الـمــفـــاجــــأة
سليم نصار*
غداً الاحد تنتهي مع سنة 2006 حقبة عسيرة من تاريخ
المنطقة، لتبدأ بعدها حقبة المفاجآت والتغيير في فلسطين والعراق ولبنان
وافغانستان والصومال
ولا شك في ان التوصية التي قدمها تقرير بايكر -
هاميلتون ستكون المنطلق لتدشين سياسة اميركية واقعية لا تعتمد على قوة
السلاح من أجل فرض ديموقراطية خيالية، وانما تعتمد على الديبلوماسية
المرنة وربما المخادعة، في سبيل تعويم أهداف خاطئة.
ويرى بايكر ان السياسة الخارجية ليست مهمة نبيلة ترمي
الى تغيير أوضاع العالم... بل هي فن إدارة شؤون العالم. لذلك يتهمه
الحزب الديموقراطي بالمكيافيلية لأنه سمح لصدام حسين بسحق الانتفاضتين
الشعبيتين اللتين قام بهما شيعة جنوب العراق وأكراد الشمال. ثم تكررت
هذه المآسي خلال أحداث تفكك يوغوسلافيا بسبب تقاعس الرئيس بوش الأب
ووزير خارجيته بايكر اللذين أحجما عن التدخل لفرض وقف النار.
ويُستدل من ردود الفعل على توصيات لجنة بايكر -
هاميلتون، ان رئيس وزراء بريطانيا طوني بلير، كان أول المحبذين
لاقتراحات التقرير الذي يرسم طريق الخروج من المأزق العراقي. كما يرسم
لحليفه جورج بوش صورة قاتمة حول أسباب خسارته العسكرية والسياسية
والاقتصادية في حرب العراق.
الحكومة الاسرائيلية لم ترحب بتوصيات تقرير بايكر -
هاميلتون لأن عودة الأمن الى العراق يسقط رهاناتها على تحطيم منعته
وتفكيك وحدته. كذلك تحفظت عن انتقاء بايكر للعب دور مركزي في أزمات
الشرق الاوسط، والسبب ان اسلوبه الفظ الذي مارسه مع المسؤولين
الاسرائيليين لم يكن عملاً مرضياً طوال الفترة التي قادت الى مؤتمر
مدريد. ويروي الكاتب دانيال بن سيمون في صحيفة "هآرتس" وقائع الجلسات
الساخنة التي خاضها رئيس الوزراء السابق اسحق شامير ضد املاءات بايكر.
ففي اللقاء الاول لم يستطع شامير إخفاء توتره وذهوله من لهجة الامر
التي خاطبه بها وزير الخارجية الاميركي حول الحاجة الى تطبيق المبادرة
السياسية التي حملت اسمه. وفي اللقاء الثاني الذي صادف يوم السبت،
اقترح شامير فترة استراحة بسبب قدسية السبت عند اليهود، ولكن هذا العذر
لم يثن بايكر عن الاصرار على مواصلة المحادثات. واقترح في حينه اجراء
حوار مباشر مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بهدف منحها اعترافاً
رسمياً بشرعية تمثيلها.
وعندما رفض شامير الانصياع لهذا المطلب، هدده بايكر
بوقف المساعدات الاميركية الخاصة بعملية استيعاب المهاجرين اليهود
القادمين من الاتحاد السوفياتي. وحاولت اسرائيل تهديده بالادعاء انه
يحمل مشاعر لا سامية نحوها، الا ان بايكر استهجن تلك المزاعم وسحب
شامير من أذنه الى مؤتمر مدريد بهدف فرض التسوية السلمية. وعندما أثار
رئيس الحكومة الاسرائيلية موضوع "الارهاب" الفلسطيني، تصدى له فاروق
الشرع وعرض أمام الوفود نسخة عن صحيفة بريطانية تحمل اسم الارهابي اسحق
شامير الذي قتل "اللورد موين" في القاهرة. وهكذا انتهت المجابهة
الاميركية - الاسرائيلية بسقوط شامير في الانتخابات ومجيء العمالي اسحق
رابين.
