عاشوراء...جوهر الديمقراطية

 

 نـزار حيدر

 

تحت هذا العنوان، استضافني، مشكورا، الأسبوع الماضي، مركز دار السلام في العاصمة الاميركية واشنطن، لألقي محاضرة ضمن البرنامج الليلي الذي ينضمه المركز، احياءا لذكرى نهضة سيد شباب أهل الجنة سبط رسول الله (ص) الإمام الحسين بن علي عليهم السلام، والذي استشهد، مع ثلة من أهل بيته وأصحابه الميامين، في يوم العاشر من المحرم عام (61) للهجرة، على يد جيش الطاغية يزيد بن معاوية، على أرض كربلاء المقدسة بالعراق.

عنوان المحاضرة استقيته من فكرة جوهرية تتمحور حولها الرسالات السماوية جمعاء.

فبقراءة متأنية لآيات القرآن الكريم، نلحظ أن الهدف النهائي للرسالات السماوية، ولرسالة نبينا محمد بن عبد الله (ص)، يتجلى في تحقيق كرامة الإنسان، كانسان، بغض النظر عن لونه أو جنسه أو اثنيته، والى هذا المعنى تشير الآية الكريمة رقم (70) من سورة الإسراء{ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} وهي إشارة واضحة إلى أن الهدف هو كرامة الإنسان، وليس المسلم فحسب أو الشيعي على سبيل الفرض، إنما الهدف هو كرامة(بني آدم) وهي عبارة تعني كل البشر بغض النظر عن انتماءاتهم وأصولهم ومعتقداتهم، والى ذلك أشار الرسول الكريم بقوله(ص) {من آذى ذميا فقد آذاني}و{من ظلم معاهدا أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة}أو في قوله عليه وعلى آله أفضل التحية والسلام{من آذى ذميا فأنا خصمه، ومن كنت أنا خصمه، خصمته يوم القيامة}.

السؤال الذي يلح هنا للإجابة عليه هو؛

أين تتجلى كرامة الإنسان؟ وكيف؟.

برأيي، فان كرامة الإنسان تتجلى في ثلاث قيم أساسية واستراتيجية، هي اليوم محور الديمقراطية التي يكتب ويتحدث عنها ويبشر بها العالم، تلك القيم الثلاث هي:

أولا؛ الحرية، والتي تتمثل في حرية العقيدة والرأي والاختيار، وكذلك في حرية التعبير عن الذات.

ثانيا؛ المساواة بين الناس، وعدم التمييز بينهم على أساس خلق الله سبحانه وتعالى، كالتمييز على أساس اللون والجنس والانتماء القومي أو الجغرافي، كما تتجلى المساواة في مبدأ تكافؤ الفرص، إذ لا يحق الاستئثار بالفرص لجماعة وحرمان أخرى منها، إذ لا بد أن يتمتع الجميع بنفس الفرص وعلى كل الأصعدة وفي كل المجالات.

ثالثا؛ الشراكة الحقيقية والواقعية بين الناس في الشأن العام، فلا يجوز احتكار فئة للشأن العام، وحرمان الآخرين منه، بأية ذريعة، ولذلك، ليست الملكية من الإسلام في شئ، وان أي سلطة تقوم على أساس النظام الملكي الذي يفاضل بين الناس في الشأن العام على أساس القبيلة أو العائلة، التي يولد مولودها أميرا يتمتع بامتيازات خاصة على حساب سائر المواطنين، فهي باطلة لا أساس لها من واقع الدين أو الإنسانية أو حتى العقل، في شئ.

إن أي انتقاص من أي واحدة من هذه القيم، يعد بمثابة الانتقاص من كرامة الإنسان.

فتحديد حرية الإنسان، أو سلبها منه، بمثابة اعتداء على كرامة الإنسان، لأن العبودية ضد الكرامة، وان الإنسان إما أن يكون حرا أو أن يكون عبدا، ولا وجود لمنطقة وسط بين الحرية والعبودية، وان السلطة التي تنتقص، ولو ذرة من حرية الإنسان، إنما هي في حقيقة الأمر، تسلب كل حريته وليس بعضها، وبالتالي فهي تسلب كل كرامة الإنسان، لأن الكرامة كالحرية، وحدة واحدة لا تتجزأ، فإما أن يكون الإنسان كريما، أو أن يكون ذليلا.

