حلم الاندماج الأوروبي... وخطر "إعادة التأميم"!
تشارلز إي. كوبشان
واجه التجربة الرائدة لأوروبا في ما يخص اتحادها السياسي تحديات وعقبات عدة، حيث سجلت الأحزاب القومية المتوجسة من الاندماج مع الاتحاد الأوروبي في بريطانيا وبولندا نقاطاً عديدة الشهر المنصرم. كما أن مشروع الدستور الأوروبي، الذي رفضته فرنسا وهولندا، قد تم وأده في المهد. وعلاوة على ذلك، ثمة توجه متصاعد نحو سياسات الحمائية التجارية؛ فخلال الآونة الأخيرة، اتخذت الحكومات الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبولندية تدابير وإجراءات الهدف منها حماية صناعاتها الوطنية من الاندماج مع شركات أجنبية. وفي قارة طالما راودها حلم إلغاء الحدود الوطنية، تتسبب مشاعر العداء تجاه المهاجرين –ولاسيما أولئك القادمين من بلدان إسلامية- في ظهور الحدود الوطنية من جديد. وبالتالي، يمكن القول إن الحياة السياسية عبر أوروبا تشهد نوعاً من إعادة التأميم، وهو ما يضع عملية الاندماج الأوروبي في أسوأ أزمة تشهدها منذ الحرب العالمية الثانية. والحقيقة أن الأوروبيين لن يكونوا الخاسرين الوحيدين في حال استمر الاتحاد الأوروبي في التعثر، ذلك أن الأميركيين قد يجدون أنفسهم مضطرين لمواجهة عودة الحساسيات القومية إلى أوروبا، إضافة إلى اتحاد أوروبي ضعيف وعاجز عن أن يقدم للولايات المتحدة الشريك الاقتصادي والاستراتيجي الذي تحتاجه. ثمة أربع قوى تساهم في إضعاف ركائز الاتحاد الأوروبي. أولاً، تُكافح دول الرفاه في أوروبا من أجل الصمود في وجه قوتي الاندماج الأوروبي والعولمة، حيث يبدي مواطنوها مقاومة في وجه هاتين القوتين، مشددين على ضرورة أن تعيد الدولة التأكيد على سيادتها لصد أي تغيير غير مرحب به. فعندما رفض الفرنسيون مشروع الدستور الأوروبي، حمل العديد منهم الاتحاد الأوروبي، الذي ينعتونه بـ"الليبرالي جداً"، مسؤولية مشكلاتهم وأزماتهم الاقتصادية. وهذا الربيع، خرج المحتجون إلى شوارع فرنسا لعرقلة إصلاحات في قانون العمل. ومن جهتهم، يشتكي الإيطاليون من أن اعتماد العملة الأوروبية "اليورو" قد أدى إلى حالة الركود التي يوجد عليها اقتصاد بلادهم. وتجد بعض الحكومات الأوروبية، وبخاصة في فرنسا وإيطاليا، نفسها عالقة في الوسط، بين ضغوط الأسواق التنافسية من جهة، وضغوط الناخبين المتمسكين بالامتيازات الحالية والمتوجسين من المستقبل المجهول من جهة ثانية. أما النتيجة، فمأزق سياسي وركود اقتصادي، وهو ما يزيد من غضب الجمهور وتشككه في مزايا الاندماج الأوروبي. ثانياً، أدى تضافر عاملي توسيع الاتحاد الأوروبي وتدفق المهاجرين المسلمين إلى إضعاف الهويات الأوروبية التقليدية وخلق انشقاقات اجتماعية جديدة، حيث بات الاتحاد الأوروبي يضم اليوم 25 دولة عضواً تتباين مستويات التنمية فيها. كما يعيش داخل دوله نحو خمسة عشر مليون مسلم، في وقت تطرق فيه تركيا، بسكانها البالغ عددهم سبعين مليون نسمة، باب الاتحاد. وعلاوة