بعد انقضاء خمس عشرة سنة على تلك المرحلة، يظهر
الليكودي العتيق ايهود أولمرت ليمثل الدور الذي طلبه بايكر من سلفه
شامير. وهو دور خطير ينطوي على فرض التسوية السلمية على اسرائيل، كحل
سريع لقضية مؤجلة منذ نصف قرن. ومع ان اولمرت فسر التقرير بأنه وثيقة
اميركية داخلية لا تخص اسرائيل، الا انه لم يستطع تجاهل العبارة التي
تقول: "ان عدم حل الصراع التاريخي الاسرائيلي - الفلسطيني يساهم في نشر
حالة عدم الاستقرار في الشرق الاوسط". وهكذا برزت القضية الفلسطينية
كتشخيص سياسي لتأمين الاستقرار بديلاً من الديموقراطية.
الرئيس جورج بوش يرفض تعديل مسار سياسته الخارجية خوفاً
من الإقرار بأن إدارته اقترفت خطأ جسيماً في حربها على العراق. لذلك
أهمل توصيات بايكر - هاميلتون، وطلب من وزارة الدفاع ووزارة الخارجية
ومجلس الأمن القومي، اعداد تقارير عن العراق. وهو يتوقع ان تكون تقارير
الهيئات الرسمية الثلاث مختلفة عن التقرير الاول، الامر الذي يجعل من
توصيات بايكر - هاميلتون مجرد وجهة نظر يصح إهمالها أو تبنيها.
عشية المطالبة بإنهاء المهمة الاميركية في العراق، واسنادها الى ايران
وسوريا، يلوح الرئيس بوش باحتمال ارسال قوة اضافية تؤخر موعد الانسحاب.
وحجته ان الحرب الاهلية العراقية قد تتطور الى حرب بين العرب
والايرانيين بواسطة الميليشيات، أو بواسطة "حزب الله" في لبنان و"حماس"
و"الجهاد الاسلامي" في فلسطين. ومثل هذه التوقعات الخطرة سترسم
خطوط أزمة كبرى على امتداد المنطقة كلها. وترى كوندوليزا رايس ان
الانكفاء الاميركي المفروض قد يفقد الولايات المتحدة موقعها كقوة كبرى
وحيدة في العالم، سواء داخل الشرق الاوسط أم خارجه.
عندئذ ستتقدم روسيا والصين للحلول مكانها ومكان اوروبا
ايضاً.
وزير خارجية المانيا السابق يوشكا فيشر، كتب يقول ان ايران ستصبح القوة
المستفيدة الاولى من الفراغ الامني داخل العراق. وهي تعتمد في انتشارها
على عوامل عدة بينها الترسانة العسكرية ومخزون النفط والغاز وبرنامجها
النووي
وتأثيرها القوي بين الشيعة في العالمين الاسلامي والعربي. ويبدو ان
العقوبات الاخيرة التي أصدرها مجلس الامن، ستفرض على نظام الملالي
اعادة النظر في مستقبل علاقاته مع روسيا، وربما اضطرت طهران الى
الانتظار بعض الوقت لدراسة نتائج العزلة الاقتصادية التي تحاول واشنطن
فرضها من خلال قرار مجلس الامن. ويتخوف المراقبون ان تنتج عن ضيق
الحصار اضطرابات داخلية تدفع الرئيس نجاد للهروب الى الامام من طريق
تحريك حلفائه ...ويضيف الكاتب :
لذلك اقترحت المانيا أن يصار الى معالجة المسألة
الايرانية بواسطة استراتيجية ذات طبيعة سياسية وليس عسكرية ترمي الى
قلب نظام الحكم.
