الحالة العراقية: وهل هي بالفعل والتعريف حرب أهلية ..؟
أمير طاهري
تشير ملاحظاتي الى انه منذ سقوط صدام حسين في ابريل 2003 أثير هذا السؤال مرة كل شهرين. وظهر على غلاف كل مجلة اخبارية في العالم، كما كان مضمون ما لا يحصى ويعد من البرامج التلفزيونية والإذاعية في اوروبا والولايات المتحدة. ولكن الإجابة هي «لا» نفسها التي قلتها عندما خصص تلفزيون هيئة الاذاعة البريطانية برنامجا له بعد اسابيع من سقوط صدام حسين. وبالرغم من ذلك، من الضروري اعادة النظر في بعض الاسباب وراء تلك «اللاء» الحازمة. وقد حصل السؤال على مصداقية جديدة في أوائل هذا الشهر، عندما لمح رئيس وزراء العراق السابق إياد علاوي الى ان بلاده في حرب اهلية، خلال مقابلة في هيئة الاذاعة البريطانية. وعلاوي هو واحد من اكثر الناس قدرة ضمن نخبة القيادة العراقية الجديدة، ويمكنه ادعاء تحمل مسؤولية قيادة بلاده عبر عملية انتقال صعبة. ولكن حقيقة انه لم يحصل على اصوات كافية في الانتخابات العامة الاخيرة لتولى منصب رئيس الوزراء، وبالتالي يتحدث من منطلق خيبة الامل، وهو رد فعل انساني للغاية. وخلال محاولة فهم أي موقف سياسي من الضروري استخدام التعبيرات السليمة. وبغض النظر عما اذا كان العراق في حالة حرب من عدمه، فإن ذلك لا يؤثر فقط على تحليلنا للموقف ولكن ايضا على السياسات المطلوبة للتعامل معها. لقد استخدم تعبير الحرب الأهلية للمرة الاولى الخطيب والسياسي الروماني شيشرون لتحديد نزاعات مسلحة داخل الجمهورية. والصفة الاساسية لمثل هذه النزاعات هي انها تضع مجموعة من المواطنين الرومانيين في مواجهة بعضهم البعض، بدون تدخل مسلح من قوى خارجية. وقبل خمسة قرون، اعتبر ثوسيديد الحرب البيلوبونسية نزاعا مسلحا بين قطاعين من المجتمع اليوناني، ولكنه لم يعتبرها حربا اهلية لأنها كانت تجري بين دولتين عدوتين وليس بين مجموعات متنافسة من المواطنين داخل نفس الدولة. وبالرغم من ان التاريخ الروماني مليء بالحروب داخل حدود الجمهورية، وفي الامبراطورية بعد ذلك، فإن عبارة الحرب الاهلية تستخدم لوصف حروب محدودة. وأول حرب اهلية رومانية كانت بين لوسيوس كورنليوس سولا وغايوس ماريوس عام 88/87 قبل الميلاد. وخسر سولا الحرب ولكنه عاد للقتال مرة اخرى، وانتصر، في حرب اخرى ضد منافسه في عام 82/83 ولكن حرب يوليوس قيصر ضد الطبقة الارستقراطية تحت قيادة بومبي في عام 49/45 قبل الميلاد ، اصبحت حربا اهلية تقليدية ونموذجا للنزاعات المستقبلية بنفس الطبيعة ، فيما لم تكن روما القوة الوحيدة في العالم القديم للتعرض للحروب الاهلية. فبلاد فارس ايضا تعرضت لعدة حروب اهلية، بدأت بالحرب التي نشبت بين دارا والمجوسي الذي تخفى كبرديا ابن كورش العظيم في عام 521 قبل الميلاد. ولكن ربما أشهر الحروب الفارسية كانت بين خسرو برويز وقائد جيشه السابق الطموح بهرام تشوبين في عام 590 بعد الميلاد. ولذا فإن اول سمات الحرب الاهلية هي أنها تجري بين معسكرين متنافسين من المواطنين الذين ينتمون لنفس الدولة. والسمة الثانية هي ان يكون المعسكران المتنافسان بنفس العدد والقوة في بداية النزاع. فإذا لم يكن الامر كذلك، فإن ما يجري يوصف بأنه ثورة من اقلية ضد اغلبية وليس حربا اهلية. (التاريخ الروماني مليء بمثل هذه الثورات معظمها تمرد العبيد الذي قاده سبارتاكوس وقضى عليه كراسوس) . السمة الرابعة تتلخص في ان النزاع يجب ان يكون خارج نطاق سيطرة الدولة المتنازع عليها ولا يهدف الى تقسيمها الى وحدات صغيرة. لذا، فحملات الانفصال لا يمكن وصفها بأنها حرب اهلية. الحرب الاهلية تحدث انقساما في المجتمع على مختلف مستوياته، حتى داخل الأسر، ويصبح الشقيق معاديا لشقيقه. أخيرا، يجب ان لا يكون هناك تدخل أجنبي من هذا الجانب او ذاك، رغم ان الأطراف المتنافسة في غالبية الحروب الأهلية تؤيد الجانب الذي تعتقد انه الأقرب الى مصالحها. التطبيق الصارم لهذه القواعد يعني ان الكثير من النزاعات المسلحة التي يطلق عليها «حرب اهلية» يجب وضعها ضمن تصنيفات اخرى. النزاع الذي ادى الى المواجهة بين جنوب وشمال الولايات المتحدة خلال الفترة 1861ـ 1865 يطلق عليه كثيرا «الحرب الاهلية