حتى يغيروا...الشورى..شراكة
نزار حيدر
للعراق
الجديد، يجب ان نقدم ثقافة جديدة.
هذا ما
اتفقنا عليه في الحلقات الماضية من هذه القراءة.
وقلنا بان
من الثقافات التي يحتاجها العراق الجديد، هي؛
اولا: ثقافة
الحياة
ثانيا:
ثقافة التعايش
ثالثا:
ثقافة المعرفة
رابعا:
ثقافة الحوار
خامسا:
ثقافة الجرأة
سادسا:
ثقافة الحب
سابعا:
ثقافة النقد
ثامنا:
ثقافة الحقوق
تاسعا:
ثقافة الشورى
والشورى،
بمعنى آخر، تعني الشراكة والمشاركة، فعندما يستشير المرء صاحبه في امر
ما، انما يشاركه عقله ورايه ورؤيته وفي احيان كثيرة تجربته، فيكون
شريكه في النتيجة، حسنة كانت ام سيئة، والى هذا المعنى يشير امير
المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام بقوله {من شاور الرجال، شاركهم
في عقولهم}.
فلماذا
نستشير؟ ومن نستشير؟ وكيف؟ ومتى؟.
وقبل ذلك،
اسمحوا لي ان ابين الملاحظات الجوهرية التالية:
اولا؛ يتصور
البعض بانه اذا سأل زميله واستشاره في امر ما، فان ذلك دليل ضعف عقله
او قلة فهمه، ولذلك، فالاستشارة عند هذا النوع من الناس، عيب لا ينبغي
ممارسته، وانها مثلبة ومنقصة في شخصية المستشير، وكل هذا خطا في خطا،
وان العكس هو الصحيح، فالاستشارة دليل:
الف: احترام
العقل.
باء: احترام
التجربة والخبرة.
جيم: احترام
رجاحة عقول الاخرين.
دال: احترام
الجهد والوقت الذي سيصرفه المرء على العمل الذي ينوي انجازه.
هاء:
الاستعداد النفسي والذهني لتعلم اسباب النجاح من الاخرين، وذلك هو اعظم
ما ينفع المرء في حياته، اذا استشار.
ولكل ذلك،
امر (بضم الالف وكسر الميم وفتح الراء) رسول الله (ص) بالاستشارة، وذلك
في قول الله عز وجل في محكم كتابه {وشاورهم في الامر} كما اعتبر القران
الكريم الاستشارة احدى اهم صفات المؤمنين، وذلك في قول الله عز وجل
{والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وامرهم شورى بينهم ومما رزقناهم
ينفقون} كما ان امير المؤمنين عليه السلام حض الناس على المشورة في اول
خطاب له بقوله عليه السلام {ايها الناس، وفي النداء اشارة الى ان
المقصود في الخطاب ليس المسلمين فقط وانما كل رعايا الدولة الاسلامية،
اي كل المواطنين بغض النظر عن دينهم او موقفهم السياسي من الحاكم) ان
لي عليكم حقا، ولكم علي حق، فاما حقكم علي فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم
عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتاديبكم كيما تعلموا، واما حقي عليكم
فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والاجابة حين ادعوكم،
والطاعة حين آمركم}.
ولقد اوصى
امير المؤمنين عليه السلام الناس بان يسالوا عما يجهلونه، فليس في
السؤال عيب ابدا، يقول عليه السلام {ولا يستحين احد اذا لم يعلم الشئ
ان يتعلمه}.
كما ان
تاريخ العظماء والمصلحين يتحدث كثيرا عن اهتمامهم بالمشورة، وان من
ابرز مصاديق الديمقراطية الحديثة، هو مجالس الشورى التي تتاسس بصور
شتى، فضلا عما يتخذه الزعيم او القائد من لجان المشورة والمجموعات التي
يعمد الى استشارتها في كل صغيرة وكبيرة تهم الشان العام، حتى قيل {قل
لي من هم مستشاروك، اقل لك من انت} لشدة تاثير المشورة في تحديد
المسارات العامة لهذا الزعيم او ذاك الرئيس.