كما أن التمييز بين الناس على أساس اللغة أو اللون أو الجنس أو ما أشبه، يعد بمثابة انتهاك صارخ لكرامة الإنسان، لأنك، في هذه الحالة، تفاضل بين إنسان وآخر في أمر ليس له رأي فيه، إنما هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله عز وجل.

نعم، يمكنك أن تميز بين الناس على أساس العلم والعمل وحسن الأداء والتقوى والصدق والأمانة والنزاهة والخبرة والتفاني والشجاعة، فتلك جميعا قيم وصفات يمكن للإنسان الحر، أي إنسان، أن يجتهد ليكسبها، وبالتالي ليتفاضل بها مع الآخرين، لأنها قيم قابلة للاكتساب، بامكان أي أحد أن يكتسبها، ولذلك لا يجوز لأحد أن يمنع أي إنسان من السعي لاكتسابها، والا فسنقع في المحذور مرة أخرى، ولارتكبنا خطأ التمييز بين الناس مرة أخرى، لأننا لم نفسح المجال أمام الجميع، وبالتساوي، لاكتساب هذه الصفات الحسنة والمهارات الايجابية، على أساس قاعدة مبدأ تكافؤ الفرص، لنفاضل، بعد ذلك، بينهم، فالفرصة أولا ثم التفاضل.

كما أن تكريس الطبقية السياسية في المجتمع، من خلال احتكار الشأن العام من قبل زمر معينة وحرمان الآخرين منه، يعد بمثابة العدوان على كرامة الإنسان، الذي يعبر عن نفسه عادة من خلال المشاركة في الشأن العام، ولذلك فان سلطة الحزب الواحد، تتناقض مع كرامة الإنسان، لأنها تسلبه حق المشاركة في الشأن العام بحرية، كما أن الاستبداد والديكتاتورية، أنظمة حكم تصادر كرامة الإنسان، لأنها تسلبه حق المشاركة في الشأن العام، كما أن الأنظمة الملكية، تتناقض مع كرامة الإنسان، لأنها تبني سقفا سياسيا فوق رؤوس الناس، لا تسمح لأحد تجاوزه، فتقمعه، أو تقتله إذا أصر على تجاوز السقف السياسي المحدد للشعب.

لقد استهدف السبط الشهيد بثورته الإصلاحية في العاشر من المحرم عام 61 للهجرة، إعادة الكرامة التي سلبتها السلطة الغاشمة من الإنسان، من خلال الممارسات المنحرفة التالية:

أولا؛ إنها تعمدت إذلال الإنسان، كما قال شاعرهم معبرا عن ذلك؛

فدع عنك ادكارك آل سعدى             فنحن الاكثرون حصى ومالا

ونحن المالكون الناس قسرا             نســـومهم المذلـــــــة والنكالا

ونوردهم حياض الخسف ذلا           ومــــــا نالـــوهم إلا خبـــــالا

ثانيا؛ التمييز بين الناس، في العطاء أولا، ومن ثم في كل الأمور، تاليا.

ثالثا؛ الاستحواذ على مقدرات الأمة، كما يشير إلى ذلك أحد ولاة السلطة بقوله(سواد العراق بستان لقريش، ما شئنا أخذنا منه، وما شئنا تركناه)، أو كما في قول الآخر(لنأخذن حاجتنا من هذا الفئ، وان رغمت أنوف أقوام).

رابعا؛ قمع المعارضة، والحيلولة دون الإعراب عن رأيها في أية قضية تخص المسلمين عامة، بل وصل حد القمع إلى أن منعت السلطة كبار الصحابة من ترك منازلهم إلا بأذن خاص، وهو أول قرار يقضي بفرض الإقامة الجبرية على المعارضين، للحيلولة دون لقاءهم بالناس والإعراب عن آرائهم، التي كانت تخشاها السلطة.

خامسا؛ الجبر والقهر والفرض، وسلب الناس حرية الاختيار التي تعد جوهر كرامة الإنسان.

ففرضت السلطات البيعة على الناس بالإكراه، كما يعبر عن ذلك نص الرسالة التالية التي بعث بها الطاغية يزيد إلى واليه على المدينة المنورة، الوليد بن عتبة(أما بعد فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وابن الزبير بالبيعة أخذا ليس فيه رخصة حتى يبايعوا، والسلام)، ومن المعلوم جيدا فان فرض البيعة يسلب الإنسان حريته وبالتالي ينتقص من كرامته.

