ثقافة النقد في مجتمعاتنا

 

سيد يوسف

 

قد علمنا فماذا بعد النقد؟

حين يحدث حراك سياسى يكثر فى البلاد ما يسميه الأحرار نقدا ، أو يسميه النظام الحاكم فوضى، أو يسميه المحسوبون على ذلك النظام تشويها للبلاد.

والحق أن العبرة بالمسميات لا بالأسماء  وبالحقائق والمعاني ، لا بالمباني : فكما لن تكون الربا جميلة لو تبدل اسمها بالفائدة فلن تكون الدكتاتوريات مقبولة لو تسمت باسم جميل أو تذرع المدافعون عنها بأنها للحفاظ على أمن البلاد، وقد علم الفاقهون أن العبث بالبلاد أضحى بيد من يعبثون بالدستور.

نقول العبرة بالمسميات لا بالأسماء وقد كثر فى بلادنا النقد فهل له من آخر لا سيما وأن الناس قد تشبعت بهذا النقد دون أن يجدوا له ثمرة فى الحياة السياسية أو الاقتصادية؟!

ثقافة النقد فى مجتمعنا

يعيب كثير من المهتمين بالشئون العامة أن لغة الحوار فى الشعوب العربية لم تحقق وظيفتها من كونها وسيلة فاعلة من وسائل التعبير الحضارى عن الذات وبدلا من أن يحقق الحوار وظيفته فى تحقيق التواصل والتقارب بين عالم الأفكار، ومحاولة إشاعة مفاهيم التنوير المعرفي و التبادل الثقافي وغير ذلك.

ولكن كيف ينضج الحوار مع الآخر فى حين لم ينضج بعد الحوار مع الذات؟ أم كيف ينضج حوار لم يعرف فيه المتحاورون آداب الاستماع ؟ أم كيف ينضج حوار يتسم بإلقاء الأكاذيب والتهم جزافا ؟ أم كيف ينضج حوار بين ذوى الشخصنة؟ أم كيف ينضج حوار نهتم فيه بإبراز نقاط الاختلاف عن نقاط الاتفاق؟ أم كيف ينضج حوار صاحبه فى خصومة حادة مع الإخلاص وحسن الخلق والتجرد والتسامح بله صداقته القوية للتعصب وانتهاج منهج الجدال ؟

أم كيف ينضج حوار ينتهج صاحبه فلسفة الإقصاء حيث عدم رؤية الآخر وعدم تقدير مواقفه وآرائه والنظر إليه على أنه خائن وعميل ولا يملك رؤية لحلول أزمتنا بل والنظر إليه على أنه يتاجر بقضايا أمته لمجد شخصي مع اتهام واضح فى النيات ينفيه أهل ثقافة الإقصاء والتعامل مع الآخر وكأنه جرثومة يجب وأده واستئصاله وحدوث ما يمكن تسميته بفوبيا  حديث أو منطق الآخر؟

تمييز سهل ميسور

إذا المرء لم يفرق بين حق وباطل فما انتفاعه بعقله يومئذ، إن القاصرين لا يميزون بين نقد الأخطاء التى تطفح بها مجتمعاتنا لا سيما السياسية والاجتماعية، وبين شتم الأنظمة الحاكمة والتي لها أحوال فرط تهدد أمن البلاد، وبين تشويه صورة بلادنا وإبرازها فى صورة قميئة.

والحق أن التمييز بين الثلاثة سهل ميسور إلا على الذين فى عقولهم شيئا أو فى قلوبهم عمى، ولقد استبان لى أن  الصنف الأول فاهم عاقل نرجو له الاستمرار ، وأن الصنف الثانى متسرع  نخشى له التحول للصنف الثالث، وأما الصنف الثالث فهو نموذج بشرى قميء  بالفعل.

لماذا ننتقد أكثر مما ندعو للإصلاح؟

لا يكفى أن يكون الحق وسيما لينال الإعجاب والتقدير إذ لابد له من قوة ليدفع بها الباطل وأكاذيبه، وإن الأكاذيب لتنتشر- عبر الإعلام الزائف-  محدثة دويا يؤثر فى نفوس الذين لا يملكون وعيا جيدا،  ومن ثم بات مطلبا ملحا للذين يدعون للإصلاح أن يراعوا البنية النفسية والعقلية للذين يخاطبونهم من أجل تحريك تلك الكتل الصامتة تمهيدا للتغيير المنشود.

