نهاية الأيديولوجيا
جميل مطر
قبل سنوات، بل عقود، كتب دانيال بيل، عالم سياسي أمريكي، يتنبأ بأن الأيديولوجيا في طريقها إلى الفناء. كان بيل يتصور مثل كثيرين غيره من علماء السياسة والسياسيين في الغرب أن الأيديولوجيا هي الشيوعية، أما غير ذلك فهو خيارات للبشر نتيجة حسابات واقعية ومصالح حقيقية. كان صعباً، في ذلك الحين الاقتناع بمنطق بيل وزملائه، فالشيوعية كانت ملء البصر والعقل في كافة أنحاء أوروبا الشرقية وروسيا ووسط آسيا والصين وكوريا وإثيوبيا وفيتنام وكوبا، وكانت أيضاً تداعب خيال زعماء اليمن الجنوبي ومثقفين كثيرين في شتى أنحاء العالم العربي. وفي الوقت نفسه، كانت القومية متأججة في إيران وتركيا والعالم العربي وتحت السطح في دول أوروبا، ورأى فيها البعض رد فعل طبيعيا على زحف الشيوعية من ناحية والزحف الاستعماري الغربي من ناحية أخرى، وفي حالتنا أضيفت الغزوة الصهيونية إلا أن بيل لم يكن مفكراً عادياً، فقد كان رغم اعتقاداته الواقعية، ينظر إلى بعيد، أي أبعد من واقعه.. كان واحداً من صانعي الرؤى وطلائع فكر نهاية التاريخ أي انتصار فكرة حتى ابتلاع بقية الأفكار، وكان من طلائع فكر الاستعداد لحروب كونية يفجرها اختلاف أساليب حياة وثقافات، أي حروب وصدامات بين الحضارات. في الحالتين، حالة نهاية التاريخ وحالة حروب الحضارات، كان لابد من الإيمان بداية بزوال الأيديولوجيا، أو على الأقل إنكار وجودها ولو تطلب الأمر استخدام القوة أو الحصار أو الضغط أو إقامة التحالفات لتحقيق هذا الإنكار ثم تثبيته، فالاعتراف بالانتماء أيديولوجياً يعني بالضرورة الالتزام بالمواقف والتشدد في السياسات والارتفاع فوق مشكلات الأقليات والأعراق والطوائف. ومن ناحية أخرى تدفع الأيديولوجيا المنتمين إليها إلى افتراض أن للآخر خصماً كان أو حليفاً أيديولوجياً وإن أنكر وجودها. في وقت من الأوقات، حوربت الجامعة العربية لأن اجتماعاتها تنعقد في ظل اقتناع أعضائها المعلن أو الكامن بالقومية العربية، وآلت الولايات المتحدة على نفسها منذ وقت طويل عدم الاعتراف بالجامعة العربية لهذا السبب. وعندما قيل للأمريكيين إن القومية كأيديولوجيا انفرطت، وإن أغلب العرب أصبحوا “واقعيين ويؤمنون بحرية السوق والتجارة وأولوية المصالح على المبادئ والحقوق التاريخية والقانونية” بدأ الأمريكيون يتعاونون مع الجامعة كجهاز بيروقراطي يستفاد منه عند الضرورة في تخفيف صياغة بيان سياسي أو تشديد لهجة بيان تنديد بالإرهاب أو بغيره أو لتعريب مواقف غير عربية في الأساس. وعلى كل حال لم تحقق الجامعة للغرب هذه الرغبة جميعها، ربما لأسباب “قومية” لا يريد أحد الاعتراف بوجودها. وعلى كل حال لم تأت الريح بما تشتهي سفينة دانيال بيل، ففي روسيا مثلاً، رحلت الشيوعية وانتشى علماء السياسة الأمريكية برحيلها، إلا أنهم تجاهلوا أنه بعد سنوات من الضياع والفساد والجريمة وسقوط مئات الألوف من أبناء الشعب الروسي موتى من الجوع وإدمان الكحول، وقع “انقلاب أبيض” في الكرملين وجاء إلى الحكم رجل أنعش القومية الروسية واستعاد للكنيسة الأرثوذكسية دورها في مجتمع ما قبل البلشفية، لأنه عرف أنه لن ينقذ روسيا من الغرق إلا وجود أيديولوجيا ما، وطالما أن الشيوعية لم تعد نافعة ولا تستعاد على كل حال، فإنه لجأ إلى الشعور الوطني