نهاية الزرقاوي...هل تكون بداية جديدة؟
خليل علي حيدر
إذا كان هلاك كبير الإرهابيين في بلاد الرافدين أبومصعب الزرقاوي نقطة تحول في الحرب على الإرهاب بالعراق، فإن تراث هذا المجرم كان نقطة تحول كذلك في أساليب القتل وإثارة الفتنة الطائفية والاعتداء على الآمنين والأبرياء. ولا شك أن هذه التركة الدامية الآثمة ستبقى مجللة بالخزي والعار في تاريخ المنطقة لسنوات طويلة قادمة. كشف الزرقاوي عن فكره الظلامي الدامي منذ رسالته الأولى إلى شيخه بن لادن، عندما هاجم بوقاحة رجال الدين السُنة العرب والأكراد متهماً إياهم بالخنوع والمسالمة، واستخدم أسوأ التعابير الطائفية لتهديد الشيعة، ولم يكتف بذلك بل طلب من مولاه الكامن في أفغانستان "الإذن"، كي يضرب الشيعة بالسُنة، ويثير الجماعات والطوائف، ويختلق الانقسامات والمشاحنات وسفك الدماء، كي يستمر جهاده في بلاد الرافدين! وكان في هذه المصارحة بلا شك صاحب العبقرية والسبق التاريخي في حياة المجتمعات العربية المعاصرة. فكل الانعزاليين والطائفيين في مختلف الأزمات العربية والإسلامية كانوا من قبل يخططون في الخفاء، ويعبرون عن مشاعرهم الطائفية على استحياء، حتى جاء أبومصعب الزرقاوي! لم يكتف الزرقاوي بتكفير الشيعة ونفض الغبار عن الميول العدوانية في التوجه السلفي المتشدد، الذي بذل عقلاء العرب والمسلمين جهوداً مضنية للتخلص منها وعزلها، بل بادر إلى رسم سياسة "جهادية" محورها إفناء الشيعة ونسف دور عبادتهم ومراكز تجمعهم، مبتدئاً بالنساء والأطفال والفقراء والبؤساء! وإذا قُتل أحد من غير المقصودين، فهو إما آثم يستحق القتل أو بريء سيشهد جنان النعيم! فالتفجير العشوائي عدل في الحالين! ثم من قال إن "مجاهد الزرقاء" كان يموت حباً في السُنة؟ أما كان على استعداد لأن يفني ثلث أهل الأردن في سبيل الثلثين؟ وأن يصفي كل الجماعات العلمانية والإسلامية في العراق وربما دول الخليج فور انتصاره على كفار الرافضة؟ كان الزرقاوي إذن في واقع الأمر وحشاً عقائدياً رهيباً، مشحوناً بكل انحرافات التطرف الديني وتجاربه السياسية الفاشلة وفتاواه الباطلة وكان يحلم، مثل شيخه في "تيرابورا"، بأن يحكم من خلال فوهة رشاشه وحزم متفجراته العراق، وربما خارج العراق، بالطبع بعد أن يقضي على كل من يعتبرهم أعداءه... وما أطول القائمة! وكان يعتقد أن العالم المعاصر يمكن إخضاعه لعصور الظلام والتعصب، من خلال تصفية الأبرياء والقتل على الهوية، وفرض ثقافة السكين والرشاش والديناميت والمفخخات. تماماً كان ظن بن لادن، ولا يزال أتباعه على نفس الضلال، بأن مجموعة من الأحداث الإرهابية التي تصاحبها تغطيات إعلامية مجلجلة، كفيلة بأن تقلب موازين القوى، وتجعل كافة دول العالم تحت رحمة جهازه! واليوم، وقد قتل الزرقاوي ومن معه شر قتلة، وبن لادن لا يزال متوارياً مع طبيبه ومستشاره الإعلامي، تاركين العرب والمسلمين يدفعون أفدح الأثمان في أوطانهم وخارجها، من مالهم وسمعتهم ومكانتهم ومصالحهم، اليوم ليس لدي أي شك في أن الزرقاوي سيتحول في أنظار الملايين من أبناء العالم الإسلامي إلى شهيد خالد ينافس في المكانة بن لادن..."