أميركا والعراق: نحو استراتيجية خروج مسؤولة
هنري كيسينجر
ما دامت كل نقطة انعطاف تظهر في فترة تاريخية محددة، فان اختبارا أساسيا لصنع السياسة يتمثل في توقيت اتخاذ القرارات الحاسمة. ويرتبط الجدال حول الانسحاب من العراق على مثل هذا السؤال. ويبدو ان الادارة ونقادها يتفقون على ان بداية الانسحاب الاميركي سيؤشر الى نقطة انعطاف. وتبقى قضايا غير محسومة تلك المرتبطة بسرعة ومدى الانسحاب وما اذا كان يتعين أن يتم عبر تحديد جدول زمني أو استراتيجية تسعى الى صياغة الأحداث. وعلى الرغم من ان القضية غالبا ما توضع في اطار تقني فإنها ليست قضية آليات الانسحاب. بل ان الجدال يجب ان يدور حول العواقب، أي ما اذا كان الانسحاب سيدرك، في خاتمة المطاف، باعتباره تراجعا مفروضا أو كناحية من خطوة معد لها بعناية وحكمة لصالح الأمن الدولي. وأيا كانت وجهة النظر إزاء قرار شن الحرب في العراق والطريقة التي بدأت بها والاستراتيجية التي أديرت بها، وأنا ممن دعموا القرار الأصلي، فان على المرء ان يكون واضحا بشأن عواقب الفشل. فإذا لم نترك عند رحيلنا سوى دولة فاشلة وفوضى، فان العواقب ستكون كارثية بالنسبة للمنطقة وموقع اميركا في العالم. ذلك ان ظاهرة «الجهاد» هي اكثر من افعال الارهابيين الأفراد الممتدة من بالي عبر جاكارتا الى نيودلهي وتونس والرياض واسطنبول والدار البيضاء ومدريد ولندن. انها تدفق آيديولوجي بالمقارنة مع الأيام الأولى للاسلام التي يسعى فيها الجناح الراديكالي داخل الاسلام الى الفوز على قيم العلمانية والتعددية والمؤسسات الغربية حيثما يعيش المسلمون. وتغذي آليتها القناعة بأن الضحايا في تقلص ويفتقرون الى ارادة المقاومة. ويشكل أي حدث يبدو مؤكدا لهذه القناعات الآلية الثورية. فإذا ما نصب نظام أصولي في بغداد أو في أي من المدن الكبرى الأخرى مثل الموصل أو البصرة، أو اذا ما ضمن الارهابيون أرضا واسعة للتدريب واستخدامها ايضا كمأوى لهم، أو اذا ميزت الفوضى والحرب الأهلية نهاية التدخل الاميركي، فان الجهاديين سيحققون زخما حيثما يكون هناك عدد كبير من السكان المسلمين أو حكومات اسلامية غير اصولية. ولن يسلم بلد يمكن أن يصله الجهاد من عواقب الانتفاضات الناجمة عن ذلك والتي يمكن ان يثيرها الكثير من مراكز التعصب التي تشكل الجهاد. وستنهي الهزيمة المصداقية الاميركية في مختلف انحاء العالم. وسيحل الضعف بزعامتنا وبالاحترام الموجه لآرائنا بشأن القضايا الاقليمية من فلسطين الى ايران. وستزول ثقة دول كبرى أخرى، مثل الصين وروسيا وأوروبا واليابان، بإسهامات أميركا. وستكون وصفة الجهود العسكرية موجزة حتى قبل ان تحل علينا أزمات أكبر. ويتعين على النقاد أن يواجهوا حقيقة ان حصيلة كارثية تحددها العواقب العالمية وليس الخطاب الداخلي. وعلى نحو مماثل فانه سيجري الحكم على الادارة، في خاتمة المطاف، بالنتائج لا بالخطط. وقد قدم الرئيس بوش استراتيجية معقولة فهي تعترف بان أخطاء ارتكبت وتؤكد أن السياسة قد تغيرت ارتباطا بالتجربة. ولكن تزايد المطالب بشأن جدول زمني محدد يضغط على نوعية الصبر الذي يعلمنا التاريخ انه شرط مسبق لإلحاق الهزيمة بمقاتلي حرب العصابات. وحتى الاستراتيجية الملائمة يمكن شلها عبر تنفيذها بطريقة متعجلة جدا. تباينت وجهات نظر المعارضين والمتحدثين باسم الادارة الاميركية فيما يتعلق بوضع الوحدات العسكرية العراقية حال استكمال تدريبها محل القوات الاميركية. وتركز تباين وجهات النظر حول تحديد القوات العراقية ومدى استعدادها. ولكن حتى اذا افترضنا ان تدريب القوات العراقية نفذ حسبما هو مقرر وأدى في نهاية الأمر الى تخريج وحدات عسكرية موازية من ناحية التدريب والتجهيز للقوات الاميركية التي ستحل محلها، وهو افتراض مشكوك فيه، فلا بد من التساؤل حول ما اذا كان سحب عملية خفض القوات العسكرية الاميركية موازية لعمليات تدريب القوات العراقية. وتتمثل وجهة النظر الافضل في أنه يتعين النظر الى الوحدات العراقية الأولى المدربة تدريبا كاملا باعتبارها اضافة الى قوات التحالف وليست بديلا عنها، مما يجعل من الممكن القيام بعمليات هجومية متسارعة تستهدف البنية التحتية لرجال حرب العصابات. ويمكن لمثل هذه الاستراتيجية ان تساعد في معالجة النقص في القوات البرية الذي أبطأ العمليات المضادة لرجال العصابات خلال عمليات الاحتلال. وبينما