مقالات و محاضرات

 

 

بين الدستور والدمقرطة العراقية والتجارب العالمية 

 

 

كتب الدكتور محمد سعيد الشكرجي مقالا بعنوان الدمقرطة العراقية والتجارب العالمية نصه : 

 

د. محمد سعيد الشكرجي

 

باقتراب موعد الاستفتاء على مسودة الدستور الذي أقرته الجمعية الوطنية التأسيسية، في ظروف أثارت جدل الكثيرين، أحاول هنا ان أثبت وجهة نظر دستورية لا تهتم بالجدل السياسي أو السياسوي. اذ أثارت عملية الدمقرطة (تأسيس الديمقراطية) الجارية في العراق ولا زالت تثير مناقشات تتسم بانطلاقها في غالب الاحيان من مواقع سياسية وافكار مسبقة، كالاحتلال الذي سنتعرض له لا كشعار أو مبدأ سياسي، بل من وجهة النظر الدستورية. وكذلك الجدل حول مشروع الشرق الأوسط الكبير، ثم مدى ضرورة الالتحام بالامة العربية ضد الاخطار المحدقة بها، الخ. ويلاحظ المرء من جهة أن غالبية العراقيين، أحزاباً ومكونات اجتماعية، تبدو مؤيدة للعملية السياسية الجارية. ومن جهة أخرى، هناك المعارضون لهذه العملية، لأسباب عديدة، وتتصدرهم هيئات وشخصيات تُظهر مواقفها وتصريحاتهاأنها تريد وأد العملية الجارية في مهدها تحت يافطات سياسية تتعلق بوجود الاحتلال أو تتعلق بمصلحة من يدّعونَ تمثيلهم أو المصلحة الوطنية. وهناك فريق آخر اعتبر هذه العملية السياسية خطراً يجب محاصرته قبل ان يستفحل وينقلب وبالاً عليه، لذلك يريد هذا الفريق لا الاعتراض على مسودة الدستور فحسب، بل الدعوة الى مقاطعة الاستفتاء، ربما بسبب تخوفه من نتائج الاستفتاء وامكانية فضحها لدعواه بتمثيل قطاعات عريضة. لذلك نرى هؤلاء في محاولة دائبة لتفريغ العملية السياسية من محتواها وتسفيه مسودة الدستور وتجريدها من شرعيتها.

مقاربة الواقع: يجري الجدال اذن حول العملية الدستورية الجارية من خارج أرضيتها التي هي أساساً اجتماعية/تاريخية. حيث من وجهة نظر دستورية، ينبغي ان يتركز السؤال الكبير على تقييم التحولات الاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية الجارية، مع اعتبار التأثير السلبي الكبير للعمليات الارهابية، وهل نعتبر هذه التحولات، بشكل عام ورغم تعثرها الطبيعي هنا وهناك، خطوات ايجابية بالنسبة للواقع العراقي وارث ما قبل نيسان (أبريل) 2003 ؟

وحول مسودة الدستور مثلاً، هل نعتبرها وثيقة متقدمة لا بالنسبة لبلد غربي أو عراق افتراضي في أذهان المثقفين وبعض السياسيين، بل بالنسبة لواقع العراق المُعاش حالياً والتجربة الماضية وارثها الثقيل ؟

ولتقريب الفكرة:

لقد اعتبر الكثير من المراقبين انتخابات المجالس البلدية في المملكة العربية السعودية وكذلك ادخال المنافسة في انتخابات الرئاسة في مصر، رغم محدودية كل منهما، خطوة ايجابية ان استمرت وتطورت على الطريق الطويل. وفي العراق، تأخذ التطورات الديمقراطية أهمية خطيرة وطابعاً حاسماً، وتحتاج أيضاً وبداهة الى الاستمرار لتعميقها في الواقع العراقي. فالسؤال اذن، هل من شأن هذه التحولات أن تساهم في عملية تغيير هذا الواقع العراقي وارثه الدامي نحو الأفضل ؟ وفي حالة الايجاب، هل ينبغي دعم هذه التجربة وتكريسها بخطوات لاحقة، ومنها طبعاً تبني مسودة الدستور؟ وهنا تأتي هذه المسودة والاستفتاء عليها، كخطوة تاريخية أخرى لتكريس الشرعية الديمقراطية والدستورية (الدائمة) للدولة الجديدة، لا لهذه الحكومة أو تلك، وتنظيم عمل المؤسسات السياسية وحماية حقوق المحكومين في اطار النظام الجديد. أما في حالة الرفض الشعبي واعادة الكَرّة، فالنزاهة والخضوع لحكم الشعب يكرسان بطريقة أخرى المنهج الديمقراطي والاسلوب الجديد، رغم شوائبه، في التعامل مع الاختلاف في الرأي.

