الدول النامية بين الصناعات الدوائية وحقوق الملكية الفكرية

 

د. أكمل عبد الحكيم 

 

 

على الرغم من حجم الاختراقات العلمية التي حققها الطب الحديث في مجالات الوقاية والتشخيص والعلاج، لا زالت العديد من شعوب الدول النامية غير قادرة على الاستفادة الكاملة من هذه التطورات الحديثة. فهذه الشعوب تعيش حالياً في دائرة مغلقة، ولا نهائية، من الفقر والمرض، والتي تظهر آثارهما في شكل تدهور اقتصادي مستمر، وانخفاض مضطرد في متوسط أعمار أفرادها. كسر هذه الدائرة يتطلب توفير المنتجات الطبية، وخصوصاً العقاقير، بأسعار تتناسب مع مستويات الدخل السائدة في هذه الدول. هذه القضية دائماً ما تحظى باهتمام فائق من قبل جمعية الصحة العالمية (World Health Assembly)، والمكونة من وزراء صحة 192 دولة، والمعنية بتحديد وتوجيه سياسات منظمة الصحة العالمية. هذا الاهتمام من قبل جمعية الصحة العالمية في توفير العقاقير الطبية بأسعار مناسبة لشعوب الدول النامية، تبلور في مايو من العام الماضي، من خلال إصدار توجيه لمنظمة الصحة العالمية بتشكيل مجموعة عمل تختص بدراسة تشابك قضايا الصحة العامة، والابتكار، وحقوق الملكية الفكرية. وينص تفويض مجموعة العمل تلك، على تحضير استراتيجية دولية وخطة عمل، تعنى بالأبحاث الطبية الأساسية والضرورية للتعامل مع الأمراض والمشاكل الصحية التي ترزح تحت وطأتها شعوب الدول النامية. ويتوقع أن تطرح خطة العمل الدولية هذه، ضمن فعاليات اجتماع جمعية الصحة العالمية في منتصف عام 2008، كي تناقش أفضل السبل لتنفيذها من قبل وزراء الصحة في معظم دول العالم.

ولكن، لن يمكن تحقيق هدف توفير العقاقير الطبية، وخصوصاً الضرورية منها، بأسعار مناسبة لشعوب الدول النامية، دون إيجاد حل للصراع الدائر بين الربحية التجارية التي تحميها حقوق الملكية الفكرية الدولية، وبين الحاجة الماسة لهذه العقاقير من قبل شعوب وأفراد يسيطر الفقر المدقع على جميع جوانب حياتهم. الطرف الأول في الصراع، أو الربحية التجارية، يتمثل في ضخامة حجم مبيعات شركات الأدوية المتعددة الجنسيات، والذي تخطى حاجز الستمائة مليار دولار العام الماضي. هذا الرقم، إذا ما قارناه بإحصائيات صندوق النقد الدولي عن حجم الناتج القومي الإسمي (nominal GDP) لدول العالم، فسنجد أنه يتخطى مجمل الناتج القومي لثلاث وأربعين دولة مجتمعة. أي أن شركات الأدوية متعددة الجنسيات، تحقق مبيعات سنوية تتخطى مجمل ما تنتجه اقتصاديات ربع دول العالم تقريباً. وبشكل آخر، تقارب مبيعات شركات الأدوية، مجمل الناتج الاقتصادي القومي لدول مجلس التعاون الخليجي الست، بكل مبيعاتها من البترول وجميع النشاطات الاقتصادية الأخرى، والبالغ سبعمائة مليار دولار. وإذا ما نظرنا عن قرب لبعض هذه العقاقير، مثل "اللبيتور" العقار الأكثر مبيعاً لأربعة أعوام متتالية، فسنكتشف أن مبيعاته البالغة ثلاثة عشر مليار دولار سنويا، تتخطى إجمالي الناتج القومي لثلاث وعشرين دولة.

الهدف من هذه الأرقام والإحصائيات والمقارنات، هو إظهار حجم مارد صناعة الدواء. أحد أهم الأسلحة التي يستخدمها هذا المارد في فرض سطوته على العالم، هو قوانين حماية حقوق الملكية الفكرية. ورغم أنه لا خلاف على ضرورة حماية الأفراد والشركات لإنتاجهم الفكري، ولاستثماراتهم في الأبحاث التي كثيراً ما تبلغ المليارات، إلا أنه ليس من الواضح الهدف من تسعير الأدوية بشكل يتخطى قدرة المرضى على شرائها من الأساس. فرغم أنه من المنطقي في الدول الغنية، تسعير الأدوية كجزء بسيط من متوسط دخل الفرد، فليس من المنطقي تسعير الأدوية في الدول الفقيرة بثمن يتخطى مجمل دخل الفرد السنوي. هذه السياسة تعني ببساطة، خسارة احتمالات تحقيق أي ربح من الزبون، والذي غالباً ما يفقد حياته تحت وطأة المرض. وهو ما يطرح التساؤل: أليس من الأفضل تحقيق ربح ولو بسيط، بدلاً من فقد الزبون تماماً بسبب عدم استطاعته دفع سعر الدواء؟ وتذهب شركات الأدوية في طغيانها وجبروتها إلى أبعد من ذلك، عندما تعمد إلى لي ذراع الحكومات والضغط على الدول الفقيرة، لمنعها من توفير الأدوية الأساسية لشعوبها. أفضل مثال على ذلك ما حدث في مارس عام 2001 ، عندما سارعت إحدى وأربعون شركة دواء بمقاضاة جنوب أفريقيا، بعدما سنت الحكومة قانونا يسمح باستيراد أدوية غير محمية بحقوق الملكية الفكرية، أرخص سعراً، لعلاج مرضى الإيدز، البالغة نسبتهم 20% من السكان. ولم تتوقف شركات الأدوية عن غيها هذا، إلا بعد موجة من الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية في العديد من مناطق العالم. هذه القصة تكررت عدة مرات في السنوات الأخيرة، وإن كانت بأشكال مختلفة مثل ما حدث في تايلاند بداية هذا العام. على الرغم من أن قوانين منظمة التجارة العالمية، تتيح للدول النامية الحصول على الأدوية الأساسية في حالات الطوارئ الصحية، من خلال تصنيعها محلياً أو استيرادها من الخارج، حتى وإن كانت لا زالت تتمتع بالحماية الفكرية. ولكن على ما يبدو أن شركات الأدوية العالمية، لا تعتقد أن وفاة مئة شخص يومياً في جنوب أفريقيا بسبب الإيدز، وتوقع وفاة ستة ملايين خلال الأعوام العشرة القادمة، يمكن تصنيفه كطارئ صحي. مثل هذا التناقض، والغلو أحياناً، ستسعى مجموعة العمل التابعة لمنظمة الصحة العالمية إلى إيجاد حل جذري له. ولكن إذا ما كان هذا الحل سيؤثر، ولو بقدر بسيط، على أرباح مارد صناعة الدواء، فلا يتوقع له حينها أن يرى النور.

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:الإتحاد الإماراتية-8-11-2007