لقد شكل
المرجع الديني الكبير الميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي قائد ثورة
العشرين الاسلامية التحررية في العراق عام (1920) مجلسا للشورى من (70)
عنصرا ضم العلماء والفقهاء والمثقفين واصحاب الرأي، يمثلون مختلف شرائح
وطبقات المجتمع العراقي آنئذ، لدراسة خطط الثورة واساليبها، فلم يكن
ليقطع بامر قبل ان يرجع الى المجلس ويستشيره في الامور، ويناقش معه
المستجدات والتطورات، ولذلك حقق العراقيون اقصى ما يمكن تحقيقه من
الثورة، في ظل ظروف دولية معقدة.
ان كل ذلك،
وغيره الكثير، يؤكد بان المشورة من عمل العقلاء وليس من عمل الجاهلين،
وهي فعل حسن ومحمود ومطلوب في كل الاوقات، ولو لم تكن كذلك، لما لجا
اليه الرسل والانبياء والعظماء والمصلحون، ولما اتخذته الديمقراطية
الحديثة وسيلة لتحقيق ذاتها.
اذن،
فالعاقل هو الذي يستشير، اما غيره فيستبد برايه ولا يفكر بالاستشارة
ابدا، واكثر من هذا، فالعاقل هو الذي يوصي اصحابه واصدقاءه ومحبيه
وزملاءه بان لا يبخلوا عليه براي او مشورة ابدا، ولقد كان علي بن ابي
طالب عليه السلام يوصي اصحابه في ذلك بقوله {فلا تكفوا عن مقالة بحق،
او مشورة بعدل} وهو القائل عليه السلام {لا مظاهرة اوثق من المشاورة}
فبالمشاورة يكتشف المرء صحة رايه من خطئه، والى هذا المعنى اشار امير
المؤمنين عليه السلام بقوله {من استقبل وجوه الاراء عرف مواقع الخطأ}.
هنالك نوع
آخر من الناس، يستنكف ان يستشير لانه معجب بنفسه، فيظن بانه اعلم
الموجودين وانه فهامة زمانه وانه علامة عصره، فلماذا، اذن، يستشير
الاخرين؟ او ليس ان من يستشير غيره يشعر بالنقص ليلجا الى غيره؟ فاذا
كنت عالما كامل العقل والدراية، فلماذا علي ان استشير؟ ناسيا او
متناسيا بانه ليس بيننا اليوم من هو كامل العلم والمعرفة والعقل فلا
يحتاج الى راي الاخرين وعقلهم وخبرتهم وتجربتهم، ناهيك عن انه حتى الذي
خلقه الله تعالى كامل العقل انما أمر بالاستشارة، كما اسلفنا قبل قليل.
ان من اخطر
اعداء المرء، اعجابه بنفسه، لان ذلك يحول بينه وبين النمو والتطور
وزيادة المعرفة، ولذلك قال الامام علي بن ابي طالب عليه السلام
{الاعجاب يمنع الازدياد}.
وتزداد
مشكلة هذا النوع من الناس وتتعقد عندما يسمع الاخرين يمدحونه في كل ما
يقوله ويفعله، وفيهم من فيهم، فيظن انه الاستثناء في هذا الزمن، بل انه
خلق لغير زمانه، فهو سابق له.
ان مشكلة
امثال هؤلاء الناس انهم ممتحنون بانفسهم، ومفتونون بمديح الاخرين لهم،
عندما يظنون بانهم عالمون وكاملون وفاهمون، ولقد شخص علي بن ابي طالب
عليه السلام مرض هذا النوع من الناس بقوله {رب مفتون بحسن القول فيه}
فيما اوصى عليه السلام الاشتر النخعي عندما ولاه مصر في عهده الشهير،
بالاقلاع عن هذه الصفة المذمومة، بقوله{واياك والاعجاب بنفسك، والثقة
بما يعجبك منها، وحب الاطراء، فان ذلك من اوثق فرص الشيطان في نفسه
ليمحق ما يكون من احسان المحسنين}.