عقب فشل مشروع "القاعدة" في الاستيلاء على الصومال، عاد
زعيمها اسامة بن لادن (يبلغ الخمسين خلال الشهر المقبل) الى تحويل كل
جهوده لنصرة "طالبان" في افغانستان. خصوصاً بعد إحجام قيادة حلف شمال
الاطلسي عن تلبية طلب حامد كرزاي بإرسال مزيد من القوات. ويتوقع ان
يشجع هذا الاحجام حركة "طالبان" على توسيع عملياتها عقب تمنّع اسبانيا
وايطاليا وفرنسا عن التجاوب. والملاحظ ان "طالبان" استولت على مناطق
واسعة من البلاد مستغلة ضعف حكومة كابول وزيادة انتاج الأفيون الذي
يمول عمليات التسلح ومقاتلي كشمير والحركات الاسلامية الانفصالية في
الشيشان والصين. وهي تستعد لفتح جبهات عدة في وقت واحد بعد استيلائها
على قندهار واعلان حكومة انفصالية. ويقول الرئيس كرزاي انه تجادل مع
الرئيس برويز مشرف داخل البيت الابيض، واتهمه بأنه يطارد زعماء "طالبان" في باكستان، ولكنه يساندهم سراً فوق الاراضي
الافغانية.
الرئيس مشرف ابلغ الادارة الاميركية خلال زيارته
الاخيرة بأن افغانستان تسير في طريق التقسيم أو الاقتسام مثل العراق،
اذا لم تبادر الدول الكبرى الى فتح حوار مع "طالبان" في الجنوب والشرق.
وقال للرئيس بوش ان بلاده تساند فكرة قيام حكومة ائتلافية تضم ممثلي
البشتون والطاجيك والأوزبك والهزارة، بحيث يمكن حشد أمراء الحرب في
تجمع واحد على الطريقة اللبنانية. ومعنى هذا ان اخفاق السياسة
الاميركية في افغانستان ايضاً سيعبد الطريق لعودة "طالبان" وحلفائها.
وزير الدفاع الاميركي الجديد روبرت غيتس، حذر من نيران
بركان الشرق الاوسط في حال لم تنجح الولايات المتحدة في لجم النزاع
الدائر في العراق وافغانستان. وهو يرى ان انسحاب قوات التحالف من
العراق، سيطلق يد ايران وسوريا و"القاعدة" و"طالبان" في العراق
وافغانستان ولبنان والضفة وغزة. لذلك اقترح على الرئيس بوش عقد مؤتمر
دولي على غرار ما فعله والده في مؤتمر مدريد، على ان يناقش مشكلات
الشرق الاوسط ويضع لها الحلول الملزمة. وفي تصوره ان الاسراع في الهرب
من الساحة العراقية، يذكر بتجربة الهرب المريرة من فيتنام. وعليه يرى
بوش انه على استعداد لسحب قواته تدريجاً بعد إعادة الانتشار قبل نهاية
الربع الاول من 2008، وهو يدعي ان الانسحاب السريع سيترك العراق فريسة
التجزئة بحيث يهيمن الشيعة على الجنوب والسنّة على الوسط والاكراد على
الشمال. ومن شأن هذه الصيغة اذا اكتملت، أن تزرع الاضطراب في الشرق
الاوسط، خصوصاً في منطقة الخليج الغنية بالنفط.
المحلل الاسرائيلي عوزي بنزيمان وجه سؤالاً الى ايهود
اولمرت يستوضحه عن أهداف التدريبات المتواصلة في المنطقة الشمالية. وهو
يحذر من افتعال حرب مفاجئة يشنها الجيش بغية الانتقام من "حزب الله"...
أو بغية نسف التسوية السلمية التي تشجعها واشنطن كمخرج لتمديد وجودها
العسكري في العراق.
التوضيحات التي أطلقها أولمرت زادت المسألة غموضاً كأنه
يهيئ الرأي العام لاحتمال اندلاع حرب قريبة مع لبنان وسوريا. وحجته ان
تقرير هيئة الاركان يشير الى شن حرب تباشر بها سوريا مع "حزب الله" صيف
2007، وان التأهب على الجبهتين الشمالية والجنوبية، ليس اكثر من موقف
دفاعي للرد .....ومع ان واشنطن تستبعد حدوث مثل هذه المفاجأة، الا ان
ايهود اولمرت يعرف جيداً ان الحرب قد تكون مرساته الوحيدة لإنقاذ سفينة
الحكم من الغرق!
* صحافي لبناني مقيم في لندن
المصدر : مقتطفات - النهار - السبت 30 كانون الأول 2006 - المرسل :
سعيد مدحت
|