البروقراطية و الثمن الذي ندفعه

 

 

د. صالح عبد الرحمن المانع

 

أوردت صحيفة الإتحاد الإماراتية مقالا بعنوان مأساة السلام 98 وعيوب البيروقراطية نصه:

أصيب كل من سمع بهول فاجعة غرق العبَّارة المصرية يوم الخميس الماضي، وغرق 1400 شخص من ركابها، بهلع وألم عظيمين· فمثل هذه العبارة القديمة التي مضى على بنائها أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، كانت بالفعل متآكلة ولا تصلح للإبحار، على الأقل بهذا العدد الكبير من المسافرين والسيارات·

ويبدو أن النكبات فعلاً تتداخل في هذه المأساة، فالسفينة لم تكن مجهزة بأدوات سلامة كافية، كما أن قبطانها كان على مرمى النظر من ميناء ضبا السعودي حين اندلعت النيران في غرفة المكائن، وكان الأحرى به أن يعيد السفينة إلى الميناء الذي انطلقت منه، بينما يحاول مساعدوه إطفاء ذلك الحريق، لكنه استمر في الإبحار وكأن شيئا لم يكن· كما أن نداء الاستغاثة الذي أطلقه أحد ملاحي تلك السفينة لسفينة أخرى تمتلكها الشركة، وكانت تمخر عباب البحر الأحمر في اتجاه معاكس، لم تلق أذناً صاغية من قبطان السفينة الأخرى· وحين سئل عن ذلك، قال إنه كان يخشى أن يستدير بسفينته في جو عاصف وبحر هائج، كما أن قبطان السلام 98 لم يرسل نداءات استغاثة إلى سفن حربية أميركية وبريطانية كانت موجودة في شمال البحر الأحمر، وكان من الممكن أن تمد يدها لإنقاذ السفينة المنكوبة·

وهكذا فإن ضعف العنصر البشري وعدم وجود تدريب كامل للملاحين، وعدم مقدرة القبطان على التصرف بحكمة وحنكة في مثل هذه الظروف الاستثنائية، ترينا بوضوح كيف أن التهاون في مثل هذه الأحوال، قد يقود بالفعل إلى كارثة·

ويبدو أن التواكل والبيروقراطية الهائلة، يقفان في بعض الأحيان حجز عثرة كأداء أمام تطوير المبادرات الشخصية، واتخاذ قرارات شخصية سريعة في أوقات الأزمات· فالتسلسل البيروقراطي والمركزية المفزعة وعدم إعطاء الصلاحيات الكافية للأفراد على رأس العمل، تجعلهم غير قادرين على الأخذ بزمام الأمور، وتجعلهم على الدوام بحاجة إلى توجيهات من جهات عليا، سواءً كانت جهات حكومية أو من بيروقراطية شركة الملاحة التي تملك هذه العبّارات· ويعرف كل من عايش البيروقراطية العربية أن الموظف ليس إلا أداة بيد رئيسه، الذي هو بدوره لا يستطيع القيام بأي عمل دون العودة إلى رؤسائه· بينما نجد في البيروقراطيات الغربية أن الموظف يعرف مسؤولياته وصلاحياته، ويعرف كيف يتصرف حين الأزمات مثل أزمة حدوث حريق في بطن مثل هذه السفينة أو غيرها من الأزمات· ولما كان كل شيء بقضاء وقدر، فإن جهات ككبار المسؤولين في مثل هذه الشركة الملاحية، أو في الهيئة البحرية التي أعطتها رخصة لنقل المسافرين في عرض البحر، لم تقم بعملها المنوط بها، بل آثرت أن تضع مصالح مثل هذه الشركة، فوق مصالح المواطنين والبشر الذين يتلقون خدمات النقل البحري بين الميناءين· وحسناً فعلت سلطات ميناء ضبا السعودي بعد أسبوع من حدوث الكارثة حيث امتنعت عن استقبال السفينة الأخرى السلام ،94 وتحميلها بالركاب والأمتعة، لأنها مثل السفينة المنكوبة، قديمة وغير مؤهلة لمثل هذه الخدمة وبشكل جيد وآمن·

وهكذا يستفيق موظفو الموانئ بعد حدوث النكبات والمآسي، ولو أن مثل هؤلاء الموظفين قاموا بعملهم على الوجه الأكمل، لما حدثت تلك المأساة في المقام الأول· وتذكرني مأساة السفن القديمة التي تمخر عباب البحر الأحمر، بمأساة يومية تحدث في الأجواء الأفريقية، فمعظم الطائرات المدنية الأفريقية هي طائرات روسية قديمة، كانت طائرات عسكرية وحولت إلى طائرات مدنية· وأذكر أنني سافرت على متن إحدى هذه الطائرات قبل سنوات قليلة، وفوجئت بأن قبطان الطائرة يخرج من مقصورته أثناء التشغيل التجريبي لمحركي الطائرة قبل طيرانها بنصف ساعة ليضيف بعض الزيت للمحركات· وبعد أن أقلعت الطائرة، أخبرني شخص يجلس إلى جانبي بأن طائرة مشابهة لمثل طائرتنا التي نمتطيها قد سقطت قبل أسبوعين من تاريخ رحلتنا الجوية، مما جعل معظم ركاب تلك الرحلة يتوجسون الخيفة·

