الوطنية المزيفة : قصة لم تنته بعد
جابرحبيب جابر
تقدم الدول العربية والعديد من البلدان الافريقية والاسيوية نموذجا مختلفا للدولة القومية التي تم التعارف عليها، باعتبارها الوحدة الأساسية للنظام الدولي، اذ انها تبدو الى حد كبير دولا يغلب عليها الاصطناع الجغرافي والاجتماعي، وبتبسيط اكثر هي دول «مطبوخة» فرضتها ظروف المرحلة ما بعد الاستعمارية وصراعات القوى الكبرى وقوة النزعات المحلية. بالطبع لا ينبغي الايغال في استخدام مصطلح الاصطناع الى الحد الذي تذهب اليه التيارات القومية المتأدلجة، التي تتنكر ببساطة لحقب تاريخية طويلة كانت فيها المنطقة العربية ساحة صراع بين امبراطورياتها ولم تكن «دولة واحدة». وإذا كانت الإمبراطورية الإسلامية قد أنتجت وحدة جغرافية واسعة تمتد من الصين الى المحيط الأطلسي، إلا أن هذه الوحدة لم تكن هي القاعدة بل كانت الاستثناء، ولم تخل من الانقسامات والصراعات بين الامارات والدويلات والقبائل، والاهم من ذلك ان تلك الدولة، وهذا احد اسرار تفوقها، كانت فسيفسائية متنوعة وبالمعنى المعاصر «Homogenous». ان احد مصادر ضعف التفكير القومي العربي هو انه تنازل عن سمة التفوق هذه لصالح تبني شكلا من اشكال التفوق العنصري، الذي حاولت بعض التنظيرات القومية اعطاءه طابعا مخففا بالحديث عن الأمة «القائدة»، في إنكار متعصب لمساهمة «الشعوب» الاسلامية غير العربية في صنع تلك الحضارة، التي ما زلنا نعتاش على أمجادها، بعد أن رمينا أنفسنا في حاضر مخجل، تسلم فيه الريادة الى اكثر نماذج التفكير تطرفا وعجرفة وانكارا للاخر، حيث تصنع المنجزات الجديدة عبر سيارات مفخخة تنهش اجساد ابناء الوطن الذي لم يبد مصطنعا كما هو اليوم بفعل الاحادية القاتلة. لقد كانت الدولة ـ القومية في أوربا نتاجا لتطور تاريخي شهد صراعات مرة كالتي نعيشها اليوم، لكنه انتهى الى انتاج النموذج الغربي المعاصر من مجتمعات متجانسة تحترم التنوع في داخلها وتعيش عقدا اجتماعيا يوائم بين حركية التقدم والتجديد، وثبات مبادئه الأساسية القائمة على الحرية والمساواة وحكم القانون. والدول الجديدة التي ظهرت في اوربا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وحروب البلقان المرة تحاول ان تلحق بالنموذج الغربي، وان تعوض زمنا طويلا من الاتحادات الاجبارية في دول غير متجانسة تشد اجزاؤها أنظمة حديدية. واليوم لا نشعر بكثير من الغرابة عندما تتحدث القوى السياسية في الدول الغربية عن الأمة، وعن المواطنة، وعن الوطنية، فهي في ذلك لا تستعير مفاهيم غير طبيعية ولا تسقطها على واقع لا يستوعبها. الغريب هو في الإصرار على محاكاة هذه المفاهيم وإسقاطها على «دول أو أشباه دول» لا تبدو في لحظتها التاريخية الراهنة قادرة على استيعابها، والحديث عن إرادة وطنية في اوطان صار وجودها محلا للتساؤل، وصارت أولوية هذا الوجود ثانوية لدى الفرقاء داخلها. إن النماذج التي نشهدها اليوم في العراق ولبنان وفلسطين ليست شواذا عن قواعد المنطقة، هي جنين المنطقة الذي يخضع لعملية استيلاد قيصرية منذ أمد. الارادة الوطنية هنا تنطوي على اصطناع لا يقل عن ذاك الذي تجلى طويلا في خطاب التيارات القومية العروبية عن الارادة القومية، وما تبعه من إنشاء قيادات «قومية» لأحزاب «قطرية» بلغت في قطريتها حدا خلق قطيعة كاملة بين بلدين عربيين متجاورين ومترابطين ومقترحين كنواة للوحدة العربية! المشكلة مجددا، هي في قدرتنا نحن على الاصطناع وتحميل الاشياء اكبر مما تحتمل، لقد ضربنا ارقاما قياسية في اعداد الاناشيد الوطنية، وفي ابتكار