ان من نعم
الله تعالى على عبده، انه يبدي استعدادا منقطع النظير ليتعلم من
الاخرين باستشارتهم، فلا يستنكف السؤال ولا يتردد في الاستشارة، كما ان
من نعم الله تعالى على عبده العالم ان لا يكتم علمه فيعلمه الاخرين،
ويشير عليهم اذا استشاروه، فلا يكن انانيا لا يحب الخير الا لنفسه، ولا
يرد ان يرى الاخرين يتطورون ويتقدمون مثله، فاذا اكتملت ملكة السؤال
والاستشارة عند الذي يحتاجها مع ملكة العلم والمعرفة والاستعداد لتقديم
المشورة عند من يمتلكها، تكاملت المعادلة، وعمت ثقافة الاستشارة، والى
ذلك نبه امير المؤمنين عليه السلام بقوله الى جابر بن عبد الله
الانصاري، بقوله {يا جابر، قوام الدين والدنيا باربعة، عالم مستعمل
علمه، وجاهل لا يستنكف ان يتعلم، وجواد لا يبخل بمعروفه (والعلم ورجاحة
العقل والخبرة والتجربة معروفا كما هو معلوم) وفقير لا يبيع آخرته
بدنياه، فاذا ضيع العالم علمه استنكف الجاهل ان يتعلم، واذا بخل الغني
بمعروفه، باع الفقير آخرته بدنياه} انظر الى دقة المعادلة التي رسم
معالمها سيد البلغاء في هذا النص، لنعرف كيف يمكننا ان نصوغها على ارض
الواقع.
ثانيا؛
عندما يستشير المرء احدا ما، فانما يشاركه خططه، فاذا نجحت نجح
الاثنان، ما يزيد من الثقة بينهما ويعزز التعاون وتبادل الخبرة بينهما،
اما اذا اصيب المرء بالفشل، فسيتقاسم الاثنان اعباءه، ما يكون عزاءا
لهما، فيقلل من الملامة، ويهون من وقع الاثر السلبي، وهذا شئ مهم جدا
في حياتنا، فالناس عادة يحبون من يخفف عليهم وقع الصدمات، ولا يكن ذلك
الا اذا كان المصاب قد استشار، فسيعذره الاخرون ويشاركونه الصدمة، ولو
كان غير ذلك للامه الجميع، وحملوه المسؤولية لوحده دون غيره، قائلين له
(هذا جزاء من لا يستشر الاخرين، فالذنب ذنبك، وانت وحدك تتحمل
المسؤولية) وتلك هي النتيجة الطبيعية للاستبداد او على الاقل لمن لا
يستشير اي لمن لا يشارك الاخرين آراءهم، ولذلك قال امير المؤمنين عليه
السلام {من استبد برايه هلك}.
نعود الى
الاسئلة التي صدرنا بها المقال، لنجيب عليها بما يلي:
اولا: لان
الشورى شراكة، في الراي والعقل والتجربة، لذلك يجب ان نحولها الى ثقافة
عامة في مجتمعنا، فلا تقتصر الشورى في مجلس النواب مثلا او في الحكومة
او في المدرسة، ابدا، وانما يجب ان تتحول الى ثقافة عامة عند كل
العراقيين، فنتعلم ان لا نقطع بامر، حتى اذا كان شخصيا، الا بعد مشورة،
فليستشر الاب ابنه والابن اباه والام بنتها والبنت امها، وليستشر الجار
جاره، والفلاح زميله والصانع صنوه والطالب زملاءه، وهكذا، ولتكن
المشورة بالنسبة لنا كالزاد لاحدنا لا يستغني عنه ابدا، وبذلك سنخلق من
العقل والتجربة والخبرة امرا مشاعا يستفيد منه الجميع، فلا تقتصر منافع
العقل المتميز على صاحبه، ولا تنحصر منافع التجربة الناجحة على من
مارسها وحققها، بل ليكن العقل المتميز والتجربة الرائدة والراي السديد،
ملكا للجميع، يستفاد منه كل من يريد ان ينهل منه لغرض طيب ونزيه، وهدف
صالح ينتفع به وينفع به الاخرين، وبهذه الطريقة سينهض كل المجتمع.
لتتحول
الشورى الى ثقافة عامة، لا يستغني عنها احد، ولنعلم اطفالنا ثقافة
الاستشارة قبل ان يقرروا، ولنستشيرهم ونشير عليهم، فبالشورى تقل
اخطاءنا وبها نحد من اخفاقاتنا وعليها يمكن ان نعول في تحقيق نجاحاتنا.
لنتعلم ان
نستشير في كل آن، وفي كل شئ، فاذا لم يكن في الاستشارة خير او مصلحة،
فبالتاكيد ليس فيها مضرة ابدا، فهي خير لا شر فيه، واذ تصور احد بان
للاستشارة ثمن، فان ثمن الاستبداد او عدم الاستشارة اكبر واخطر بكثير،
ولكل واحد منا تجربة في هذا الصدد، بلا شك.
يجب ان لا
نلجا الى الاستشارة، في الوقت الضائع، ما قبل الفشل، لنعلقه على هذا
وذاك، بل يجب ان ندقق في توقيتها لتاتي نافعة ومثمرة وفاعلة.