سادسا؛ محاربة المعارضة في لقمة العيش حتى ترضخ لقرارات السلطة الغاشمة، فلقد صدرت الأوامر المشددة لحكام الأقاليم، أن(انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان، واسقطوا عطاءه ورزقه) وفي قرار آخر(من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكلوا به واهدموا داره).

سابعا؛ إشغال المعارضة والهاء الناس، لإبعادهم عن التفكير بشؤون الأمة، وقضايا السلطة، والى ذلك تشير نصيحة أحد مستشاري السلطة، والتي أخذت بها لسنوات طويلة، بقوله(رأيي يا أمير المؤمنين، أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك، وان تجمرهم في المغازي، أي تحبسهم في أرض العدو ببعوث عسكرية طويلة الأمد، حتى يذلوا لك، فلا يكون همة أحدهم إلا نفسه، وما هو فيه من دبرة دابته وقمل فروه).

وان أكبر تجاوز على كرامة الإنسان، تجلت يوم أن نزا على السلطة من لا يستحقها، ومن دون تفويض أو استشارة من الناس، وكأن السلطة ملك خاص لهذه الأسرة أو تلك القبيلة، فعندما حول الطاغية يزيد بن معاوية، الخلافة إلى ملك عضوض، يكون بذلك قد اعتدى على حرية الناس وكرامتهم، وقبل ذلك، يكون قد اعتدى على ابرز نص سياسي من نصوص القرآن الكريم، والذي يقول فيه الله عز وجل{وأمرهم شورى بينهم} فألغى، بالملكية، حرية الناس في الاختيار، وحال بينهم وبين الشراكة الحقيقة في الشأن العام، ولقد عبر السبط الشهيد عن هذه الظاهرة بقوله{على الإسلام السلام، إذا ابتليت الأمة براع مثل يزيد، ولقد سمعت جدي رسول الله (ص) يقول، الخلافة محرمة على آل أبي سفيان}، أو كما في قول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام{ولكني آسي أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولا وعباده خولا والصالحين حربا والفاسقين حزبا، فان منهم من شرب فيكم الحرام، وجلد حدا في الإسلام، وأن منهم من لم يسلم حتى رضخت له في الإسلام الرضائخ} وتلك هي حالة الأمة والسلطة في ظل حكومة الطاغية يزيد بن معاوية، ولذلك كان لا بد للسبط أن يتحرك لتصحيح الأوضاع مهما كان الثمن، فهو{أحق من غير} على حد قوله عليه السلام.

لقد اعتدت السلطة بكل هذه الممارسات، وأكثر، على كرامة الإنسان التي بعث الرسول الكريم من أجل تحقيقها، ولذلك كان لابد للإمام الحسين بن علي السبط، أن يتحرك من أجل إصلاح الأوضاع لإعادة الكرامة المسلوبة للإنسان في ظل السلطة الجائرة.

وأن أول ما استهدفه الإمام الحسين عليه السلام، في ثورته، هو محاولة استثارة حرية الإنسان الذي غررت به السلطة، فخرج لقتال ابن بنت رسول الله (ص)، ولذلك تركزت أقواله حول قيمة الحرية التي إن تذكرها الإنسان وسعى إلى صيانتها، لم يفقد كرامته، وبالتالي لم يجرؤ على ارتكاب جريمة بشعة كتلك التي ارتكبها الأمويون وجيش البغي في كربلاء.

تعالوا نقرأ ما قاله الإمام الحسين بن علي في هذا الصدد؛

{إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارا في دنياكم}{لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد}{موت في عز خير من حياة في ذل}{إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد فاسق فاجر شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله}{ألا وأن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت وحجور طهرت وأنوف حمية ونفوس أبية، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام}.

لقد حاول الحسين الشهيد عليه السلام، استثارة حرية الناس وغيرتهم وكرامتهم، ليعودوا إلى صوابهم فيفكروا بعقولهم دون أهوائهم، وبضمائرهم الحية دون الاستسلام إلى الشيطان الذي أغراهم فأغواهم فأنساهم ذكر الله عز وجل، لأن الإنسان الحر هو الذي يمتلك كرامته، والكرامة عقل سليم يفكر فيه الإنسان فيهتدي به إلى طريق الخير والصواب، وان الحر لا يرتكب جريمة بشعة يندى لها جبين الإنسانية، كجريمة قتل السبط الشهيد ابن بنت رسول الله(ص).