كيف تؤسس الديمقراطيات ؟

سأحاول هنا القاء الضوء على التجارب العالمية الكبرى التي أسست أنظمة ديمقراطية تعتبر، من قبل جميع المتخاصمين حول العملية الجارية في العراق، كمرجعيات في ميدان الانظمة الديمقراطية. وسأتعرض لما يجمع هذه التجارب من عناصر اطارية تحسم كونها ديمقراطية ام لا، اي هل تستجيب لشروط البناء الديمقراطي أم لا، علماً بأن منطلقات القانون الدستوري والنظم السياسية تعترف بالخصوصيات المتفردة للتجارب الديمقراطية الغربية والعالمية في تأسيس النظم الديمقراطية. لأنها، أي هذه الأنظمة، تمخضت عن تجارب بشرية واقعية يتتابع فيها الفشل والنجاح، وليست مثالية أو افتراضية. وهذا هو سر نجاحها لأنها عكست واقع مجتمعاتها وثقافتها السياسية وميزان القوى فيها، بشكل طبيعي لا بالافتعال أو التماهي بالآخرين. ولذلك أعتقد :

أن التجربة الحالية في العراق هي تجربة بناء ديمقراطي (او دمقرطة) بمعنى الكلمة وسوف تشكل، في حال استمرارها ونجاحها، مثلاً رائداً بالنسبة لأوضاع الشرق الأوسط، في بداية القرن الواحد والعشرين، وستدرس، كما أتوقع، في مادة القانون الدستوري كحالة متميزة للتنمية الديمقراطية.

نشأت النظم الديمقراطية في اوربا الغربية، وبقية بلدان العالم فيما بعد، في ظروف تاريخية خاصة بكل منها، وهذا ما يجعل الواحد منها لصيقاً بالبلد الذي نشأ فيه (بريطانيا أو فرنسا أو الدانمارك أوالولايات المتحدة الامريكية، أو ألمانيا الغربية ثم ألمانيا الموحدة، الخ). ولذلك يجب التأكيد على ان ملاحظة النظم الغربية الحالية أمر ضروري لغرض المقارنة أو حتى لاستلهام الدروس من التجارب الأخرى، ولكن من الخطأ الفاضح تاريخياً وسياسياً أن ننظر باستمرار صوب هذه النظم كمسطرة نقيس عليها صحة او خطأ ما يجري في العراق.

على المستوى الاجتماعي التاريخي،نشات الانظمة الديمقراطية الغربية وبشكل عام في واحدة من ثلاث سياقات:

1- السياق الأول والمؤسس للديمقراطية الغربية: عند نشوء حركة اجتماعية قوية تطالب بتحديد الاستبداد أو الملكية المطلقة وتأسيس استشارة الملك لأعيان البلد (امراء اقطاعيون، ثم ممثلوا الشعب في البرلمانات الأولى) والتدرج بذلك نحو نظام ديمقراطي وعلى قاعدة يمكن صياغتها كالتالي: (كل تحديد للسلطة المستبدة او المطلقة يشكل خطوة على طريق البناء الديمقراطي). وهذا ما حدث في اوربا الغربية، في سياق تطور تاريخي متدرج وذاتي الحركة، اي بدون تدخل مباشر لقوة خارجية، حيث كان لبروز البرجوازية الغربية واقتصادها الراسمالي (القائم ضمن أمور أخرى على تشغيل الاعداد الكبيرة من العمال في مراكز المدن) وثقافتها الجديدة (الفلسفة التنويرية) دور أساس في نشأة النظم الديمقراطية الكلاسيكية في هذه البلدان. 

2- السياق الثاني أو الامتداد للتجربة الأم: عندما يتبنى قادة ثورة أو حرب استقلال، بعد الاستيلاء على السلطة، الاسلوب الديمقراطي لحل مشكلة الحكم (اي من يحكم، وكيف؟). كما حصل ذلك في امريكا بعد استقلالها عام 1776 واتجاه قادتها نحو انشاء النظام الرئاسي الفيدرالي بعد تعميق وثيقة قانون أساس عُرفت لأول مرة في تاريخ العالم الغربي وسميت بالدستور. وقد حصلت حالات معدودة في هذا السياق، وغالباً من قبل المستوطنين البيض في أستراليا ونيوزيلاندا مثلاً. وليس لدينا أمثلة في العالم العربي على نجاحات من هذا النوع، ربما من جهة بسبب ظروف استقلال الدول وسيادة التقاليد القبلية، ومن جهة أخرى، لغلبة الفكر الثوري أو الثوروي في مواجهة الهجمة الاستعمارية، خلال القرن العشرين. أما التجربة التركية فقامت منذ عشرينات القرن الماضي على فرض الديمقراطية العلمانية بقوة العسكر وعلى حساب الارث الاسلامي لتركيا، الأمر الذي جعل الديمقراطية في هذا البلد محدودة بسيطرة الجيش على المقاليد الحقيقية للسلطة. الا أن وصول الاسلاميين الديمقراطيين الى السلطة، منذ سنوات عديدة، أعطى للتجربة الديمقراطية التركية زخماً مهماً بسبب نوع من التوازن نشأ بين الحكام العسكر وايديولوجيتهم الكمالية، من جهة، وسلطة الحكومة النابعة من البرلمان المنتخب، من الجهة الأخرى. 