لنحول
العراق كله الى مدرسة في الاستشارة، لنقضي على ظاهرة الاستبداد بالراي،
والتي خلفتها لنا عهود الاستبداد والديكتاتورية ونظام الحزب الواحد
والزعيم الاوحد.
لنكثر من
البرامج الحوارية وحلقات النقاش في كل مكان، في الاذاعة والتلفزيون
والمدرسة والجامعة والمصنع والسوق والنادي والشارع والمؤسسة، وفي كل
مكان.
ومن اجل ان
نحول الشورى الى ثقافة عامة في المجتمع، علينا ان نبحث دائما عن طرق
واساليب تحقيقها، مثل مراكز الدراسات والبحوث والمؤسسات التي تهتم
بعمليات الاستفتاء العام من خلال علينات معينة، لنكن دائما على دراية
بالاتجاه العام للشارع العراقي.
استغرب من
البعض عندما يقول بان (الناس) يريدون كذا وكذا، وعندما تساله عن مصدر
معرفته يقول لك بانه التقى بهم او سمع منهم، وهو لم يلتق الا بعدد
محدود منهم، ولم يسمع الا من عدد لا يتجاوز اصابع اليد، فكيف عرف بان
(الناس) يريدون ذلك، وهم بالملايين؟.
علينا ان
نكون قريبين من الناس لنستطلع آراءهم في كل قضية عامة، سياسية كانت ام
اجتماعية ام ثقافية، لنشاركهم عقولهم وافكارهم وآراءهم، كما يلزمنا ان
نشيع ثقافة الانتخابات في قضايانا العامة، فنقلل من طريقة التعيين
والتنصيب، ولا اقصد بثقافة الانتخابات على الصعيد السياسي فحسب وانما
في كل المؤسسات، ليشعر الناس بانهم مشاركون حقيقيون، وليس صوريون، فيما
يخصهم، وان من يترأس عليهم جاء بارادتهم ولم يفرض عليهم، فيتحملون
المسؤولية بشكل تضامني، وليس تعسفي.
كذلك، يجب
ان يكون للحكومة، على وجه التحديد، طرق مختلفة للاصغاء الى الراي
العام، كالاعلام مثلا، الذي يجب ان يكون السلطة الاولى في العراق
الجديد، او من خلال ما يكتبه المثقفون وما يقوله المفكرون في محاضراتهم
وخطاباتهم، فان فيها الشئ الكثير من الافكار والاراء التي يمكن ان يجد
فيها المعنيون رؤى للكثير من مختلف القضايا.
ثانيا: يلزم
ان ندقق في صفات المستشار فلا نستشر كل من هب ودب، بل لا بد ان يتميز
المستشار بالصفات التالية:
الف؛
الامانة.
ثانيا؛
الخبرة.
ثالثا؛
الاختصاص.
فالخائن لا
يستشار، والاذاعة (وهو الذي يذيع اسرار الاخرين) لا يستشار، كما ان
عديم الخبرة لا يستشار ايضا، بالاضافة الى ان نوعية المستشار، اختصاصه،
يجب ان تتطابق مع نوعية مادة الشورى، فاذا كنت مريضا واردت ان تستشير
احدا في الامر فعليك بالطبيب لتستشيره وليس المهندس، واذا اردت ان
تستصلح ارضك لتزرعها فعليك بالمهندس الزراعي لتستشيره، وليس مهندس
السيارات او الفنان او الصحفي، واذا اردت ان تختار احد من بين عدد من
المرشحين في انتخابات ما ليمثلك في البرلمان مثلا او في مجلس المحافظة
فعليك ان تستشير ذوي الخبرة والاختصاص والمعرفة والباع الطويل في علم
الرجال وشؤون السياسة، واذا اردت ان تستشير من يرشدك في اختيار الجامعة
او المادة التي تريد ان تدرسها وتتخصص بها، فعليك بالخبير، وهكذا،
فالمشورة يجب ان تكون من المختص فيما تريد الاستشارة عنه، حتى لا تكون
الاستشارة عبثية وغير مدروسة، والا فستعطي، بكل تاكيد نتائج عكسية،
واحيانا مدمرة.