لقد اعتدى الحكم الأموي على كرامة الإنسان فسلب حريته وميز بينه واستولى على السلطة بالقوة، وعندما قرر الإمام الحسين عليه السلام الثورة على هذا الواقع الفاسد، إنما استهدف إعادة الكرامة المسلوبة للإنسان أولا، من خلال إثارة قيم الحرية والمساواة والشراكة الحقيقية في نفوس الناس، لإشعارهم بآدميتهم، لأن إنسان بلا حرية، هو إنسان بلا كرامة، وأن إنسان بلا كرامة، هو إنسان بلا آدمية، لأن آدمية الإنسان بحريته وكرامته، كما أن إنسان لا يمتلك حق التعبير عن نفسه ورأيه وما يعتقد به، لهو إنسان مسلوب الإرادة، أي مسلوب الحرية والكرامة، انه إنسان ميت الأحياء، ولذلك، فان أول ما تستهدفه كل الدعوات التي تدعو إلى تشييد الأنظمة الديمقراطية في أي بلد من البلدان، إنما تدعو، أولا، إلى تحرير حرية الإنسان، وتحرير إرادته، لتحرير كرامته التي يسلبها النظام الاستبدادي والديكتاتوري، ولذلك جاء في القرآن الكريم متحدثا عن فلسفة بعث الرسول الكريم{ليضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} لأن أول خطوة في طريق تبليغ الرسالة تتجلى في تحرير الإنسان، ليتمكن من اتخاذ قرار الهدى والرشاد بكامل حريته بعيدا عن الفرض والإكراه والجبر من قبل القوى المتسلطة بغير حق.

من هنا نفهم، أن ثورة الإمام الحسين عليه السلام، لم تكن ثورة طائفية أو أنها تنحصر، في أهدافها، بفئة معينة من الناس دون غيرهم، أبدا، بل أنها ثورة إنسانية أولا وقبل كل شئ، لأنها استهدفت (كما هو الإسلام) كرامة الإنسان كانسان بغض النظر عن أي شئ، لأن الحسين عليه السلام، وهو ترجمان القرآن الكريم، يؤمن بأن للإنسان كرامته التي فطر الله الناس عليها، ولذلك لا يجوز لأحد أن يعبث بها أبدا.

إنها ثورة من أجل الإنسان، وأن من يحاول أن يحصرها بفئة معينة إنما يظلم نفسه أولا، ويظلم الثورة وصاحبها ثانيا.

إن من الجريمة بمكان التعامل مع ثورة الحسين عليه السلام بطائفية، فنقول إنها ثورة شيعية أو أنها تخص الشيعة فقط، كما أن من الجريمة بمكان التعامل معها بأنها ثورة إسلامية أو أنها تخص المسلمين فحسب، إنها في الحقيقة ثورة إنسانية، على البشرية أن تحيي ذكرها كل عام، بل في كل يوم، فلولاها لما بقي شئ من كرامة الإنسان التي سحقتها السلطة الغاشمة، أو كادت، بسياساتها اللاانسانية المتعجرفة.

الحقيقة التي يلزم أن نتذكرها بهذه المناسبة، هي أن كل حركة أو ثورة أو سلطة لا تأخذ في حساباتها كرامة الإنسان، فتسعى لتحقيقها من خلال تكريس حرية الإنسان والمساواة بين الناس والحث والسعي على إشراكهم في الشأن العام، لهي حركة لا تمت إلى الحسين عليه السلام بصلة، وان تزيت بزي الحسين(ع) أو رفعت شعارات حركته الإصلاحية، لأن السبط عنوان كرامة الإنسان، فأية حركة إصلاحية (حسينية) هذه التي تتجاوز على كرامة الإنسان؟ وأية سلطة صالحة تلك التي تسحق حرية الإنسان؟ وأية ثورة إنسانية تلك التي تميز بين الناس وتسلبهم الفرص ولا تمنحهم حق المشاركة في الشأن السياسي العام؟.

إن الحركة الإصلاحية، أية حركة، هي تلك التي تبذل قصارى جهدها من أجل تكريس كرامة الإنسان من خلال احترام حريته وعدم التجاوز على حقوقه في المساواة وحرية الاختيار والمشاركة الحقيقية في الشأن العام، والا فهي حركة أموية مهما تجملت بالشعارات البراقة، وتغنت بالأهداف الحلوة والمعسولة، لأن الفرض والإكراه ليس من وسائل الحركة الإصلاحية الحقيقية، أبدا، وأن الذبح والقتل والتفجير والسيارات الملغومة والأحزمة الناسفة ليست الوسيلة لبناء مجتمع الكرامة الإنسانية، أبدا.