على ذلك، يعاني العديد من مسلمي أوروبا التهميش والإقصاء، وهو ما يشكل تربة خصبة للراديكالية والتشدد. وفي هذا الخضم، تحاول أغلبية سكان الاتحاد الأوروبي، التي لم تعتد على مجتمع متعدد الأعراق وتخشى تهديداً إسلامياً قد يأتي من الداخل، التراجع وراء الراحة والرفاهية الوهمية التي توفرها الحدود الوطنية. ثالثاً، تنحو السياسة الأوروبية تدريجياً نحو الشعبوية، وذلك في ضوء نظرة الناخبين إلى المؤسسات الأوروبية والوطنية باعتبارها مؤسسات نخبوية ومتفككة. ففي فرنسا، بات حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف يحظى بشعبية غير مسبوقة، حيث أظهر استطلاع للرأي أجري مؤخراً أن ثلث المستجوَبين اعتبروا أن الحزب المناوئ للمهاجرين ينسجم مع "انشغالات الشعب الفرنسي". وفي بولندا، اختار الناخبون مؤخراً "ليخ كاسينسكي" رئيساً لهم، وهو الذي مافتئ يشدد على أن "ما يهم البولنديين هو مستقبل بولندا، وليس الاتحاد الأوروبي". رابعاً وأخيراً، تفتقر أوروبا إلى قيادة قوية قادرة على بعث نفس جديد في الاتحاد. فالحكومات في لندن وباريس وبرلين وروما ضعيفة ومنشغلة بناخبيها الغاضبين والمنقسمين على أنفسهم. وإضافة إلى ذلك، يزيد تعاقب الأجيال الأمور سوءاً. فبالنسبة للأوروبيين الذين عاشوا الحرب العالمية الثانية والفترة الصعبة التي تلتها، يعتبر الاتحاد الأوروبي بمثابة مصل مقدس لماضي أوروبا الدموي. والحال أن هذا الجيل بصدد الرحيل، والشباب الأوروبي الحالي ليس لديه ماضٍ يسعى إلى الهروب منه –ولا رغبة له في الاتحاد السياسي. يمكن القول إن الاتحاد الأوروبي لا يفتقر، على الأقل بالنسبة للوقت الراهن، سوى لبوصلة تدله على الوجهة الصائبة، فهو لم يبلغ مرحلة التفكك بعد. ثم إن موته ليس أمراً محتماً، ذلك أن الاتحاد الأوروبي مرَّ على مدى ستة عقود بفترات عصيبة مماثلة كالتشكيك في القدرات الذاتية وحالة الركود. غير أن الخطوات الجريئة والعاجلة وحدها يمكنها أن تعيد الاتحاد الأوروبي إلى مساره. ولذلك، فعلى القادة الأوروبيين أن يكفوا عن التظاهر كما لو أن شيئاً لم يحدث ويقروا بخطورة الأزمة السياسية الراهنة. عليهم أن يستبدلوا مشروع الدستور الأوروبي المثير للجدل بوثيقة أصغر وأوضح تضم عدداً من الأحكام والمقتضيات الرئيسية –مثل تعيين رئيس للاتحاد ووزير للخارجية وإصلاح هيئات صنع القرار، ذلك أن اتحاداً قوياً هو الوحيد الذي من شأنه أن يجعل الاتحاد الأوروبي مناسباً لمواطنيه. وعلى الأوروبيين أن يواجهوا حقيقة أنهم وصلوا إلى منعطف حاسم. والحقيقة أنهم ما لم يعملوا بسرعة على إعادة إحياء مشروع الاتحاد السياسي والاقتصادي، فإن واحداً من أهم إنجازات القرن العشرين سيكون في خطر. أستاذ الشؤون الدولية بجامعة "جورج تاون"، وعضو مجلس العلاقات الخارجية الأميركي و كل ذلك بحسب المصد المذكور. المصدر: الإتحاد الإماراتية- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست" -31-5-2006
|