هذا من
جانب، ومن جانب آخر، فان علينا ان نحفظ للمستشار خبرته، من خلال
تجاربنا الخاصة، اذ كلما جاءت استشارة احدهم ناجحة وصحيحة يلزمنا ان
نضيف على اعتباره عندنا اعتبارا جديدا، ليكون بمرور الزمن مستشارنا
المفضل، نعود اليه كلما اردنا مشورة، ولذلك فان المستشار لا يعين بوقت
محدد وانما يظل هو المستشار لا زالت مشورته صحيحة ونافعة، بغض النظر عن
اي شئ.
وان قدر
المستشار بقدر صحة مشورته، وهذا يتطلب ان نخبره بين الفينة والاخرى،
لنتلمس صواب رايه من خطله، فلا نعتمد على مظهره او شكله او علاقته
الخاصة بنا، انما نختبره ونمتحنه لنتاكد من ارجحية عقله، والى هذا
المعنى اشار الامام امير المؤمنين عليه السلام بقوله {اخبر (بضم الباء)
تقله (بسكون القاف)}.
ان كل
مستشار يرتفع ويهبط بمستواه، في نظري الخاص على الاقل، طبقا لاستشارته،
وليس لاي اعتبار آخر، فما دام المستشار يشير علي بالراي السديد والرؤية
الصحيحة، يظل معتمدي الذي ارجع اليه عند المشورة، ولذلك نرى ان بعض
الناس متيم بهذا المستشار دون غيره لما لمس منه من حسن الاستشارة وصدق
الرؤية، فيما ترى آخر يحذرك من استشارة ثالث بقوله، انه يورطك اذا ما
استشرته، لكثرة ما لمس منه من الاخطاء وعدم حصافة الراي.
ان لشد ما
استغرب منه هو ان بعض القادة والمسؤولين يظلون يعتمدون على هذا
المستشار او ذاك، بالرغم من انهم ورطوهم في اكثر من مرة، وعندما تساله
عن سبب تمسكه به، يجيبك بالقول، انه سيصرفه اذا ما انتهت مدة العقد
معه، وكان المستشار يعين على اساس زمني او بمدد زمنية معينة، ان هذا
عين الخطا، فالمستشار يرجع اليه لا زال يشير بالراي الصحيح، اما في غير
هذه الحالة، فليذهب ليمارس اي عمل آخر الا الاستشارة، على الاقل عندي
انا الذي جربته.
ان مهمة
المستشار تنحصر في ان ينتج افكارا، في المستويات الثلاثة التالية، او
في احدها على الاقل، والا سقطت عنه صفة المستشار، فهو اما ان ينتج
افكارا تساهم في تطوير شئ ما، مشروعا او عملا او اي شئ آخر، او ان ينتج
افكارا ابداعية، اي افكارا تنتج ابداعا اي شيئا جديدا، على اي صعيد
كان، او ان ينتج افكارا تساهم في حل مشكلة ما، فاذا اخفق في انتاج مثل
هذه الافكار فلا خير فيه، كمستشار، اذ ستسقط عنه هذه الصفة على وجه
التحديد، وعليه ان يبحث عن مهنة اخرى يعتاش منها او بها.
ان المستشار
يجب ان يعين او يتخذ على اساس الخبرة وليس على اساس الصداقة والمعرفة
والقرابة ابدا.
كما ان هناك
صفات سيئة اذا كانت في الرجل، او بعضها، فلا يحسن ان يستشار ابدا،منها
مثلا ما ذكرها علي بن ابي طالب عليه السلام في احدى وصاياه لابنه السبط
الحسن عليه السلام، بقوله{يا بني، اياك ومصادقة الاحمق، فانه يريد ان
ينفعك فيضرك، واياك ومصادقة البخيل، فانه يقعد عنك احوج ما تكون اليه،
واياك ومصادقة الفاجر، فانه يبيعك بالتافه، واياك ومصادقة الكذاب، فانه
كالسراب، يقرب اليك البعيد، ويبعد عليك القريب} فاذا صدقت هذه الصفات
وامثالها في امرئ يلزمنا ان لا نستشيره ابدا لانه يقودنا الى التهلكة،
لان رايه الى افن ابدا.
هنالك صفات
اخرى يجب ان نتجنبها في المستشار، منها ما ذكرها قول امير المؤمنين
عليه السلام {ياتي على الناس زمان لا يقرب فيه الا الماحل (وهو الساعي
في الناس بالوشاية) ولا يظرف فيه الا الفاجر، ولا يضعف فيه الا المنصف}
فالماحل والفاجر لا يستشارون، فيما يجب ان يستشار المنصف، وهو صاحب
الدين، على اعتبار ان {من لا انصاف له، لا دين له} كما في القول
المأثور.