تبدو متطلبة لمزيد من الوقت فانها يمكن أن تقدم، في الواقع، فرصا افضل لتحقيق استقرار البلد وتوفر بالتالي مخرجا أكثر جدارة بالاعتماد عليه. الأداء القتالي للوحدات العسكرية الجديدة لا يمكن ان يقاس بمعيار التدريب فقط. ذلك ان المقياس الأول والأخير يعتمد على مدى اقتناعهم بالأهداف السياسية النهائية. بمعنى آخر، الهدف الذين يقاتلون من أجله يحدد ما اذا سيقاتلون على نحو جيد. أي استراتيجية مسؤولة للخروج من العراق يمكن ان تظهر فقط من مجموعة عناصر سياسية وأمنية متداخلة في مقدمتها صلابة الحكومة الوطنية الموجودة. فالتقدم الحقيقي يتطلب بالضرورة ان تنظر القوات المسلحة العراقية الى نفسها كونها مسؤولة في الأساس عن حماية المصالح الوطنية وليس المصالح الطائفية او الاقليمية. هذه القوات ستصبح بالفعل قوات وطنية عندما تصبح قادرة على القتال في المناطق السنية وتصبح لديها إرادة حقيقية لنزع سلاح الميليشيات، خصوصا في المناطق الشيعية التي تتحدر منها غالبية المجندين. ليس ثمة شك في ان قرار الشروع في سحب قوات عسكرية اميركية من العراق سيكون له أثر نفسي عميق، خصوصا على البنية السياسية في العراق. ترى، هل سينظر الى خفض القوات الاميركية، الذي من المقرر ان يبدأ عقب الانتخابات العراقية هذا الشهر، كخطوة اولى في عملية سحب سريع وكامل للقوات الاميركية أم كمرحلة لعملية متفق عليها تعتمد على وجود تقدم سياسي وأمني ملموس في المسرح العراقي؟ الأمر المؤكد هو ان عملية سحب القوات الاميركية على نحو متعجل وغير مدروس سيجعل من الصعوبة بمكان عملية توسيع قاعدة أي حكومة عراقية في الوقت الذي تشعر فيه انها فقدت سندها العسكري الرئيسي. اذا حاولنا الاستفادة من بعض جوانب تجربة فيتنام، فإن أعداد القوات العائدة يمكن ان تصبح في مثل هذه الحالات محكا لمدى نجاح سياسة الولايات المتحدة. الضغوط الرامية الى مواصلة او تسريع خطوات انسحاب القوات الاميركية من العراق ربما تتزايد على نحو قد يؤدي الى ضياع معيار قياس ما يتحقق من تقدم على الصعيد السياسي. ويمكن القول في هذا السياق ان التقدم الذي قد يحدث في هذا الجانب ربما يؤدي الى اندلاع تنافس بين الفصائل والطوائف العراقية التي تريد ان تنسب الى نفسها شرف تسريع خطوات سحب القوات الاميركية من الاراضي العراقية وذلك من خلال الانقلاب علينا اما سياسيا او بواسطة بعض من ميليشياتها. تدخلت الولايات المتحدة في العراق لحماية أمن المنطقة وأمن نفسها. لكنها لا تستطيع استكمال هذه العملية بدون الحصول على بعض الإجماع الدولي. المنافسة والانفعالات بين الفصائل العراقية ستتواصل، وسيظهر نظام اقليمي بشكل او بآخر من خلال تفاعلنا مع هذه القوى او بسبب غيابنا. وبهذا المعنى لا يمكن ان تنسحب الولايات المتحدة سياسيا وإنما سيحدث تغيير في شكل وجودها العسكري، ويجب عليها باستمرار ان تضع في الاعتبار ضرورة الجمع بين الأمني والسياسي فيما يتعلق بالأهداف. ما يمكن قوله هنا هو ان الدول المعنية بأمن العراق واستقراره، أي الدول التي ترى في ان امنها واستقرارها يتأثر بأمن العراق واستقراره، يجب ان تمنح نوعا من المشاركة في هذا الجانب خلال المرحلة المقبلة. ويبقى القول ان الوقت قد حان ليس فقط لتحديد معنى مستقبلنا في العراق وإنما ايضا لتوسيع قاعدة التشاور السياسية في المنطقة بكاملها. ويمكن في هذا الإطار إنشاء مجموعة عمل سياسية عقب إجراء الانتخابات العراقية تضم دولا اوروبية رئيسية حليفة للولايات المتحدة الى جانب الهند (بسبب عدد سكانها المسلمين) وباكستان وتركيا وبعض دول الجوار العراقي. وكانت الجهات المعنية قد صادقت على إجراء نقاش سياسي بين السفير الاميركي لدى بغداد والسلطات الايرانية بشأن العراق، إلا ان هذا الخطوة لا ينبغي ان تكون الوحيدة في الاتصال بدول الجوار العراقي. اما مهام مجموعة الاتصال، فيجب ان تشتمل على المشورة بشأن التطور السياسي للعراق وتوسيع قاعدة شرعية الحكومة العراقية وعكس المصلحة الدولية الواسعة في استقرار العراق وتقدم المنطقة بصورة عامة. وبمرور الزمن يمكن ان تصبح هذه المجموعة منبرا يعنى بمعالجة قضايا اخرى لها آثارها على استقرار منطقة الشرق الاوسط مثل جذور أسباب التطرف الاسلامي. *خدمة « تريبيون ميديا سيرفيسيز » - ( خاص بـ «الشرق الاوسط» ) المصدر : ICAWS التاريخ: 12-11-1426 هـ
|