هلْ أعـلن فوكوياما :

                          مُـنـظِّـر المحافظين الجدد نهاية عـصر الإصـلاح والدمـقرطة ؟

 

د. خالد الدخيل 

 

نشرت الإتحاد الإماراتية لـ رأي د. خالد الدخيل مقالا بعنوان : فوكوياما يعلن نهاية لحظة "المحافظين الجدد" نصه : 

لم تعد الأجواء السياسية في العاصمة الأميركية، واشنطن دي سي، هذه الأيام تتعاطف مع، أو تخشى سطوة "المحافظين الجدد". التيار الذي يهيمن على إدارة بوش الحالية، ويرسم سياساتها الداخلية والخارجية يجد نفسه في موقف دفاع لم يتعود عليه من قبل. ربما من المبكر القول بأن عصر "المحافظين الجدد" في طريقة للدخول إلى دهاليز ذاكرة التاريخ. لكن المؤكد هو أن إدارة بوش تفقد شعبيتها بشكل مستمر، وأن التيار السياسي الذي تمثله أصبح في موضوعا للنقد اللاذع بسبب الحرب على العراق. "المحافظون الجدد" كانوا أصحاب فكرة هذه الحرب، ورموزهم داخل الإدارة هم الذين خططوا لها انطلاقا من أنها تمثل مصلحة استراتيجية للولايات المتحدة. لم يمر وقت طويل قبل أن تتحول الحرب إلى احتلال مرفوض عراقيا ودوليا، وإلى مأزق للاستراتيجية الأميركية في المنطقة. هذا فضلا عن الخسائر الأميركية المستمرة. فالقتلى الأميركيون تجاوز عددهم الألفي قتيل، عدا عن الجرحى. والتكاليف المالية تجاوزت ثلاثمائة مليار دولار.

مع ذلك لا يبدو أن هناك نهاية قريبة ومعقولة لحرب الديمقراطية وهزيمة الإرهاب. الشعور المسيطر هذه الأيام على كثير من الأميركيين، خاصة بين أعداد متزايدة من السياسيين، والإعلاميين، والمفكرين، أن الولايات المتحدة أصبحت في مأزق حقيقي. بقاء القوات الأميركية في العراق هو العامل الأهم في منع انزلاق هذا البلد نحو حرب أهلية، لكنه في الوقت نفسه سبب رئيسي لاستمرار المقاومة والإرهاب. من ناحية أخرى، انسحاب هذه القوات من دون تحقيق نتائج ملموسة على الأرض، خيار أسوأ لأنه قد يؤدي إلى انهيار الاستراتيجية الأميركية في المنطقة.

أهم الأصوات التي تنبهت، ولو متأخرا، إلى عمق المأزق الأميركي في العراق، وإلى خطأ إدارة بوش الفادح بالانسياق وراء المرئيات الأيديولوجية التي ساقها "المحافظون الجدد" لتبرير الحرب على العراق، لم يكن غير فرانسيس فوكوياما نفسه، صاحب فرضية نهاية التاريخ، والذي كان متعاطفا مع أطروحات "المحافظين الجدد". رؤية فوكوياما النقدية هذه جاءت الشهر الماضي في مقالة مطولة له في مجلة الـ"نيويورك تايمز" الأسبوعية.

من المعروف أن المبدأ، أو العقيدة التي تبنتها إدارة بوش في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، والتي على أساسها اتخذ قرار الحرب على العراق تقوم على مفهوم الضربة الاستباقية، تمنح بموجبه الولايات المتحدة لنفسها حق شن حروب من آن لآخر ضد دول مارقة أو إرهابية، وذلك للدفاع عن نفسها. وإذا تطلب الأمر ستقوم الولايات المتحدة بذلك بمفردها، وخارج قرارات الأمم المتحدة. إلى جانب ذلك ستعمل الولايات المتحدة على نشر الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، كحل على المدى البعيد لمشكلة الإرهاب. يقول فوكوياما، بأن إدارة بوش في فترتها الثانية تحاول أن تنأى بنفسها (كذا) عن هذه السياسات، وتعمل على إجراء تعديلات على مبدأ الضربة الاستباقية.

موقف فوكوياما النقدي للإدارة ولـ"المحافظين الجدد" ليس موجهاً للأهداف النهائية التي يسعى هؤلاء إلى تحقيقها، خاصة نشر الديمقراطية في العالم، بقدر ما أنه موجه إلى الطريقة العسكرية التي تبنتها الإدارة للوصول إلى تلك الأهداف. ويستشهد في نقده هنا بالنتائج التي انتهت إليها هذه السياسة. ففرض الانتخابات على دول المنطقة لم يؤدِ إلا إلى فوز قوى وحركات سياسية مناهضة للولايات المتحدة، وتعتبرها واشنطن قوى إرهابية، أو متعاطفة مع الإرهاب. الانتخابات في مصر أدت إلى فوز "الإخوان". وحتى في العراق، الذي يخضع للاحتلال الأميركي، انتهت الانتخابات البرلمانية الأخيرة فيه إلى فوز تحالف شيعي يرتبط بأوثق الصلات مع إيران. ثم جاء مسك الختام بفوز "حماس" الكبير في فلسطين. في ضوء ذلك يؤكد فوكوياما على أن إدارة بوش ستكون مضطرة بعد الآن للإجابة على وجهة النظر التي تقول بأنه كان من الأفضل للولايات المتحدة لو أنها تمسكت بأصدقائها الاستبداديين في المنطقة بدلا من الاندفاع وراء سياسات تتسم بالمغامرة. وفي هذه الحالة تكون الإدارة، ومعها "المحافظون الجدد"، قد نجحت في هزيمة الأهداف التي رسمتها لسياستها الخارجية.