الاميركية»، ولكن يمكن القول ان ما حدث كان تمردا انفصاليا اكثر منه حربا اهلية. وفي واقع الأمر يطلق عليه في اللغة الفرنسية «حرب الانفصال». ولايات الجنوب لم يكن لديها رغبة في فرض نموذجها على الشمال، لكنه قاتل بغرض إقامة دولة منفصلة في الجنوب. وفي التاريخ القريب يمكن إطلاق «الحرب الأهلية» على بضعة نزاعات فقط. إذا اخذنا في الاعتبار القواعد المشار اليها. النزاع بين «الأبيض» و «الأحمر» في روسيا خلال الفترة 1918ـ1921 كان حربا أهلية لأن الشروط الخمسة تنطبق عليه. وينطبق ذات الشيء على الحرب الأهلية الاسبانية (1936-1939)، فضلا عن النزاع المسلح الذي كان طرفيه الحزب الشيوعي والكومينتاغ في الصين خلال الفترة 1945-1949. وبالمقارنة، لا يمكن وصف النزاع المسلح الذي استمر عقدا من الزمن في الجزائر بأنه «حرب اهلية». فعلى الرغم من انه كانت هناك مواجهة بين رؤيتين مختلفتين، فإن المعسكرين ليسا متساويين من ناحية الحجم، كما ان استخدام الدين كأرضية اساسية للتمرد الذي قام آنذاك ضد الدولة اضعف موقفه. يضاف الى ذلك ان القوى المناوئة للدولة لم تنجح في ان يكون لها رسالة واحدة، دعك من قيادة موحدة. النزاع المسلح في اليمن عام 1994 صنف ايضا في خانة الحرب الأهلية، لكنه في واقع الأمر كان تمردا انفصاليا من الجنوب ضد الشمال. يمكن النظر الى النزاع اللبناني الذي استمر من عام 1975 حتى عام 1991 كحرب اهلية، إذ على الرغم من ان المواجهات دارت بين مجموعات عرقية ودينية في مختلف الجهات، إلا ان خوض الحرب كان على اساس اسباب سياسية وكان هناك معسكران. هناك عدة نزاعات في القارة الافريقية، خصوصا النزاع في بيافرا ضد الفولاني في عقد الستينات، والنزاع في السودان بين الجنوب المسيحي والشمال المسلم، والتطهير العرقي الذي نفذه الهوتو ضد التوتسي في رواندا في العقد الماضي، يجب ان نعتبرها حروبا اثنية او دينية أو انفصالية اكثر منها حروبا اهلية. وبالعودة الى العراق : يمكن القول انه الآن ساحة لأربعة نزاعات متوازية وفي بعض الأحيان متضاربة. النزاع الأول بين قوى العراق القديم، وعلى وجه التحديد بقايا نظام البعث، وقوى العراق الصاعد. النزاع الثاني يدور بين عراقيين ينتمون الى خلفيات وايدولوجيات مختلفة ضد قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة. اما النزاع الثالث، فيدور بين المقاتلين غير العراقيين وبين قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة وقوى العراق الجديد. النزاع الرابع يدور بين العرب الشيعة والعرب السنة، حيث يتدخل المقاتلون الأجانب في معظم الأحيان لصالح السنة. كي يشهد العراق حربا اهلية من الضروري ان تجتمع هذه النزاعات الاربعة في نزاع واحد يخوضه معسكران متنافسان او اكثر على ان تكون قوة المعسكرين متوازية في البداية، وان يشارك فيها مواطنون عراقيون لا تقسمهم الخلافات الاثنية او الطائفية وإنما تفرق بينهم رؤيتان سياسيتان متباينتان بشأن البلاد. علاوي على خطأ: العراق ليس في حرب اهلية، وعلى الرغم من انه لا يمكن استبعاد اندلاع حرب اهلية، فإن ورود هذا الاحتمال لا يزال بعيدا. تؤدي إلا إلى مزيد من الدمار المادي والنفسي وإلى تعميق مشاعر الغضب الناتج عن الظلم البين، فإنه دعوة إلى الفوضى وإلى استمرار وتعميق نزاع ذي طابع استعماري واضح في زمن تصورنا فيه ـ أو توهمنا ـ أن الاستعمار قد حمل عصاه وولى نهائيا بفكره وفلسفته عن العالم الجديد الذي يبشرون، بينما نحن نؤمن به ونريد أن نستخلصه من بؤر الظلام التي ما زالت تتمسك بها نفوس مريضة. اكتب هذا بعد ليلة قضيتها في طائرة عادت بي من موسكو إلى القاهرة، ومازال هناك الكثير مما يقال ويجب أن يقال عن موضوعات كثيرة تشغل الفكر والبال كلها تتسابق من العقل إلى القلب إلى طرف القلم، يجمعها كلها القلق والأمل، الخوف والثقة، وقد رأيت من الطائرة نور الصباح يغزو ظلام الليل، رمزا لكل ما يدعو الإنسان إلى أن يعمل من أجل أن يكون المستقبل أفضل مما هو كائن ولو كره الكارهون في فلسطين، في العراق، في السودان، في لبنان، وفي كل مكان يوجد فيه إنسان يؤمن بالحق والعدل. المصدر : الشرق الأوسط – 31-3-2006
|