الإمبراطورية الأميركية و الهيمنة
السيد يسين
هيمنة غير شرعية ولا أخلاقية هناك إجماع بين المفكرين الاستراتيجيين في العالم أجمع على أن انهيار وسقوط الاتحاد السوفييتي حوالى عام 1991 مثل تاريخاً فارقاً في مسار النظام العالمي. فقد أدى ذلك إلى اختفاء العالم ثنائي القطبية الذي تصارعت في جنباته الشيوعية والرأسمالية، ونهاية الحرب الباردة. غير أن أهم نتيجة لهذا التغير الحاسم هي بروز النظام العالمي أحادي القطبية الذي تسيطر عليه بالكامل الولايات المتحدة الأميركية. ومنذ عام 1990 حين انتقلت من القاهرة إلى عمان لأشغل منصب أمين عام "منتدى الفكر العربي" بلورت مشروعاً علمياً جديداً يقوم على أساس التحليل الثقافي الشامل للنظام العالمي المتغير، بمعنى دراسة تجلياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاتصالية، مع تركيز خاص على التغيرات الثقافية، بعد أن أصبح التحليل الثقافي هو المنهجية السائدة في العلم الاجتماعي المعاصر. ومن خلال سلسلة طويلة من القراءات والأبحاث التي نشرتها منذ ذلك الحين أدركت مبكراً أن المعركة التي ستشغل الساسة والمفكرين والدول في مطلع القرن الحادي والعشرين ستكون بين العالم أحادي القطبية الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية، والعالم متعدد الأقطاب الذي ترنو روسيا والصين وغيرهما من الدول لتأسيسه، إدراكاً منها لخطورة انفراد أميركا بتقرير مصير العالم من خلال هيمنتها المطلقة في عالم وحيد البعد. ويمكن القول إن الرئيس بوتين قد فاجأ العالم مفاجأة مدوية في العاشر من فبراير 2007 حين ألقى خطاباً تاريخياً أمام مؤتمر ميونيخ عن سياسات الأمن، انتقد فيه بشكل صريح ومباشر سياسة الولايات المتحدة الأميركية للهيمنة على مقدرات العالم من خلال نظام عالمي أحادي البعد، وقرر في عبارة دالة أن هذه السياسة غير شرعية ولا أخلاقية في نفس الوقت. وقد رد "روبرت جيتس" وزير الدفاع الأميركي بعنف على هذا الخطاب مديناً اللغة الحادة التي استخدمها الرئيس بوتين، على أساس أنها لغة فظة عادة ما يستخدمها الجواسيس القدامى، إشارة إلى سبق عمل بوتين في الاستخبارات السوفييتية! وقبل أن نقوم بالتحليل الدقيق لمكونات خطاب بوتين ودلالات الأفكار التي انطوى عليها، من الأهمية بمكان التأكيد أن هذا الخطاب رغم أهميته القصوى خطاب كاشف وليس منشئاً إذا استخدمنا لغة القانون! ذلك لأن مسيرة بوتين منذ توليه رئاسة روسيا يمكن تلخيصها في عبارة واحدة هي الهجوم على الهيمنة الأميركية على العالم والتمهيد لعالم متعدد الأقطاب، من خلال المواقف السياسية والمباحثات الدبلوماسية مع الدول المختلفة لتعبئة الرأي العام للدول -إن صح التعبير- للوقوف أمام الهيمنة الأميركية، وأهم من ذلك كله التأسيس لعالم متعدد الأقطاب. والواقع أن الخطاب التاريخي الذي ألقاه الرئيس بوتين في ميونيخ له مقدمات متعددة أميركية وروسية على السواء. لقد كان الرئيس الأميركي جورج بوش الأب هو الذي صاغ -بعد نهاية الحرب الباردة- مصطلح "النظام العالمي الجديد" الذي دعا إلى قيامه، وذلك بغرض أن تملأ الإمبريالية الأميركية بيدها الثقيلة الفراغ الجيوبوليتيكي الذي نشأ بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. والغرض منه غزو الفضاء السياسي للاتحاد السوفييتي السابق وفرض سيطرتها ليس على أوروبا فقط ولكن على العالم. وقد كان بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق صريحاً في كتابه "خارج السيطرة" الذي صدر عام 1993، حين وصف الاستراتيجية الأميركية بأنها "عملية غزو خلقها تفكك الاتحاد السوفييتي، تهدف إلى تحويل الجمهوريات التي كان يضمها الاتحاد السوفييتي من قبل إلى منطقة تسيطر عليها بالكامل القوة الأميركية". وهو يضيف إلى ذلك أن الهيمنة الأميركية جاءت على غير مثال، لأنها هيمنة كونية حقاً، تقوم على أساس خليط غير مسبوق من التفوق العسكري والصعود الإيديولوجي (بحكم سياسة الليبرالية الجديدة التي تم تبنيها في عديد من بلاد العالم)، والسيطرة على النظام المالي للعالم. وفي تصريح معاصر لنشر كتاب بريجنسكي وصف "أنتوني ليك" مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس كلينتون المذهب التوسعي الأميركي الجديد بعبارة موجزة هي "من مذهب الاحتواء (الذي ساد في عصر الحرب الباردة) إلى التوسع". وقد ساعد على صعود الهيمنة الأميركية التفكك واسع المدى الذي أصاب روسيا في عصر "يلتسين" الذي حاول التخلي تماماً عن المنطلقات والسياسات الماركسية وتطبيق الإيديولوجيا والسياسة الاقتصادية الغربية متمثلة في حرية مطلقة للسوق بطريقة عشوائية، أدت إلى وصف روسيا بأنها دولة بلا سياسة! ولكن هذا الموقف تغير بعد تولي الرئيس "بوتين" مقاليد السلطة في روسيا. فقد ركز على معارضة العالم أحادي البعد الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية وحلف "الناتو"، وذلك باتخاذ مواقف من العولمة بطريقة حذرة. ولعل الوثيقة الاستراتيجية المهمة التي تعبر عن هذه السياسة الجديدة هي "مفهوم روسيا للعالم في القرن الحادي والعشرين" التي أعلنتها الحكومة الروسية في بداية الألفية الجديدة. والمفهوم المحوري فيها هو "تعددية الأقطاب" المؤسس على تكامل قدرات المناطق الروسية وتفاعلها بغرض تحقيق الاستقرار والأمن. وعبرت الوثيقة بوضوح عن أن حركة تعددية الأقطاب تعكس إرادة غالبية الدول الأعضاء في المجتمع العالمي. وبالإضافة إلى ذلك قامت موسكو بدور الوسيط بين الدول الغربية والدول النامية التي لا تستطيع الولايات المتحدة الأميركية أن تدعي أنها تمثلها. وقد قامت جهود الرئيس "بوتين" الدبلوماسية في العقد الماضي على خلق مناخ دولي مواتٍ للانتقال من العالم الأميركي أحادي القطبية إلى عالم متعدد الأقطاب. وإذا أردنا التأصيل العلمي للأفكار المهمة والانتقادات العنيفة التي وجهها الرئيس "بوتين" للولايات المتحدة الأميركية في مؤتمر ميونيخ، فلابد لنا من تحليل الوثيقة الاستراتيجية بالغة الأهمية التي أصدرتها روسيا بمرسوم رئاسي وقع عليه "بوتين" في 28 يونيو عام 2000. والوثيقة بعنوان "مفهوم السياسة الخارجية للاتحاد الروسي" وهي تنقسم إلى خمسة أقسام رئيسية. القسم الأول مبادئ عامة، والقسم الثاني عنوانه "العالم الحديث والسياسة الخارجية" في الاتحاد الروسي، والقسم الثالث عنوانه "أسبقيات الاتحاد الروسي في حل المشكلات العولمية". والقسم الرابع عنوانه "أسبقيات إقليمية"، والقسم الخامس والأخير عنوانه صياغة وتطبيق السياسة الخارجية للاتحاد الروسي. ولو طالعنا القسم الأول عن المبادئ العامة لأدركنا أنها تنطوي على فلسفة الاتحاد الروسي والتي تتمثل أساساً في التأثير على العمليات العالمية العامة بغرض خلق نظام عالمي مستقر وعادل وديمقراطي، مبني على أساس المعايير المتفق عليها للقانون الدولي، وفي مقدمتها أهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، والذي يقوم على أساس علاقات تقوم على العدالة والشراكة بين الدول. وفي تقديرنا أن الدراسة الدقيقة لهذه الوثيقة الاستراتيجية المهمة ينبغي أن تكون مدخلنا لتحليل خطاب الرئيس "بوتين" حتى يتأكد قولنا إنه خطاب كاشف وليس منشئاً. والواقع أن البحث في إشكالية عالم أحادي القطب أم عالم متعدد الأقطاب، ينبغي أن يعتمد أساساً على تحليل الوثائق الاستراتيجية، وليس على التصريحات السياسية أياً كانت أهمية من يطلقونها. ذلك أن الوثيقة الاستراتيجية عادة ما تعرض لرؤى متكاملة انطلاقاً من إطار نظري محدد، مما يسمح للباحثين بالدراسة الشاملة للمذاهب الاستراتيجية المتعارضة. وللتدليل على ذلك -وفي إطار بحوثنا في الموضوع التي جرت منذ سنوات- اكتشفنا أن مؤسسة "راند" التي تعتبر العقل الاستراتيجي الأميركي، قد أصدرت وثيقة يمكن اعتبارها هي التي تتضمن المذهب الأميركي الرسمي في منطق ومفهوم الهيمنة الأميركية على العالم. وهناك وثيقة أخرى عبارة عن بحث لأستاذ أميركي يجيد اللغة الصينية وخبير في الصين، جمع فيها الرؤى الاستراتيجية الصينية حول تأسيس عالم متعدد الأقطاب، المتضمنة في بحوث أكثر من ثلاثين مركزاً استراتيجياً صينياً. وهكذا يمكن القول إنه لابد من دراسة الوثائق والوثائق المضادة قبل الحديث عن العملية التاريخية الكبرى التي تتمثل في الانتقال من عالم أحادي البعد إلى عالم متعدد الأقطاب. و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق. المصدر:الإتحاد الإماراتية-المرسل:أحمد-22-2-2007 المقالات تعبر عن أراء أصحابها ولا تعكس بالضرورة عن أراء المعهد .
|