يطرح فوكوياما سؤاله المركزي: لماذا اندفع "المحافظون الجدد" إلى درجة أنهم خاطروا بهزيمة أهدافهم الاستراتيجية؟ ويجد الإجابة في الطريقة التي انتهت بها الحرب الباردة. فالهزيمة السريعة للاتحاد السوفييتي، والسرعة التي تهاوت بها هذه الإمبراطورية، ومعها معسكرها الشرقي أغرت هؤلاء المحافظين بأن كل الأنظمة الاستبدادية هي من الضعف والهشاشة بحيث لا يتطلب الأمر أكثر من دفعة من الخارج، تؤدي إلى تلاشيها من الخريطة السياسية في العالم، من دون مقاومة، وبسرعة لا يمكن توقعها. بل إن بعض "المحافظين"، مثل وليام كريستول وروبرت كيغان، اعتبرا في كتاب لهما عام 2000 بأن استخدام القوة العسكرية الأميركية لنشر الديمقراطية ليس نوعا من الطوباوية المثالية، كما يعتقد البعض، بل يمثل عين الواقعية السياسية. ويرى فوكوياما أن هذا التفاؤل المفرط يساعد على تفسير فشل إدارة بوش الذريع في التخطيط لمواجهة التمرد في العراق، وفي توقع الكيفية التي سيكون عليها رد فعل العالم على استخدام القوة العسكرية الأميركية. نتيجة لذلك انتشرت ظاهرة العداء لأميركا في العالم. 

من هنا يرى فوكوياما أن لحظة "المحافظين الجدد" قد انتهت، الأمر الذي يفرض على الولايات المتحدة، كما يقول، إعادة صياغة سياستها الخارجية على أسس مختلفة. لقد ارتبط تيار "المحافظين الجدد" بمفاهيم مثل تغيير الأنظمة بالقوة، والسياسة الانفرادية، والهيمنة الأميركية. المطلوب الآن هو أفكار جديدة، أفكار تحتفظ بإيمان تيار "المحافظين الجدد" بعالمية حقوق الإنسان، لكن من دون أوهام هذا التيار حول نجاعة القوة الأميركية والهيمنة الأميركية لتحقيق ذلك.

كاتب آخر، هو روبرت كابلان، كتب في "واشنطن بوست" الخميس الماضي، يقول بأن التجربة الأميركية مع الديمقراطية لا تملك الكثير لتقدمه للظروف السياسية في منطقة مثل الشرق الأوسط. أميركا ورثت مؤسساتها السياسية من التقاليد الأنجلو- ساكسونية، وبالتالي فإن تجربتها خلال أكثر من 230 سنة كانت لوضع حدود لاستبداد السلطة، وليس لإيجادها من الصفر. ولهذا السبب كانت فكرة السلطة أمرا مسلما به في المجتمع الأميركي، ولم يكن هناك خوف من انهيار هذه السلطة. لكن في أجزاء كثيرة من العالم الأمر هو على العكس من ذلك. بناء على هذه المقارنة يتوصل كابلان إلى أن الولايات المتحدة لا تستطيع فرض الديمقراطية بالقوة على دول أخرى تختلف في تاريخها، وفي أسس تجربتها السياسية. والشاهد هنا أن سياسة إدارة بوش و"المحافظين الجدد" في الشرق الأوسط لم تؤدِ إلى نشر الديمقراطية أكثر من أنها هيأت الظروف لانهيار السلطة وانتشار الفوضى، ومن ثم انهيار النظام الذي على أساسه تقوم الدولة في هذه المنطقة. المفارقة هنا أن استنتاج كابلان المنطقي يقوم على مقارنة مغلوطة من الناحية التاريخية. ليس هنا مقام التفصيل في ذلك. الأهم في هذا السياق هو أن موقف كابلان يتوافق مع موجة الهجوم التي تكتسح الأوساط السياسية والثقافية في المجتمع الأميركي ضد إدارة بوش، وضد تيار "المحافظين الجدد".

هناك أدبيات كثيرة، مقالات وأبحاث وكتب، صدرت مؤخرا في الولايات المتحدة تصب في الاتجاه نفسه. تختلف هذه الأدبيات في حدة نقدها لتيار "المحافظين الجدد"، لكن أغلبها يتفق مع ما ذهب إليه فوكوياما من أن لحظة هذا التيار قد انتهت أو اقتربت من نهايتها. ولعل ما يؤكد ذلك الرد الذي كتبه أحد أبرز "المحافظين الجدد" أنفسهم، وابن الأب المؤسس لهذا التيار، ويليام كرستول، على فوكوياما. كان كريستول خطابيا عاطفيا في مقالته التي نشرها هذا الأسبوع في مجلة الـ"ويكلي ستاندارد"، والتي يرأس هو تحريرها. الذين كتبوا عن التيار الذي ينتمي إليه، فعلوا ذلك بأسلوب منهجي تحليلي. اعتمدوا على المعلومة، وعلى النتائج التي انتهت إليها سياسة بوش في الداخل والخارج. بل إن بعضهم، مثل فوكوياما نفسه، لا يزال متعاطفا كما قال مع أهداف "المحافظين الجدد". في مقابل ذلك، لم يجد كريستول ما يقوله في مقالته إلا توجيه تهمة الجبن، وافتقاد الشجاعة لكل من انتقد التيار الذي ينتمي إليه. عندما يلجأ المرء إلى الخطابية، وإلى توجيه التهم جزافا، فهذا دليل على شعور داخلي بالانهزام. ويليام كريستول أثبت من حيث لا يريد صحة ما ذهب إليه خصوم تياره ومنتقدوه.

وكل ذلك بحسب رأي د. خالد الدخيل في المصدر المذكور.

المصدر: الإتحاد الإماراتية-8-3-2006