الشهيد الحي". لم يتحمل العرب والمسلمون مسؤولية أعمال بن لادن في سبتمبر 2001، واتهموا اليهود والاستخبارات وما أسموه بالمجمع العسكري الصناعي الأميركي وتجار السلاح. وظل الكُتّاب العرب ومعهم الإعلام العربي يشكك طويلاً في حقيقة أبومصعب الزرقاوي، وبأنه "كائن خرافي"، كالغول والسعلاة أو "حمارة القايلة" في التراث الكويتي، وأن الإعلام الأميركي يركز عليه وعلى الإشارة إليه تغطية لسياسات معينة ولأهداف معروفة! وحتى لو برزت بعد الزرقاوي شخصية إرهابية أشد فتكاً بالأبرياء، وتراكمت الأدلة على هويته وجرائمه، فإن لدى كتابنا وإعلامنا فناً عجيباً في تبرير الأمور وسَوْق البراهين ولّيِّ الحقائق. هذا ما فعلناه على امتداد خمسة عقود ونيف، منذ أن تركنا طرق التنمية والتطور الصحيحة المضنية البناءة، وصرنا نجري خلف كل مغامر ونمجد كل طاغية ونتحمس لكل متلاعب بمصيرنا! ترك الإعلام العربي كل شيء وكل جريمة ارتكبها الرجل، وصار همه كشف "حقيقة التزامن" بين مقتله وبين الانتهاء من تشكيل الحكومة العراقية، وكذلك بوادر الاتفاق في الأزمة الذرية الإيرانية. وفجأة اكتشف هذا الإعلام "صفقة سرية"، ولو لم يكن الحدث قد تزامن مع هذه التطورات، لما تغير الكثير في تحليل الإعلام العربي للأمور، الذي كان سيجد خيوطاً أخرى على أية حال. محطة "الجزيرة" التلفزيونية سبقت الآخرين في الالتقاء بأقارب "المجاهد الشهيد" ورفاقه في الأردن، وفي مسقط رأسه وفي كل مكان. وكما نسيت هذه المحطة وكذلك المحامون والإعلاميون العرب، جرائم صدام وآلام ضحاياه، وصار همهم منصباً على "الاحتلال الأميركي"، فإن هؤلاء جميعاً لا يأبهون قليلاً أو كثيراً، بتضحيات الشعب العراقي منذ أبريل 2003، ولا تهمهم على الإطلاق عمليات التصويت والانتخاب ولا مشاركة ملايين العراقيين في العملية السياسية، بل ولا تدخل جيران العراق من أجل تخريب كل ما يمكن تخريبه! هل ثمة منطق أو مغزى أخلاقي لأن يقوم أي جهاز إعلامي بالتعاطف مع شخص أُعدم لأنه قتل مئة أو ألفا أو مئة ألف شخص؟ هل ثمة ما يبرر الالتقاء بأهله وأصدقائه واستدرار العطف والترحم عليه؟ هل هناك أساس أخلاقي للإعلام العربي، وهل في ثقافتنا السياسية، وحتى القانونية، تعريف لجريمة القتل والإجرام السياسي والتصفية المذهبية؟ هل واجب الإعلام توعية الجمهور أم المتاجرة بالدين والسياسة ومختلف المشاعر؟ الإعلام العربي للأسف الشديد يغوص عبر بعض مؤسساته، في المزيد من التطرف واللاواقعية السياسية والانتهازية المهنية. لا أحد، ربما باستثناء بعض المحطات العراقية، يهتم بضحايا جرائم الزرقاوي. بآلاف مؤلفة من القتلى واليتامى والأرامل والمشوهين والمعوقين والمختلين عقلياً ونفسياً. الجمهور العربي المريض، والذي زاده الإعلام مرضاً، يريد أن يرى "بطلاً" و"مجاهداً" جديداً على المسرح العراقي وربما العربي، يصارع الأميركان ويهز الأركان! المثقفون والكتاب العرب الذين ابتلانا الله بهم، سيكونون أول من "يفوق" من الصدمة غداً، وسيقولون إن "المقاومة العراقية" مستمرة رغم هذه الانتكاسة البسيطة، وسيقول الإسلاميون المتعاطفون إن "راية الجهاد ماضية"، وسيقول الإسلام السياسي الأردني إنه ضد إرهاب الزرقاوي... "في الأردن"! هل نهاية الزرقاوي هي بداية عودة التلاحم العراقي والتفاف مختلف فئات الشعب حول مهام البناء الشاقة القادمة؟ هل تترك قوى الإرهاب الخارجية، وقوى التخريب الداخلية البلاد تنعم بالهدوء والسكينة؟ هذه بعض غوامض ومجهولات المستقبل، وما ستكشف عن قوادم الأيام! و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور. الصدر: الإتحاد الإماراتية-11-6-2006
|