خيانة الديمقراطيـة‏...

 

 

 صلاح الدين حافظ

 

أشم رائحة الخيانة‏..‏ خيانة الديمقراطية‏,‏ بل ألمسها وأراها رأي العين‏,‏ تبدو واضحة‏,‏ وهو أمر مزعج بكل المقاييس‏,‏ لأننا بدأنا الطريق نحو الديمقراطية ونريد أن نمضي قدما للأمام دون أي تراجع‏..‏ وقد كان الشوق إلي الديمقراطية‏,‏ والانعتاق من قيود النظم الاستبدادية الفاسدة‏,‏ والانطلاق نحو الحرية والإصلاح والحكم الرشيد‏,‏ هو الحلم الذي راودنا جميعا‏,‏ طوال السنوات الماضية‏,‏ خصوصا مع بدايات الألفية الثالثة‏,‏ ومع نجاح مجتمعات عديدة في العالم‏,‏ في التحول اللافت من الديكتاتورية إلي الديمقراطية‏,‏ دون دفع ثمن باهظ‏...‏ لكن بعد هذه السنوات تحول الحلم‏,‏ إلي ما يشبه الوهم‏,‏ وها نحن نراوح مكاننا‏,‏ نتقدم خطوة ونتراجع خطوات‏,‏ نسمع حديثا سياسيا وإعلاميا صاخبا‏,‏ حول الإصلاح الديمقراطي‏,‏ فنصدقه ونسانده‏,‏ لكننا حين نراجع الحسابات‏,‏ لا نكاد نجد تقدما عمليا أو نلحظ إنجازا واضحا‏,‏ ينقلنا بالفعل‏,‏ وليس بالقول‏,‏ إلي مكانة أفضل‏,‏ مقارنة بدول أخري أقل شأنا‏,‏ مع كامل تقديرنا لبعض الخطوات الإصلاحية الجزئية‏,‏ التي جرت أخيرا‏...‏ ولذلك ندعي أن قضية الإصلاح الديمقراطي الأصيل‏,‏ النابع من حاجتنا نحن‏,‏ والمصنوع بأيدينا وأفكارنا‏,‏ تتعرض لخيانة عظمي‏,‏ لن تؤدي إلا إلي إصابة الحلم الديمقراطي في مقتل‏,‏ علي المديين القريب والبعيد علي السواء‏,‏ ونزعم أن هناك ثلاثة أطراف أساسية‏,‏ تورطت في هذه الخيانة‏,‏ هي علي التوالي‏,‏ نظم الحكم القائمة‏,‏ والأحزاب السياسية والقوي الليبرالية التقليدية‏,‏ ثم الولايات المتحدة الأمريكية داعية التبشير بفرض الديمقراطية ونشرها‏,‏ حتي ولو قسرا‏,‏ لقد أسهمت الأطراف الثلاثة في عرقلة أو إبطاء التقدم الديمقراطي‏!‏

