بريطانيا...على طريق التحولات الشاملة

 

والتر راسل ميد 

 

 

ما فتئت المؤسسة السياسية الحاكمة في الإمبراطورية البريطانية العظمى، تواصل الكبوة تلو الأخرى في مجال سياساتها الخارجية، طوال القسم الأعظم من الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين والحرب الباردة. وبحلول أواخر عقد السبعينيات، تقلصت أقوى الإمبراطوريات وأكثرها دينامية وحراكاً على وجه الأرض، إلى مجرد بقعة متآكلة لم تعد تصلح إلا لجلب السائحين، للوقوف على أمجادها الزائلة وأطلالها الأثرية الدالة عليها. غير أن مظاهر الاضمحلال الشامل تلك قد بدأت بالتوقف لاحقاً، ما أن نهض "اليمين" و"اليسار" السياسيان البريطانيان على قدميهما، وبدآ استرداد عافيتهما وقدرتهما على الكفاح من أجل النهوض ببلدهما.

ففي البدء أثار حماس رئيسة الوزراء السابقة مارجريت تاتشر لسياسات السوق الحرة، موجة عارمة من الغضب في أوساط "اليسار" البريطاني، ثم جاء توني بلير لاحقاً كي يطيح بالشق الاشتراكي من حزب "العمال"، ويدشن شراكة مثيرة للخلاف والجدل مع الرئيس الأميركي جورج بوش، أفضت إلى صدع القارة الأوروبية وشق صفوفها، إلى جانب إغضابها للأوساط السياسية البريطانية. واليوم هاهو كين ليفنجستون، "اليساري" المعروف الملقب بـ"كين الأحمر" الذي جرى تطهيره من حزب بلير من قبل، وقد عاد إلى الساحة السياسية مجدداً ليصبح عمدة لندن. والملاحظ أن هذه المدينة تدفع بخطى سباق محموم مع مدينة نيويورك، هدفه أن تتحول إلى مركز مالي عالمي مثلما كانت من قبل. ومن مظاهر هذه الحيوية التي نلحظها على الحياة السياسية البريطانية، عودة جورج جالاوي- الذي عرف عنه مؤازرته لصدام حسين في عام 2003، والذي تعرض لأشد الانتقادات من إحدى اللجان التابعة لمجلس الشيوخ الأميركي بسبب ذلك التأييد- إلى شاشة التلفزيون البريطاني تارة أخرى، ولكن في ثياب حمراء هذه المرة. وعموماً يمكن القول إن السياسة البريطانية لم تعد بركة راكدة ولا باعثة على الملل بأي حال.

غير أنه يجب القول إن هذه التحولات الجديدة في المشهد السياسي البريطاني، ليست آمنة بالكامل ولا هي بالسهلة. فهاهم مسلموها المتطرفون وهم يلوحون بشعلات الإرهاب في مجتمعاتها ومدنها المنقسمة على نفسها، والمعروفة بشدة تنوعها الإثني والثقافي، بينما يواصل مسلموها المعتدلون الحوار حول كيفية اندماج الجالية المسلمة المهاجرة في جسد المجتمع البريطاني العريض الذي تعيش فيه. واليوم فنحن نرى كلاً من الدعاة المسيحيين والمسلمين على حد سواء، وهم يحتلون منبر الحديث الشهير في ساحة "هايد بارك"، بينما يلوح مؤيدو كل من الطرفين بالكتب المقدسة التي يؤمنون بها، كلما فنّد أحد الطرفين حجة من الحجج المختلف عليها بين أتباع الديانتين وبين هذا وذاك، انهار النظام الطبقي الاجتماعي القديم، نتيجة لتمكن البنوك الاستثمارية من جلب خيرة موهوبي العالم للاستثمار في العاصمة لندن. ليس ذلك فحسب، بل استقطب الاقتصاد البريطاني الأكثر انفتاحاً، مئات الآلاف من المهاجرين الجدد، من شتى دول الاتحاد الأوروبي خلال السنوات الأخيرة هذه.