كذلك،
فالمتردد لا يستشار، وكذا الجبان والخائف والحسود وشارد الذهن وضعيف
البديهة، لان كل هؤلاء وامثالهم لا يشيرون علينا بالخير ابدا.
ومن الصفات
المهمة في المستشار، تلك التي وردت في قول الامام علي بن ابي طالب عليه
السلام {لا يقيم امر الله سبحانه الا من لا يصانع (اي لا يداري في
الحق) ولا يضارع (المضارعة تعني المشابهة، والمعنى انه لا يتشبه في
عمله بالمبطلين) ولا يتبع المطامع (اتباع المطامع، الميل معها وان ضاع
الحق).
هذه الصفات
الثلاث الاخيرة على وجه التحديد، يجب ان يدقق فيها المسؤول النظر،
عندما يختار مستشاريه وبطانته، اذ من المفترض انه يريد الاعتماد عليهم
في حفظ حقوق الرعية، ما يلزم ان يكون مستشاروه امناء عليها، ليشيروا
عليه بما يحفظها، اما اذا كان المستشار طماعا يتشبه بالمبطلين ويميل مع
الهوى، فيتبعه على حساب الحق، لا يمكن ان يشير على المسؤول بما يحفظ
حقوق الناس ابدا.
ان بعض
المسؤولين، وللاسف، يختارون لبطانتهم الامعات والطبالين والمصفقين
والمهرجين والمؤيدين الذين لا يعرفون قول (لا) ابدا، فاذا اخطا قالوا
له احسنت، واذا اصاب قالوا له احسنت، ان امثال هؤلاء يدفعون المسؤول
الى الهاوية دفعا، ولذلك يجب ان يختار المسؤول الاقوياء في قول الصح
حتى اذا خالف رايه، ليتكئ عليهم ويستقوي بهم.
لقد قال
امير المؤمنين عليه السلام لبعض بطانته، وهو يحذرهم من الضعف والمداراة
والمصانعة {وقد كرهت ان يكون جال في ظنكم اني احب الاطراء، واستماع
الثناء، ولست ــ بحمد الله ــ كذلك، ولو كنت احب ان يقال ذلك لتركته
انحطاطا لله سبحانه عن تناول ما هو احق به من العظمة والكبرياء، وربما
استحلى الناس الثناء بعد البلاء، فلا تثنوا علي بجميل ثناء، لاخراجي
نفسي الى الله سبحانه واليكم من التقية في حقوق لم افرغ من ادائها،
وفرائض لا بد من امضائها، فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا
تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند اهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة،
ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي، ولا التماس اعظام لنفسي، فانه من
استثقل الحق ان يقال له او العدل ان يعرض عليه، كان العمل بهما اثقل
عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق، او مشورة بعدل}.
ومن الامور
التي يلزم ان لا نغفل عنها ونحن نبحث عمن نستشيره في امر ما، هو موضوعة
العمر، وقديما قيل (اكبر منك بيوم، اعقل منك بسنة) على اعتبار ان العمر
يكسب المرء تجربة اضافية، فيكون الكبير ارجح عقلا من الصغير، وان كانت
هذه ليست بالقاعدة المطلقة، وانما يجب ان ناخذها بنظر الاعتبار، حتى لا
تفوتنا تجربة الشيخ، ولذلك قال امير المؤمنين عليه السلام {رأي الشيخ
احب الي من جلد الغلام، وروي من مشهد الغلام}.
وربما لهذا
السبب حث الاسلام، من بين اسباب اخرى، على توقير الكبير، وانزاله
المنزلة اللائقة في المجتمع، لانه محط تجارب الماضي القريب.
كذلك، فان
من صفات المستشار الثقة، ان يكون امينا على سر من يستشيره، فلا يفرط
به، فلقد جاء في الاثر ان {المستشار مؤتمن} وان يسكت فلا يدلي براي اذا
لم يكن متاكدا منه، فالسكوت بعلم افضل من النطق بجهل، ولذلك قال علي بن
ابي طالب عليه السلام {من ترك قول (لا ادري) اصيبت مقاتله} فما الضير
في ان يقول المستشار (لا ادري) اذا كان لا يعرف فيما استشير به او عنه؟
او كما في قوله عليه السلام {ولا يستحين احد منكم اذا سئل عما لا يعلم
ان يقول لا اعلم} فاعتراف المرء بجهله في امر ما يسأل عنه، منقبة يشكر
عليها ويحمد.
