدتها خلال السنوات الماضية، قد تجاوزت فيها أية مساعدات أجنبية واستثمارات خاصة فيها. وحتى اليوم، فإن روسيا لا تزال قادرة على مد يد المساعدة للولايات المتحدة، لاسيما في تمويل العجز الكبير الذي تعانيه هذه الأخيرة في ميزانيتها الفيدرالية، بفضل ما لروسيا من مئات المليارات من الدولارات في الخزانة الأميركية، في شكل احتياطيات روسية من العملات الأجنبية.

أما فيما يتعلق بقضايا الأمن الدولي، فقد واصلت واشنطن صلفها وتعاملها مع موسكو على أنها قوة ثانوية، يمكن تجاهل شكاواها ومطالبها في هذا المجال. يذكر أن الرئيس بوش كان قد وعد في أعقاب الحرب الباردة، ببناء نظام أمني جديد يمتد من "فانكوفر" إلى "فلاديفوستوك"، ولكن سرعان ما قُبرت تلك الفكرة وأضحت طي النسيان. وقد طال المصير ذاته، الوعد الذي قطعه حلف "الناتو" على نفسه بعدم تمديد نفوذه وبنيته التحتية العسكرية شرقاً إلى ما وراء حدود ألمانيا الغربية.

بيد أنه لم يعد في وسع الولايات المتحدة التعامل على أنها "شرطي العالم" عقب حربها على العراق. والدليل أن الشعب الأميركي نفسه لم يعد راغباً في أن تواصل بلاده أداء هذا الدور. وفي سبيل انزلاق عالمنا إلى المزيد من الفوضى الإقليمية والدولية، فإنه لابد من بروز نظام دولي جديد للتعددية القطبية، يقوم على قواعد تعددية اللعبة العالمية، ويحظى بقبول كافة القوى واللاعبين الدوليين الأساسيين. وفي اعتقادي أن الوزر الأكبر في إنشاء هذا النظام الدولي الجديد، يقع على واشنطن وموسكو، قبل غيرهما. ولكي تنهضا بهذه المسؤولية، فإن عليهما التعاون في ثلاثة مجالات حيوية.

أولاً، بذل مجهود جدي وفعلي لاستحداث نظام جديد للسيطرة على الأسلحة. ولست أرمي بهذا إلى تجديد المعاهدات الثنائية القديمة بين البلدين، وإنما أعني تجديد التزام كليهما بعدم تعريض أمن الآخر للخطر، مع الأخذ في الاعتبار بالهواجس الأمنية لكليهما. وضمن ذلك، فإنه يتعين عليهما حل النزاعات حول النظم المضادة للصواريخ في أوروبا الشرقية، سلمياً وعن طريق التنازلات، بدلاً من المواجهة.

ثانياً، على الدولتين أن تتعاونا على المستويين الثنائي والدولي، في إدارة وتسوية النزاعات الإقليمية. ويتضمن ذلك توسيع رقعة هذا التعاون، كي يشمل منعهما معاً لعودة إحكام قبضة "طالبان" على أفغانستان.

ثالثاً وأخيراً، ضرورة التعاون المشترك في حل مشكلات الديمقراطية، طالما أن كلتيهما تواجهان مهددات إرهابية جدية على أمنهما. ولا يزال الوقت مبكراً جداً لأن تحكم أي منهما بتوصلها للطريقة المثلى لنشر حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية. ولم يعد الوضع الأخلاقي الحالي لواشنطن، يسمح لها بالمحاضرة على الآخرين في هذه المبادئ والقيم الديمقراطية. ولكي يتم هذا التعاون الثنائي بين البلدين، فقد حان لواشنطن أن تدرك أن روسيا لم تعد لاعباً ثانوياً في المسرح الدولي، وأن علاقات التعاون لا تقوم إلا على قدم الندية والمساواة.

*مدير مركز الدراسات الأميركية- الكندية بأكاديمية العلوم الروسية بموسكو

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ً و دون تعليق.

المصدر: الإتحاد الإمارتية- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست" - 6-3-2007