إن الحسين عليه السلام، لم يفرض نفسه وأهدافه على أحد أبدا، إنما حاول إقناع الناس وسعى لكسب إيمانهم به طوعا وليس كرها، ولذلك فهو بذل جهودا جبارة من أجل توضيح وتحديد أهداف حركته الإصلاحية كما في أقواله التالية؛

{فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، والدائن بدين الله، الحابس نفسه على ذات الله}في إشارة منه إلى أن السلطة القائمة ليست شرعية أبدا{ألا واني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا، أصبر حتى يحكم الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين}في إشارة منه إلى أن المطلوب هو قبول الحق فيه وليس قبول شخصه{أما بعد، فاني ادعوكم إلى إحياء معالم الحق وإماتة البدع، فان تجيبوا تهتدوا سبل الرشاد}في إشارة إلى الهدف الأسمى لحركته الإصلاحية{وأنا ادعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فان سمعتم قولي واتبعتم أمري، أهديكم إلى سبيل الرشاد}وفيه تخيير بلا فرض أو إكراه أبدا{أيها الناس، إن رسول الله (ص) قال، من رأى منكم سلطانا جائرا مستحلا لحرام الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول، كان حقا على الله أن يدخله مدخله، ألا وأن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفئ واحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق من غير، وقد أتتني كتبكم وقدمت علي رسلكم ببيعتكم، وأنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فان تممتم علي بيعتكم تصيبوا رشدكم، فاني الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله(ص) نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم، فلكم في أسوة}وهي إشارة واضحة إلى أن بيعتكم لي، هي التي أقامت الحجة علي وعليكم.

هذا من جانب، ومن جانب آخر، لم يكن الإمام عليه السلام، متهالكا على سلطة أبدا، فكان يقول بهذا الصدد؛

{اللهم انك تعلم أنه لم يكن ما كان منا، تنافسا في سلطان ولا التماسا من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وأحكامك}وهو نفس الخطاب الرسالي الذي نطق به أبوه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، عندما انثال عليه الناس يطلبون البيعة للخلافة، فقال{أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حابلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز} لماذا؟ لأن السلطة بالنسبة للإمام حق يسترد لمظلوم أو باطل يسقطه عن ظالم، والا فلا خير في سلطة أبدا، والى هذا المعنى يشير الإمام عليه السلام بقوله{الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه} فلا محاباة، في قاموس الإمام، ولا أثرة ولا محسوبية ولا رشاوى ولا فساد إداري أو مالي ولا تمييز بين قوي وضعيف، أبدا.

بل أن الإمام السبط عليه السلام، لم يشأ أن يقتتل المسلمون بسببه، ولم يشأ أن تراق الدماء بسببه، ولذلك، عندما وصله خبر استشهاد سفيره إلى الكوفة ابن عمه مسلم بن عقيل عليه السلام، في منطقة بين مكة والعراق تسمى (الزبالة) لم يشأ أن يخفي الخبر على من التحق به في مسيره من المدينة إلى الكوفة، ولذلك جمعهم وأخبرهم بالأنباء غير السارة، وأذن لمن شاء بالانصراف حتى لا يقولن أحد أن الحسين أجبره على مسير أو بيعة أو قتال أبدا، فقال لهم عليه السلام{أما بعد فانه قد أتاني خبر فضيع، قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج، ليس عليه منا ذمام} لأن الإمام كان واضحا في أهدافه، طاهرا في وسائله وأدواته، ولذلك كانت ثورته رسالية وربانية وإنسانية.

فعل ذلك عدة مرات، وكرره في آخر لحظة سبقت قرار الحرب في يوم العاشر من المحرم، بل أنه بادر إلى عقد عدة اجتماعات سرية وعلنية مع قائد جيش البغي لثنيه عن القتال، ولقد نجح في ذلك، إلا أن الأوامر المشددة التي صدرت عن الدعي بن الدعي عبيد الله بن زياد بن أبيه، والقاضية بقتل الحسين أو استسلامه، وهيهات، هي التي أفشلت كل جهود السلام.

