أصدقاء روسيا وأعداؤها وسياساتها ... على مشارف 2020

 

ألكسندر شاتيلوف

 

 

حدثت، في المدة الأخيرة، تغيرات مهمة على الساحة الدولية يتوقع أن تخلف أثراً في الصراعات المقبلة ونتائجها. وأهم التغيرات كثرة الأقطاب، واشتداد المنافسة والصراع على الموارد المختلفة وأسواق تصريف السلع، وغلبة النزوع الى استخدام القوة العسكرية، وشيوع احتساب المصالح الوطنية محل إيلاء الأولوية للقيم الإنسانية العامة، وتصدير نموذج الديموقراطية الأميركية. والى ذلك، تراجع الصراع الأيديولوجي ليحل محله النهج البراغماتي في إدارة العلاقات الدولية انطلاقاً من مفهوم المنفعة والمصالح المتبادلة. واكتملت «الأحلاف الاستراتيجية»، وتلاها عقد التحالفات التكتيكية، وظهر عجز أوروبا السياسي والعسكري عن دعم القتال دفاعاً عن النفس والحلفاء. وفي الأثناء، تمضي الولايات المتحدة على الدفاع عن نفسها قطباً أحادياً. وتروج النخب الغربية والأميركية خصوصاً لاحتمال نشوب حرب عالمية ثالثة في ظل موجة التسلح الحديثة والقوية وفي هذه المناخات ترى روسيا أنها أصبحت، من جديد، دولة اقتصادية عظمى قوية، وقطباً مهماً في عالم متعدد الأقطاب وهذا ما ذهبت اليه وثيقة «التطور الاجتماعي - الاقتصادي الطويل الأجل» الروسية في رصدها أفق 2020.

وعلى رغم آراء المتشائمين، تملك روسيا مزايا تنافسية مهمة أبرزها السلاح النووي، وعضوية مجلس الأمن الدولي الدائمة (مع حق النقض)، والمساحة الشاسعة والغنية بالموارد المتنوعة، والانتصار على الفاشية ودالتها المعنوية في بلدان العالم الثالث جراء صراعها مع الولايات المتحدة على مدى خمسين عاماً، والاحتياطات الضخمة من مصادر الطاقة الاستراتيجية. وعلى رغم ذلك، ليس سهلاً على روسيا أن تصارع، وحيدة الولايات المتحدة والصين. فهي مضطرة الى المناورة السياسية، والى خوض حرب مواقع. وإذا كان الدفاع القاسي عن المصالح الوطنية، وعن مكانة الدولة العظمى، ضرورياً، فلا ريب في أن تكلفته السياسية والعسكرية والاقتصادية كبيرة. والمهم أن تتلافى روسيا الخسائر الجسيمة، وإقحام نفسها في حرب كبيرة يترتب عليها إجهاد سياسي واستعمال وسائل هجومية مشحونة بالهزيمة وبينما نجحت روسيا، الى حد كبير، في التخفف من الأزمة السياسية والاجتماعية - الاقتصادية، ودخلت مرحلة مراكمة الثروة، فلا حاجة بها الى إخافة العالم بتكشيرة الدب الروسي. ويحسن بها أن تتحرك بثقة من موقع القوة. ولا يستحيل عليها ارتقاء مكانة الدولة العظمى من غير انتهاج سياسة صارمة وعدوانية قائمة على الحيلة والمراوغة. فروسيا ليست جاهزة، بعد، لمثل هذه السياسة وهناك مبدآن أساسيان يتقيد بهما منطق السياسة الخارجية الروسية، هما: العمل على مراكمة الميزات والأفضليات الصغيرة، مع تثبيت منتظم للنتائج التي يتم الحصول عليها، والمناورة ضد المزاحمين الضعفاء. والحق أن استعادة السيطرة الاقتصادية والسياسية على المناطق التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق، ومنع تقدم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي صوب المصالح الحيوية الروسية، ضرورة لا غنى عنها. وهذه الاستراتيجية تعني تقييد السيادة العسكرية والسياسية لبلدان المناطق هذه، ووضعها تحت رعاية روسيا، وإنشاء مناطق عازلة على أراضيها تحمي روسيا من حلف شمال الأطلسي، وتبعده من الحدود الروسية وتتصدر أوكرانيا وأذربيجان المسعى هذا. فأوكرانيا مسألة مبدئية في نظر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومن طريقها تعمل القوتان على تصديع مبادئ الوحدة السلافية، وتحرضان النخب الوطنية على مقاومة النفوذ السياسي والاقتصادي الروسي. وهذه النخب لا تنكر حاجتها الى التعاون الاقتصادي مع روسيا، إلا أنها تنساق تدريجاً الى الغرب. وهي تتولى زرع الروح الأوروبية في سكان هذا البلد، وتعمم «المزاج البرتقالي» والقومية الأوكرانية. والصراع على أوكرانيا يفرض التوسل بأسلوب صارم وبراغماتي تجاه قيادتها، وتغييراً كاملاً لأدوات التأثير الروسية فيها، والتأهب حين تدعو الحاجة الى جعلها دولة فيديرالية.