الرموز الوطنية وفي تقديم التضحيات «الوطنية»، وفي غضون ذلك عجزنا عن ان نبني وطنا حقيقيا نعوض فيه شعورنا بالنقص تجاه واقع نهرب منه عبر تزييفه. في البلدان الثلاثة التي تحدثت عنها هناك صراخ عال يصم الآذان، يتحدث باسم الوطن على شفاه فرقاء يتنابزون صباحا ومساء، وحيث يبدو الشعب فئات يصل حد بغضها لبعضها الى ان تتحالف زعاماتها مع دول خارجية لتستقوي بها على الفئة الاخرى، ويحصل كل ذلك وسط اجترار مقرف للحديث عن خطورة «التدخل الخارجي» وعن «الوطنية» من قبل نفس الزعامات. ولكي يزداد عمق المشكلة، تتبنى الدول المجاورة خطابا غريزيا يستحضر المثل العربي «القبلي» «أنا وأخي على ابن عمي...»، ويحصل ان يكون احد الفرقاء أخا لحليف له خارج الحدود، وتكون الاخوة شكلا آخر من اشكال القبلية العربية التي ما تلبث ان تنهض نافضة ببساطة غبار عقود طويلة من افتعال المواطنة في صحراء من القبلية المنمقة. ان العراق ولبنان وفلسطين هي اليوم مناطق «رخوة» يسهل فيها على الجيران استعراض قواهم والتصادم في معارك ثانوية، لم لا ما دامت هذه الاوطان مشاريع مؤجلة او فاشلة. غير أن الحقيقة اكبر من ذلك، فليس اي بلد من بلدان هذا «العالم الخاص من المتناقضات» بعصي عن ان يكون في يوم اخر نهبا لنفس النوع من الصراعات لنفس الأسباب. فمشروع بناء الدولة ـ القومية لم يثمر بعد عن هذه الدولة رغم تباين في الدرجة والمضمون. ان معظم دول المنطقة تقوم على براكين خامدة قد تنفجر اذا ما توفر لها احد عوامل الاشعال، كالاحتلال الامريكي وسقوط النظام الشمولي ـ القبلي في العراق، والانتخابات في فلسطين، وهي جميعا أحداث اسهمت في رفع غطاء من التزييف كان يخفي واقعا صعبا. قد تنجح بعض دول المنطقة في اخفاء عيوبها، لكن ذلك لن يلغي تلك العيوب. بعد كل ذلك، لا تغدو الفرصة الجاذبة لبلدان المنطقة كي تدس انوفها في صراعات بغداد وبيروت ورام الله، سوى صورة لإصرار ضمني على ان تظل المنطقة ضحية عالمها الخاص من سياسات القبيلة والطائفة، يصبح معها استصراخ الاخر الخارجي ضد الخصم الداخلي شكلا معبرا عن حالة الاختراق التي تعيشها بلدان لا تقاوم حقيقة انها «مطبوخة»، وبمكونات غير ملائمة لبعضها، احيانا. أما المدهش، فهو أن الرمزية التي يحملها وجود هذه الاوطان ما زالت من القوة بحيث يستعصي التنازل عنها حتى وسكانها يحتربون فيما بينهم، فلأنها تجمعات سكانية تجاوزت المرحلة القبلية بفعل يلمس منجزات الحداثة وتحولاتها، ولكونها أقل من ان تكون أمما بالمعنى الاوربي بفعل عدم مغادرتها التامة لعلاقات ما قبل الحداثة، تظل هذه الكتل السكانية منشدة الى اسمائها الرمزية «العراق، لبنان، فلسطين، السودان» كمنفذ للتعبير عن الهوية ، لكنه تعبير يدخل هو الاخر حتى في رمزيته الى حلبة الصراع لينتهي في أسوأ الحالات الى الحديث عن عراق جنوبي ولبنان شمالي ، كما نتحدث اليوم عن كوريتين وكنا نتحدث بالامس عن المانيتين. ما تحتاجه هذه «البلدان» هو زمن من السلام كي تختار مسالكها، فالشعوب لا تقرأ الاشياء بتأن وذكاء عندما تكون في مراحل الاحتدام، وعندها تأتي القرارات متسرعة والخيارات كارثية، وربما لا أحد يحسد هذه النماذج التي ذكرناها، لكنها قد تحسد في الغد عندما تنتهي مرحلة الاحتدام وينجو الجنين في ولادته المتعسرة او يموت مخلفا بعض الهدوء والوداعة واللاألم، في وقت تكون براكين اخرى قد انفجرت وقصص جديدة عن الوطنية المفتعلة قد قصت ... و كل ذلك بحسب رأس الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق. المصدر: الشرق الأوسط اللندنية-4-2-2007
|