وقومية الشعب الروسي وإلى المؤسسة التي ربطت تاريخها بتاريخ الأمة الروسية، وهي الكنيسة الأرثوذكسية، وبهذا المزيج الأيديولوجي العلماني الديني بدأت عملية الإنقاذ. وفي الصين وقع شيء مماثل مع اختلاف في التفاصيل الدقيقة، إذ كان المسؤولون الصينيون ولأسباب مهمة لا يملكون القدرة ولا الإرادة لإنكار وجود أيديولوجيا شيوعية، فالحزب الحاكم في الصين يفقد شرعيته للحكم إن تنكر لعقيدته التي أقامته. ومن ناحية أخرى كان لابد من إنعاش قومية صينية لتعوض قصور الالتزام بالأيديولوجيا الشيوعية ولتحفيز الناس على خوض المرحلة الانتقالية، واضطرت القيادة الحاكمة إلى افتعال أزمات مع اليابان، الخصم التاريخي للشعب الصيني بسبب الحاجة الماسة في تلك اللحظة إلى غطاء في شكل مبرر وطني يحمي الحكومة من غضب الفلاحين وقود النظام الاقتصادي الجديد. ومع ذلك يصر علماء السياسة في الغرب على تأكيد أن الأيديولوجيا ماتت في الصين. يتجاهلون، ويتجاهل أغلبنا، حقيقة أن الأمريكيين، حكومة وشعباً، يتحركون وفق الأيديولوجيا الرأسمالية. إن ما يبشر به الرئيس بوش وحكومته ويشن الحرب باسمه هو الأيديولوجيا الأمريكية بجوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. يتجاهلون ويتجاهل أغلبنا أحياناً أن حكومات متعددة في آسيا والشرق الأوسط لا تزال، أو صارت تستند في شرعيتها إلى العقيدة الإسلامية، أي إلى أيديولوجيا، والأمريكيون أنفسهم أقاموا حكومة دينية في العراق الذي قالوا إنهم حرروه من “القومية”. أي شجعوا أيديولوجيا على حساب أيديولوجيا أخرى. إننا نفكر أيديولوجياً أحياناً من دون أن نعترف بذلك، حتى البراجماتيين يفكرون من منطلق أيديولوجي، فالبراجماتية عندما تكتمل نظاماً فكرياً أو في الممارسة تصير في حد ذاتها التزاماً يقترب من الالتزام الأيديولوجي. قرأت أخيراً لأحد زعماء الواقعية في التحليل الاجتماعي والسياسي يحلل مسار فكر مسيرة العولمة عبر التاريخ، مصراً على أن تحليله لا يستند إلى منهجية أيديولوجيا معينة. جاء في التحليل الممتاز أن الموجة الأولى للعولمة التي رافقت حملات الغزو البحري للدول الاستعمارية القديمة فتحت باب الهجرة إلى الولايات المتحدة بأعداد هائلة وكان دافعها القمع لأسباب دينية إلى جانب الفقر الشديد. وفي الموجة الثانية التي بدأت في أواسط القرن التاسع عشر ثم نهايته تحرك في اتجاهات مختلفة أكثر من 10% من سكان العالم، وكانوا في أغلبيتهم العظمى من الفقراء. أما في الموجة الثالثة، وهي التي نعيش أيامها، فلم تزد نسبة المهاجرين في كافة أنحاء العالم على 3% فقط من سكان العالم، حتى بدت عولمة اليوم عولمة في عالم ساكن. وتتكاثر الأسئلة، هل نفهم من هذا التحليل أن الفقر، وهو أصل الهجرات التاريخية المعروفة، ينحسر، أم أن المجتمعات الإنسانية في شكل الدول اكتمل تشكيلها وصارت ترفض إضافات من أجناس وأعراق وأديان أخرى، أم أن الأسوار ودفاعات الدول صارت عقبة أخطر وأشد مشقة من ركوب البحار والمحيطات؟ يتجاوز القائل بهذا التحليل الحقيقة عندما يؤكد أنه لا ينطلق في تحليله من بدايات أيديولوجيا، فالتحليل يعتمد منهجاً أيديولوجياً، ويخدم وإن من دون قصد هدفاً أيديولوجياً. و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور. المصدر: الخليج الإماراتية-1-6-2006
|