لنقرأ المقطع التاريخي التالي الذي يرسم لنا الصورة التي كانت عليه الأوضاع في كربلاء قبيل بدء الحرب؛

{حتى إذا قدم عمر بن سعد قائد الجيش الأموي، فاوضه الحسين طويلا وأقنعه بأن يمسك الطرفان عن القتال ويرجع الحسين من حيث أتى أو يذهب إلى حيث يريد من بلاد الله، وكتب عمر بن سعد بذلك إلى عبيد الله بن زياد فأبى وكتب إليه: أما بعد فاني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السلامة والبقاء ولا لتقعد له عندي شافعا، أنظر فان نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إلي سلما، وان أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم، فإنهم لذلك مستحقون، فان قتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره فانه عاق شاق قاطع ظلوم، وليس في هذا أن يضر بعد الموت شيئا، ولكن علي قول، عهد للخليفة يزيد، لو قد قتلته فعلت هذا به}.

لقد حاول السبط الشهيد عليه السلام، أن يلقي الحجة بكل وسائل الحوار والمنطق السليم والحق الواضح، إلا أن القوم قد استحوذ عليهم الشيطان، فأنساهم ذكر الله عز وجل، فارتكبوا جريمة هي من أبشع الجرائم في تاريخ البشرية.

وأن من يريد أن يثأر لكرامته التي اعتدت عليها الإساءات التي تعرض لها الرسول الكريم(ص) في الإعلام الغربي، عليه أولا أن يحيي قيم الثورة الحسينية في نفسه ومشاعره وأحاسيسه، لتتحول إلى كرامة حقيقية تتشبع بها شخصيته، ولا يكون ذلك إلا بإعلان الولاء، أولا، لآل الرسول الكرام الذين قتلوا في كربلاء في العاشر من المحرم عام 61 للهجرة، إلى جانب إعلان البراءة ممن قتلهم واعتدى عليهم، ولولا تلك الإساءة الكبيرة التي تعرض لها الرسول الكريم(ص) بقتل سبطه وسيد شباب أهل الجنة، على يد السلطان الجائر الذي تلبس بلبوس الإسلام، وأمام مرأى ومسمع المسلمين، لما تحولت الطريقة البشعة تلك إلى (ثقافة) تتوارثها أجيال الأمويين، بالانتماء السياسي وليس بالنسب، لتصل إلينا اليوم طرق وأساليب يعتمدونها الورثة في قتل الإنسان على الهوية، كما يجري اليوم في العراق، فيقتل الإنسان العراقي على الهوية والانتماء، وبنفس الطرق والأدوات التي استخدمتها الفئة الضالة التي قتلت السبط الرسول(ص).

وأقولها بصراحة، فلولا استباحة الإرهابيين، الذين يتلفعون بالدين لتنفيذ جرائمهم وتحقيق مآربهم، لدماء الأبرياء، ولولا سكوت (علماء الإسلام) على هذه الجرائم، لما تجرأ أحد على الإساءة إلى مقدساتنا أبدا.

إن تجاوز الإرهابيين على كرامة الإنسان، هو الذي جرأ الآخرين على التجاوز على مقدساتنا، والإساءة للرسول الكريم(ص).

إن اكبر إساءة تعرض لها الرسول الكريم(ص) على الإطلاق، تمثلت في قتل سبطه الشهيد على يد حاكم جائر أساء للرسول عندما نزا على منبره، وهو الذي يعبد الله على حرف.

استغرب حقا، كيف تثور غيرة (المسلم) لكرامة دينه ونبيه عندما يسئ (إعلام الكفار) لنبيه برسم، وهو أمر مرفوض جملة وتفصيلا، ولا تتحرك في جسده شعرة، وهو يمر على ذكرى السبط الشهيد ابن بنت رسول الله (ص)، والذي قتل بتلك الصورة الشنيعة في رمضاء كربلاء، محاولا نسيانها أو تجاهلها، كما هو حال الإعلام (العربي) الذي يوصل الليل بالنهار، في أيام الذكرى، طربا ومجونا وخلاعة؟ ألا يرى (المسلم) في ذلك تناقضا صارخا يا ترى؟ أم ماذا؟ أم أنه لا يرى في قتل السبط أية إساءة للرسول الكريم(ص)، ولذلك لا يعير ذكراها أهمية تذكر؟.

السابع من شباط 2006