-  أولا‏:‏ حين نقرأ الواقع عبر العقد الأخير‏,‏ لا نكاد نجد حكومة أو دولة‏,‏ أو نظاما حاكما‏,‏ في المنطقة العربية‏,‏ قد حقق إنجازا رئيسيا وجوهريا‏,‏ بالانتقال الفعلي‏,‏ إلي نظام ديمقراطي حقيقي‏,‏ ولكن هناك بالطبع خطوات هنا‏,‏ ومتغيرات هناك‏,‏ تحققت‏,‏ سميت إصلاحا ديمقراطيا‏,‏ وجري تسويقها داخليا وخارجيا‏,‏ علي أنها حولت البلاد إلي واحة للديمقراطية‏...‏ ومع تقديرنا للإصلاحات الديمقراطية الجزئية‏,‏ الجارية في بعض البلاد مثل مصر والمغرب ولبنان الكويت واليمن والأردن‏,‏ إلا أن واقع الحال والقياس بالمعايير الدولية والمحلية المتعارف عليها‏,‏ يقودنا إلي استنتاج أساسي‏,‏ هو أن الإصلاح الجزئي المتردد‏,‏ هدفه التسويف والمماطلة والتأجيل‏,‏ وقطع الطريق علي إنضاج الشوق الشعبي للديمقراطية‏,‏ وإجهاض التحول الحقيقي نحو انطلاق الحريات الأساسية‏,‏ وذلك بإعادة استغلال الواجهات الانتخابية‏,‏ المزورة في معظم الأحيان‏,‏ غطاء وحيدا وشعارا أوحد للديمقراطية المزعومة‏...‏ وقد كانت كل الآمال مركزة علي مصر‏,‏ صاحبة الخبرة والمؤسسات السياسية والتجربة الديمقراطية القديمة‏,‏ لكي تكون هي الرائدة الجديدة‏,‏ في التحول الجوهري إلي الديمقراطية‏,‏ اتساقا مع ميراثها وخبرتها وإمكاناتها‏,‏ وتناغما مع التحولات العالمية الكبري في هذا المجال‏,‏ إلا أن الواقع يدل علي أن البيروقراطية المصرية التاريخية لا تزال صاحبة اليد العليا‏,‏ التي تعرقل التحول الديمقراطي المنشود‏,‏ وهي التي تجهض بشراسة كل السياسات المعلنة لإطلاق الحريات الأساسية‏,‏ وصولا إلي استخدام القبضة الأمنية في تحقيق أهدافها‏...‏ وها هي النتائج واضحة‏,‏ حيث التراجع والتباطؤ الواضحين‏,‏ وحيث التسويف والتأجيل والترحيل هي السياسة المعتمدة من القمة إلي القاع‏,‏ وحيث ما يعلن عنه اليوم‏,‏ يلغي أو يؤجل غدا‏,‏ وعلي سبيل المثال‏,‏ فقد كان الأمل في بدء التحول الديمقراطي الحقيقي خلال عامي‏2005‏ ـ‏2006,‏ لكننا لاحظنا أن سياسة خطوة للأمام وخطوتين للخلف لا تزال حاكمة متحكمة‏,‏ فالإصلاحات الدستورية الموعودة‏,‏ تأجلت إلي صيف عام‏2007‏ وفقا لما أعلن‏,‏ وبينما تم تمديد حالة وقانون الطوارئ لعامين‏,‏ انتظارا لصياغة وإقرار قانون الإرهاب‏,‏ والانتخابات البرلمانية التي جرت‏,‏ تعرضت للانتقاد والاتهام الموروث‏,‏ بالتزوير والتزييف والطعن‏,‏ في قانونيتها وشرعيتها‏,‏ وقوانين مهمة مثل قانون استقلال السلطة القضائية‏,‏ وقانون تحرير الصحافة وإسقاط العقوبات السالبة للحرية في قضايا الرأي والنشر‏,‏ وقانون النقابات المهنية‏,‏ لا تزال مع غيرها تتعرض للمماطلة والمساومة والتسويف‏...‏ وإن دل ذلك علي شيء فهو يدل علي أن الصراع بين دعاة الحرية والديمقراطية‏,‏ من ناحية‏,‏ والمستفيدين ببقاء واستمرار تحالف الفساد والاستبداد من ناحية أخري لا يزال لم يحسم بعد‏,‏ بشكل جذري‏,‏ لا في القمة ولا في القاع‏,‏ بما يتيح الفرصة لتحالف الفساد والاستبداد‏,‏ لاحتمالات الانتصار‏,‏ في ظل الإمكانات المتاحة أمامه‏,‏ عبر تحكمه في شرايين السلطة والاقتصاد ورسم السياسات وتنفيذها‏!‏