وأذربيجان قطب شراكة حيوي في حقل الطاقة. ومكانتها الجغرافية والسياسية حاسمة. وهي، الآن، في دائرة نفوذ الولايات المتحدة التي تملك، في قطاعها النفطي، استثمارات كبيرة. ولا تزال القيادة الأذرية شريكة في مبادرات سياسية واقتصادية معادية لروسيا (خط باكو - تيبليسي - جيحان النفطي، وغيره). وعلى رغم هذا، فالرئيس إلهام علييف ليس خصماً أيديولوجياً لروسيا، على خلاف فيكتور يوشينكو وميخائيل ساكاشفيلي. والنخبة الأذرية لا تعلن ميلها الصريح الى الغرب. وفي روسيا تقيم جالية أذرية كبيرة ومؤثرة وأذربيجان في حاجة الى دعم روسيا في مسألة إقليم ناغورني كاراباخ الأذري الملحق بأرمينيا ويتفق والمصالح الروسية إقامة علاقات ببعض الشركاء من التجمعات والتكتلات الدولية البعيدة من الولايات المتحدة، مثل المؤتمر الإسلامي وغيره، أو تولي إنشاء أحلاف جديدة أو دعم أحلاف قائمة أخرى. ويسعها القيام بتنازلات اقتصادية وعسكرية - تكنولوجية لقاء تحالفات طويلة الأجل.

وسياسة المناورة على مواطن ضعف الولايات المتحدة تفترض النفخ في بؤر مقاومة التوسع الأميركي ومواضيع التوتر في مناطق متفرقة من العالم (أميركا الجنوبية، افريقيا، إيران، كوبا) ابتغاء استدراج جذب قوى الخصم والمنافس الأساسي. وعلى روسيا أن تعد العدة السياسية والاقتصادية والعسكرية لمواجهة المنافسة القوية والشاملة المتوقعة في السنوات العشر القادمة وفي وسع روسيا استثمار مصادر الطاقة، واحتياج أوروبا إليها، في المناورة الاستراتيجية. فتتعهد تصدير النفط والغاز الروسي من غير انقطاع لقاء حياد الاتحاد الأوروبي السياسي، وتعاونه الاقتصادي. وعلى رغم توقيع روسيا خارطة الطاقة، فإن الأوروبيين غير جاهزين للمواجهة القاسية، وينبغي إرغامهم على التفاهم. وتوجيه جزء من مصادر الطاقة شرقاً، نحو الصين فتغذية اقتصادها يبعث قلق الأوروبيين. فهم يقدرون، والحال هذه، قطع بعض المصادر هذه عنهم. فتُحمل النخب الأوروبية والأميركية على إرجاء الكلام على الديموقراطية، وعلى قبول حوار عملي مع روسيا. وأما استعمال مصادر الطاقة الروسية في التهويل، وإلزام أوروبا الانحياز الى روسيا، فقد ينجح تكتيكياً. ولكن حلف الأطلسي يرى في حجب النفط والغاز الروسيين عن أوروبا إعلان حرب ويسع روسيا كذلك التوسل بتناقضات الاتحاد الأوروبي الداخلية، الى إقامة علاقات مميزة ببعض دوله تحت عباءة دور الديانة الأرثوذكسية، أو في إطار الانتماء المشترك الى العالم السلافي. ومن الأدوات الديبلوماسية دعم مزاج بعض الشعوب المسالمة، كالتشيكيين وغيرهم من معارضي مرابطة عسكريين أميركيين على أراضيهم واحتمال انقسام «الناتو»، وإنشاء الفيلق الأوروبي العسكري المستقل، يمهد لمشاركة الروس فيه ويدعو تعظيم الرأسمال السياسي الروسي روسيا الى تولي قيادة العالم الثالث، وحلف «المستضعفين والمهانين» في مواجهة أميركا، في سياق النهوض السياسي والاقتصادي في الريف العالمي. والحفاظ على الاستقرار السياسي، وتحقيق معدلات اقتصادية مرتفعة، شرطان لا غنى لروسيا عنهما في سعيها الى الاضطلاع بدور قوة عظمى عالمية. فالسياسة الخارجية الفاعلة والمناسبة لا تنفصل عن سياسة داخلية مؤاتية تسند السياسة الخارجية وفي السياسة الداخلية يحسن انتهاج طريق توحيد المجتمع حول القيادة الروسية، إنجاز مهمات التطور الاجتماعي - الاقتصادي على أساس التحديث المتصل، وإنشاء جيش القرن الواحد والعشرين القادر على تنفيذ أعقد المهمات في الداخل والخارج، وتحسين عمل البيروقراطية، وزيادة فاعليتها وقدرتها، وإعداد نخبة من الأطر المتمكنين من تكنولوجيا القرن، وتعزيز دور الإعلام في بث آراء القيادة الروسية في الداخل والخارج.

*(نائب المدير العام لمركز تحليل حال روسيا السياسية، وأستاذ في الأكاديمية المالية الاتحادية)، عن «بوليتيتشيسكي كلاس» الروسية

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً ودون تعليق .

المصدر :daralhayat.co m