ولا خوف من النقد طالما كان بأدواته الموضوعية وطالما كان فى الدائرة الخاصة به وهذا متاح للذين لديهم رؤية جيدة للواقع فهما وقراءة وتشخيصا وعلاجا، و فالنقد مرحلة لازمة فى بداية أى نهضة أو دعوة للخلاص من الفساد بل إن الحتمية التاريخية تعلمنا أن هذا النقد يستمر ويستمر حتى تستقر بعض قواعده ثم يهدأ لتحل مكانه الدعوات المتعددة للإصلاح ...

وتتعدد هذه الدعوات بدوافع شتى إلى أن تستقر على دعوة عامة ثم يلتف حولها الكثير من الناس حتى تصير ذات مطالب شعبية  ومعبرة عن نبض الشارع...دون أن يلغى ذلك الدعوات الأخرى.

والإصلاح يقتضى بداية تعرية النظام الفاسد الذى لا يملك مؤهلات  البقاء أو إدارة البلاد بشكل جيد فضلا عن الحكم...وهذه التعرية يسهم فيها الجميع بجهد تتنوع دوافعه لكن فى النهاية فإن الهدف العام المعلن هو تعرية وفضح الأنظمة المستبدة تمهيدا لعزلها مع مد يد العون للذين يعرون الأنظمة الفاسدة، ومد يد العون للذين يسعون نحو الإصلاح الحقيقى، وعدم تثبيط همم الذين يعملون أو يكتبون أو يفضحون تلك الأنظمة، ولا شك أن هناك آراء أخرى ولكن حتى لو كانت متعارضة متى ما استبان لنا حرصها على أمن البلد وكونها تصب فى مصلحة مقاومة الفساد فمرحبا بها أو ببعضها ...إننا حين نطالب أن نفعّل من مؤسساتنا الحاكمة لنكون دولة مؤسسات  لا دولة أشخاص فإننا لا نبتدع فى مطلبنا فكل أنظمة العالم الحر لا تكترث بالأشخاص وإنما المؤسسات.

إنها سنة ثابتة: نقد ثم عمل

وبناء على ما سبق نقول إنها سنة ثابتة قلما تتبدل : النقد وتعرية الظالمين أولا ثم مرحلة العمل ثانيا فلا ينزعجن أحد من كثرة النقد وتشبع الرأى العام به فهى مرحلة لازمة وثابتة عند أى تغيير، هكذا تاريخ الأمم وسيروا فى التاريخ لتعرفوا ذلك عن كثب.

قد علمنا فماذا بعد النقد ؟

يخطىء كثير من الكتاب حين يظنون أن ثمة تغييرا فى الوعى العام لمجموع الناس فى بلادنا عبر مقالة تكتب هنا أو هناك هى على روعتها سوف تُنسى مع الزمن ذلك أن الوعى لا يتغير بمقالة أو بكلمة وإنما هو ذو مراحل متعددة تبدأ بالمعرفة ثم بالوجدان والعاطفة ثم بالعمل والنزوع وهذى المراحل الثلاثة تحتاج إلى عمل منظومى  وسنوات طوال .

والحق أن تلك المفردة( أقصد قد علمنا فماذا بعد النقد؟) ليست عامة أو مطلقة فهى فرض لم تختبر صحته بعد ُ، ذلك أننى أزعم أننا ما زلنا فى مرحلة التعريف ولم نتجاوز بعدُ مرحلة الوجدان والانفعال وهو الأمر الذى – إن صدق فرضه- يعنى أن قطف الثمرة قبل نضجها يعنى فشل محقق فليس من الحكمة فى شيء أن أطالب طفلا فى الابتدائية أن يحل معادلة رياضية من الدرجة الثالثة مثلا.

وبناء على ما سبق نوصى بالصبر على  غير الفاهمين، والعمل المنظومى الواعى وعدم استعجال قطف الثمرات، وتلك مهام الفاقهين من حركات المجتمع المدنى .

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور.

المصدر: المثقف-24-11-2006