وفي
المقابل، فاذا كان يعرف شيئا عن الامر، فعليه ان يقول رايه ويبدي علمه،
فلا يكتمه فيضيع فرصة ربما تضيع انجازا او تؤخر عملا صالحا، ولذلك قال
امير المؤمنين عليه السلام {لا خير في الصمت عن الحكم، كما انه لا خير
في القول بالجهل}.
النقطة
الجوهرية الاخرى بهذا الصدد، هي زمن الاستشارة؟.
برايي، فان
الشورى واجبة في مرحلة بلورة القرار وقبل اتخاذه، وليس في العمل
والتنفيذ، ولتوضيح الفكرة، اتساءل، لو ارادت مجموعة ان تسافر، متى
تراها بحاجة الى التشاور والتخطيط؟ بالتاكيد ما قبل السفر، فيتشاوروا
في نوعية وحجم السيارة التي سيستاجرونها مثلا، ومقصد السفر والهدف منه،
وهكذا، وعندما يتفقون على كل شئ، ياتي دور التنفيذ، وقيادة السيارة
والانطلاق بها الى حيث قرروا، عندها لا يقود السيارة الا واحد منهم
وليس كلهم، اليس كذلك؟.
الشورى،
كذلك، فان وقتها هو ما قبل اتخاذ القرار والعزم عليه، وان طال الزمان،
اما اذا اتخذ القرار فلا استشارة الا اللمم.
فالشورى في
التخطيط وليس في التنفيذ، ولذلك رفض امير المؤمنين عليه السلام راي
طلحة والزبير عندما قالا له (نبايعك على انا شركاؤك في هذا الامر) اذ
اجابهم بقوله عليه السلام {لا، ولكنكما شريكان في القوة والاستعانة،
وعونان على العجز والاود}.
ان المشكلة
في العراق اليوم، هي ان القادة السياسيين، اتفقوا على التوافق في
الحكومة، وهذا خطا فاحش اصاب الحكومة بالشلل، لانه لا شورى في التنفيذ
وانما في التخطيط، كما اسلفنا للتو، اذ كان عليهم ان يتفقوا على
التوافق في المجالس التي يتخذ فيها القرار كالمجلس الرئاسي ومجلس
النواب والمجلس السياسي وامثالها، اما في الحكومة وتشكيلها واعمالها
فيجب ان تبسط يدها، لان مهمتها ليست اتخاذ القرار او رسم الاستراتيجيات
وانما تنفيذ ما تم رسمه في مجالس الشورى والتوافق، ولتحاسب الحكومة تحت
قبة البرلمان، اما ان نلاحقها في كل صغيرة وكبيرة، فهذا خطا استراتيجي
كبير انتهى بالحكومة العراقية الى الشلل وعدم القدرة على تنفيذ الخطط،
ولا اعتقد بان المشكلة ستحل اذا ما تقرر تغيير الحكومة او ترشيقها، كما
يحلو للبعض تسميته، او ترميمها، وانما يكمن الحل في ان يتفق المعنيون
على تغيير طريقة تعاملهم مع (الشورى) والتوافق، فيرفعوها عن الحكومة
ويكرسونها في مجالس صنع القرار.
اخيرا، فان
الذي يستشير يجب ان يتصف بصفات تؤهله للاستشارة، فينتفع بها، منها:
الف؛
الاخلاق الحسنة، اذ قال الله تعالى {فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو
كنت فضا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم وشاورهم في الامر فاذا
عزمت فتوكل على الله}.
باء؛ سعة
الصدر، ليتحمل الراي وان خالفه او لم يحبه، قال امير المؤمنين عليه
اليلام {آلة الرئاسة سعة الصدر}.
جيم؛ الحرية
والامن، فالخائف لا يبدي افضل ما عنده من آراء وافكار، ولذلك يجب ان
يكون المستشار حرا وآمنا غير خائف، ولذلك قال امير المؤمنين عليه
السلام {لا تجعلن ذرب لسانك على من انطقك، وبلاغة قولك على من سددك}.
دال؛ الرفق
في المشورة وعدم اللجاجة والالحاح، وبذلك قال الامام علي عليه السلام
{اللجاجة تسل الراي}.
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي المعهد.
|