‏- ثانيا‏:‏ ومقابل ذلك‏,‏ ولأسباب عديدة‏,‏ خانت القوي والأحزاب السياسية القائمة‏,21‏ حزبا شرعيا‏,‏ قضية الديمقراطية وتقاعست عن التضحية من أجلها‏,‏ وفشلت فشلا ذريعا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة‏,‏ وخفت صوتها‏,‏ وقد كنا نعول عليه‏,‏ وانكفأت التيارات والأحزاب القومية واليسارية علي فشلها‏(‏ نموذج حزب التجمع والحزب الناصري‏)‏ وارتدت الأحزاب الليبرالية القديمة علي نفسها‏,‏ فمارست عادتها في الانشقاق والصراع علي المناصب‏(‏ نموذج ما جري في حزب الوفد‏)‏ وفشلت محاولات تشكيل جبهة تحالف واسع بين كل هذه الأحزاب لمواجهة متطلبات التحول الديمقراطي واستحقاقاته‏...‏ وبينما انصرف الحزب الوطني الحاكم‏,‏ في لملمة أحواله‏,‏ ومواجهة إخفاقه الدفين‏,‏ في الانتخابات البرلمانية الأخيرة‏(‏ وقد حصل عمليا علي‏33%‏ فقط‏),‏ وفي استعادة الشاردين والمفصولين‏,‏ لتدعيم أغلبيته البرلمانية‏,‏ فإن الرابح الأساسي في لعبة الصراع‏,‏ هو جماعة الإخوان المسلمين‏,‏ غير المعترف بها قانونيا‏,‏ التي فرضت نفسها سياسيا وواقعيا‏,‏ بفوزها بثمانية وثمانين مقعدا في البرلمان‏,‏ في سابقة فريدة‏,‏ أخافت جميع القوي السياسية‏,‏ سواء التي ركبت الحكم من جديد‏,‏ أو تلك التي تراجعت وانتكست‏,‏ ولا تزال تشكو الحكومة وتتهمها بأنها المسئول الوحيد في فشلها‏,‏ وفي نجاح الإخوان‏...‏ وبقدر ما يتشكك كثيرون‏,‏ ومعهم كل الحق‏,‏ في مدي إيمان الإخوان بالديمقراطية‏,‏ واستمرارهم علي نهجها وفكرها من الآن فصاعدا‏,‏ بقدر ما استغلت الحكومة والبيروقراطية المتحالفة مع الفساد والاستبداد‏,‏ نجاح الإخوان في البرلمان بهذا الشكل الصادم والمفاجئ‏,‏ مبررا جديدا‏,‏ لتعويق الإصلاح واجهاض نواياه‏,‏ والإصرار علي المماطلة والتسويف‏,‏ جنبا إلي جنب مع إظهار الأنياب والأظافر الأمنية‏,‏ تواجه الجميع بإجراءات قمعية‏,‏ بما في ذلك قمع حق التظاهر والتعبير عن الرأي‏,‏ المكفول دستوريا للمواطنين‏,‏ ضمن الحريات الأساسية المعروفة‏...‏ وبينما انتكست القوي والتيارات والسياسات‏,‏ حتي النيات والتعهدات‏,‏ بانطلاق الإصلاح الديمقراطي الحقيقي‏,‏ وليس الجزئي‏,‏ ركب الإخوان الموجة‏,‏ وصاروا المعادل الظاهر والمعارض الرئيسي للحكم‏,‏ وإن ظل ذلك ظاهريا‏,‏ فقد نجحت قوي التغيير الجديدة في دخول الساحة بقوة وفرض كلمتها علي التحولات القائمة والقادمة‏,‏ وتمثل ذلك في تحرك القضاة والصحفيين وعدد من المهنيين والحركيين والنشطاء الجدد‏,‏ الذين طرحوا مطالبهم ورفعوا شعاراتهم‏,‏ عبر مسالك وطرق مختلفة‏,‏ بما في ذلك التظاهر المعرض للقمع والاعتقال‏.‏

وأظن أن علينا أن ننظر بجدية وواقعية جديدة إلي قوي التغيير الجديدة هذه‏,‏ ليس فقط لأنها تمثل النخب‏,‏ وربما المهن‏,‏ ولكن لأنها تعبر عن طموح قوي للتحول الديمقراطي‏,‏ ولأنها تتجاوز فشل الآخرين‏..‏ وخيانتهم للديمقراطية‏,‏ ولأنها تملك الجرأة في التحرك‏,‏ والوضوح في الرؤية‏,‏ والرغبة في التغيير المستقاة من شوق شعبي عارم‏,‏ للإصلاح الديمقراطي الحقيقي والشامل‏,‏ خصوصا بعد أن تسببت الأزمة الاقتصادية الاجتماعية‏,‏ بتجلياتها الواضحة‏,‏ في اتساع الفقر وارتفاع البطالة‏,‏ وانفجار الأسعار‏,‏ وضيق الرزق‏,‏ فدهمت طبقات الشعب المختلفة‏,‏ باستثناء تلك الشريحة الصغيرة الراكبة فوق قمة الهرم‏,‏ تلاعب الجميع وتستغل الجميع‏,‏ وتتحصن بالفساد والاستبداد الخائن بالضرورة للديمقراطية فكرا وأسلوبا‏... .‏

‏- ثالثا‏:‏ بقي الخائن الأكبر‏,‏ الذي ضحي بالمبادئ والقيم والأفكار الليبرالية‏,‏ ونعني الولايات المتحدة الأمريكية وتوابعها في الغرب‏,‏ ونظن أن الخيانة الأمريكية للإصلاح الديمقراطي‏,‏ واضحة وضوح الشمس‏,‏ وأسبابها ونتائجها عديدة‏,‏ ترتبط بالفكر والاستراتيجية الأمريكية الرئيسية‏...‏ قضية الخيانة الأمريكية للديمقراطية في بلادنا‏,‏ معقدة متشعبة‏,‏ تستدعي تفصيلا أكبر وتدقيقا أكثر‏,‏ ولذلك سنؤجل حديثها إلي الأسبوع المقبل‏,‏ بإذن الله‏...‏ .

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور.

المصدر: الأهرام المصرية-31-5-2006