3- السياق الثالث: عندما تصل قوى وجيوش أجنبية لتطيح بنظام استبدادي استفحل شره وفاض على صعيد الخارج واستعدى بذلك قوى خارجية فتاكة، مثل دول حلف فينا التي تجمّعت للاطاحة بنابليون بونابرت، والعودة للملكية في فرنسا، سنة 1814، مع بدايات التأسيس للآليات الديمقراطية البرلمانية (موريس دوفرجيه، دساتير فرنسا، طبعة باريس، ص 60-64). كذلك النظام الديمقراطي الذي تأسس كما هو معروف في اليابان والجزء الغربي من ألمانيا، في ظل احتلال الجيوش الغربية لهما، بعد عام 1945.

وهكذا نلاحظ ان السياق الأول الذي حصل في أوربا الغربية (بريطانيا، فرنسا)، يشكل أساس التاريخ الديمقراطي في العالم الحديث، حيث شكلت هذه المنطقة أول بوتقة أنتجت تدريجياً النظام الديمقراطي، كما عرفه العالم الحديث. أما مثال الولايات المتحدة (الثوري) فقام على تبني نتائج السياق الأول (أو الوطن الأم في أوربا الغربية) بعد الوصول الى السلطة، مع تجديدات بالغة الأهمية في تاريخ الدساتير وفي مجال النظم السياسية. في المقابل، تقوم أمثلة السياق الثالث على مواجهة تحديات البناء على أنقاض التجربة الماضية الأليمة بالاستفادة من الرعاية الخارجية الضرورية لضمان فرض النظام خلال فترة البناء، وكذلك للتمكن من تعميق المؤسسات الديمقراطية خلال فترة التمرس والنمو، ومنعاً للانزلاق من جديد الى مهالك الصراعات التي قد تؤدي الى أوضاع شبيهة بالانظمة السابقة.

وبالنسبة للعراق، فرغم التضحيات الجسام، لم تنجح الحركة الاجتماعية والسياسية، أيام الملكية مثلاً، في تغيير النظام القديم وتأسيس الديمقراطية فيه على طريقة السياق الأول. ولم يُقدم قادة انقلاب/ثورة 14 تموز على تأسيس  النظام الديمقراطي (السياق الثاني) في هذا البلد بل انفردوا بالسلطة وأضاعوا البلاد والعباد في صراعاتهم. والآن ورغم أن القوات الأمريكية أتت الى العراق لتحقيق المصالح الأمريكية بدون أي شك، يعتقد الكثير من العراقيين أن ارث الفترة الصدامية وعمق الجراح يفرض عليهم الاستفادة من وجود هذه القوات لتأسيس وتثبيت الديمقراطية في بلادهم، لحل اشكالية الحكم (من وكيف) أي لتقبـّل الانتخابات والخضوع للدستور ولتأسيس دولة القانون.

تقع التجربة العراقية الحالية اذن ضمن السياق الثالث (فرنسا القرن 19 ثم ألمانيا الغربية واليابان، بعد عام 1945) حيث انطلقت عملية الدمقرطة بعد اسقاط نظام صدام حسين على يد القوات الامريكية، وكان اجتياحه للكويت قد وضعه على القائمة السوداء، الا أنه ارتكب أيضاً أبشع الجرائم بحق أبناء شعبه من قطع الألسن والآذان ومن دفن المدنيين وهم أحياء في المقابر الجماعية واستخدام السلاح الكيمياوي. في هذا السياق التاريخي الدراماتيكي، ومن وجهة نظر القانون الدستوري، تقوم الشرعية الديمقراطية (لعملية تأسيس النظام الجارية حالياً)، على رغبة الأغلبية الساحقة من العراقيين، بمثقفيهم وأحزابهم التقليدية ومراجعهم الدينية والاجتماعية، بالاستفادة من الفرصة التاريخية المتاحة للتخلص من عهود الاستبداد والطغيان وكل ما انتجته من تفكك اجتماعي وتدهور ثقافي، يستحيل معهما الانخراط في عملية بناء ديمقراطي حقيقي دون السقوط في المنازعات وربما المجابهات المسلحة. وفي ظل الغياب المؤسف للدعم والمساعدة في هذا الاتجاه، في الفترة السابقة وحالياً، من قبل النظام العربي والأمم المتحدة والدول الأوربية، أصبح الوجود الأمريكي يشكل، رغم مواقفه السابقة من النظام المقبور ورغم رفض الكثيرين له وشكهم المُبـرّر بنواياه، فرصة قد لا تتكرر لتوفير الاطار الزمني اللازم لتحقيق البناء الديمقراطي، دون السقوط في فخ المنازعات المسلحة المحتملة. وفي الحقيقة، تفرض المبادئ الوطنية والالتزام بمصلحة الشعب العراقي ضرورة العمل، بخطوات متدرجة، أولاًً على اعادة الحياة الى جسم المجتمع المثخن بالجراح، وثانياً على بناء نظام سياسي جديد يسمح، تدريجياً أيضاً، بتمكين الشعب العراقي من أمره وامتلاكه فرص المشاركة الحقيقية في حكم نفسه.

* كاتب المقال باحث عراقي بقيم باريس

المصدر : إيلاف - 12-10-2005