ومثل هذه المآسي تتكرر في بعض الأحيان حين ينهار مبنى سكني على سكانه، بسبب ضعف الأساسات التي شيّد عليها، أو بسبب زيادة عدد الطوابق الملحقة فوق الطوابق المصرح بها· ومثل هذه المآسي تحدث بسبب الفساد الإداري الذي ينخر في بعض البلديات التي يفترض أن تشرف بشكل دقيق على هذه المباني، وأن تجيز بناءها في المقام الأول، بناء على تصاميم وكميات حديد وخرسانة ومعايير هندسية معتبرة· ولكن واقع الحال يعكس كل هذه التوقعات والمعايير الهندسية، فضعف دخل مهندسي التفتيش لدى البلديات في كثير من المدن العربية كانت أو غير العربية، يشجعهم على مد أيديهم للمقاولين والبنائين وملاك العقارات للتغاضي عن التجاوزات التي تحدث في هذه المباني· وللأسف فإن القوانين المدنية غير كافية لردع مثل هؤلاء المقاولين والمصممين والمهندسين المشرفين، أو لردع مفتشي البلديات الذين قد تخونهم أمانتهم في بعض الأحيان، ويضعون مصالحهم الشخصية فوق المصالح الاعتبارية لمواطنيهم، ولساكني هذه المباني·

المسألة إذن مسألة أخلاقية في المقام الأول، وسوء إدارة في المقام الثاني· ونحن نعاني من كلا المرضين، اللذين يفتكان بنا يومياً، ولكن مثل هذا الفتك يأخذ أبعاداً تراجيدية في مثل مأساة العبارة، أو مآسي انهيار المباني فوق رؤوس ساكنيها·

ويحق للمرء أو القارئ أن يتساءل وما هو الحل، وكيف لنا أن نتفادى مثل هذه المآسي مستقبلاً· وحيث إنني لا أؤمن بقدرة البيروقراطية على إصلاح ذاتها، فمن الأولى أن نعتمد على الأفراد والمنظمات والجمعيات الأهلية· وهناك حاجة لاستصدار قوانين في جميع الدول العربية، وفي منطقة الخليج بشكل خاص تتبنى إنشاء مثل هذه الجمعيات وتنظيم أعمالها·

ويمكن أن تبدأ مثل هذه الجمعيات الطوعية بتكوين جمعيات إغاثة لمنكوبي الزلازل والحرائق· ويمكن تدريب الشباب على مثل هذه الأعمال، فهي تعطيهم رسالة وطنية تجاه وطنهم وشعبهم، وتعطيهم شعوراً بالفخر بأنهم يؤدون مثل هذه المهمة الشاقة باحتراف وتفانٍ· ونحن نعلم أن تدريب الشباب على مثل هذه الأعمال أمر مكلف، ويحتاج أيضاً إلى تدريب كلاب بوليسية قادرة على شم أجساد الضحايا تحت الأنقاض، وكذلك استخدام واستيراد أجهزة متقدمة للبحث عن الناجين تحت ركام المباني· ونحن نعلم أن منطقتنا العربية والحزام الصخري المحيط بها في إيران وتركيا هي مناطق زلازل وتتعرض لكوارث سنوية· أما المجموعات التطوعية الأخرى التي يمكن إنشاؤها فهي مجموعات إنقاذ بحري· ويمكن تكوين هذه الجمعيات من الشباب الذين يقطنون شواطئ الخليج العربي والبحر الأحمر· ويمكن الاستعانة في هذا الشأن ببعض خبرات المتقاعدين أو المتطوعين من رجال البحرية في البلدان المطلة على هذه البحار· كما يمكن ربط هذه المنظمات ببعضها بعضاً عن طريق اللاسلكي والهاتف الجوال وغيرها من الوسائل بحيث يمكن أن تنسق أعمالها معا في أوقات الأزمات والشدائد· ومثل هذه الأعمال التطوعية الفردية والجماعية في رأيي يمكن أن تكون منافساً حقيقياً لبعض دوائر البيروقراطية وتقدم خدماتها بشكل سريع وفعال· وستمثل هذه الجمعيات أدوات منافسة ومرادفة تجعل الإدارات المسؤولة عن الإنقاذ تشعر بالخجل لعدم قدرتها على تقديم خدمات سريعة لمثل هؤلاء المنكوبين·

و كل ذلك بحسب رأي د. صالح عبد الرحمن المانع في المصدر المذكور.

المصدر: الإتحاد الإماراتية-11-2-2006