وفي وقت مبكر من الشهر الحالي، نشرت صحيفة "التايمز" اللندنية تقريراً عن أن اسم "محمد" أصبح الاسم الثاني الأكثر شيوعاً بين المواليد الجدد البريطانيين، بعد اسم "جاك" مباشرة، بينما يتوقع له أن يحتل المرتبة الأولى في العام المقبل. وفي أكثر من ناحية، تبدو لندن الآن، مدينة أكثر عالمية من نيويورك. وفيها ينهمك الشباب الموهوبون من شتى أنحاء العالم، في ضخ قيم وأفكار جديدة في شرايين مدينة تبدو اليوم أكثر إثارة وعصرية من أي وقت مضى في تاريخ ذاكرتنا الحية عنها. وقد كشفت دراسة أخيرة، أن ما يصل إلى ثلثي الوظائف الجديدة التي أنشأتها وزارة العمل البريطانية مؤخراً، قد كانت من نصيب العمالة المهاجرة من دول الاتحاد الأوروبي وغيرها. وبقدر ما تثيره هذه الحقيقة من الشعور بالاطمئنان والارتياح إلى حد ما، لدى حكومة جوردون براون الجديدة التي ضربتها الهزات المفاجئة، بقدر ما تشير إلى هذه الحيوية الجديدة التي بدأت تسري في جسد الحياة البريطانية، وإلى جاذبيتها للمزيد من موهوبي العالم من شتى بقاع الأرض وقد ألقت هذه الحيوية وهذا التنوع العرقي والثقافي الذي تزخر به بريطانيا، بتأثيراتها حتى على مطاعمها والعادات الغذائية فيها. فبفضل توافد خيرة طهاة العالم إليها من كل من آسيا وأوروبا ومنطقة الشرق الأوسط، تحولت لندن بالفعل إلى قبلة للطعام والمطاعم العالمية.

وعلى صعيد القارة الأوروبية نفسها، بدأت بريطانيا تستنهض دورها وتأثيرها كذلك. فعلى امتداد قرنين من الزمان، ظلت بريطانيا تلعب دور حفظ توازنات القوى الأوروبية، بحماية دولها المستضعفة من تغول عمالقة وأقوياء القارة. لكن وفي أعقاب فترة الحرب الباردة، وبفعل هيمنة التحالف الفرنسي الألماني على السياسات الأوروبية، فقد أقصيت بريطانيا إلى هامش المشهد السياسي الأوروبي. بيد أن هذا الوضع الهامشي قد بدأ بالتغير الآن، نتيجة لتزايد رؤية الدول الأعضاء الجدد من شرقي ووسط أوروبا لبريطانيا كحليف أساسي لها، في وقت سرى فيه الضعف في أوصال تحالف باريس - برلين.

وفي مجمل القول، فإن بريطانيا تشهد صعوداً متزامناً الآن، سواء في الساحة السياسية، أو في مجالي العلوم والثقافة ويلزم القول إن كلاً من تاتشر وبلير قد أنشآ نظاماً اقتصادياً، استطاع أن يترك تأثيراته وبصماته على الاقتصاد العالمي إجمالاً، سواء قرظه البعض أم انتقده البعض الآخر. وفي الساحة المسرحية تتفوق بريطانيا على غيرها من المسارح العالمية بلا منازع أما في قائمة حملة جائزة نوبل في العلوم، فلا تتفوق عليها أي دولة أخرى عدا الولايات المتحدة خلال السنوات العشر الماضية.

بريطانيا ليست ساعية لإعادة بناء مجدها الإمبراطوري السابق، فذلك عهد قد ولى إلى غير رجعة غير أن بريطانيا تنهض مجدداً اليوم، كدولة أسهمت في تشكيل النظام العالمي الذي لا نزال نعيش في كنفه إلى الآن، بقدر لم تسهم به أي دولة غيرها ومثلما صعد نجما كل من تاتشر وبلير من قبل في سماء السياسة الدولية، فإن المتوقع أن تتلألأ نجوم رؤساء وزرائها المستقبليين أيضاً.

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:alitihaad-28-12-2007