كانت العقلانية من أبرز سماتها...الحداثة واللاعقلانية الثقافية
السيد يسين
النقد الذاتي الغربي عالجنا من قبل موضوع الرفض الإسلامي للحداثة والذي يقوم على أساس النظر إليها باعتبارها رمزاً وعلامة على الغرب الاستعماري الذي قام منذ منتصف القرن التاسع عشر باستعمار الشعوب الإسلامية والعربية، وأغفل هذا الرفض أن مفردات الحداثة الغربية وهي الفردية والعقلانية والاعتماد على العلم والتكنولوجيا والديموقراطية، كانت هي الأسرار الكامنة وراء التقدم الغربي. وفاجأتنا أحداث نشر صحف دنمركية بصور مسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام، وبعدما هدأت الضجة التي قامت في العالم الإسلامي، فوجئنا بسبعة عشر صحيفة دنماركية تعيد نشر الرسوم كرد فعل– كما تقول– لمحاولة ثلاثة شبان مسلمين اغتيال الرسام الدنمركي، وأضيف إلى ذلك تصريح بالغ الغرابة لوزير الداخلية الألماني دعا فيها الصحف الألمانية– باسم حق التعبير المزعوم– لإعادة نشر الرسوم المسيئة. ولذلك حاولنا في مقالنا الماضي «الرفض الغربي للعقلانية» التحليل الثقافي للظاهرة الدنمركية، والتي تحولت إلى هستريا غربية موجهة ضد الإسلام والمسلمين، وتعالت الأصوات العنصرية زاعمة أن حرية التعبير حق غربي مقدس. ووصلنا في تحليلنا الثقافي إلى أن هذا الاتجاه المتحيز والذي ينطوي على ازدراء لأديان الآخرين واحتقار لثقافتهم، فيه خيانة واضحة لمبادئ الحداثة. وأول مبدأ من مبادئ الحداثة هو العقلانية. ويمكن القول إن تطبيق مبدأ العقلانية في المجال الاقتصادي على وجه الخصوص، كان وراء التقدم الاجتماعي المذهل الذي شهدته البلاد الغربية بداية من عصر الثورة الصناعية وتبلور أسس المجتمع الصناعي، والإدراك السياسي المبكر للزعماء الغربيين وفي مقدمهم «بسمارك» أن زيادة الإنتاج وتنوعه لا تكفي، ولكن لابد من مراعاة بعد العدالة الاجتماعية. ومن ثم حاولت دول غربية متعددة تقليد ألمانيا على وجه الخصوص في مجال التأمينات الاجتماعية، بعد أربعين عاماً من المبادرة الألمانية التي هدفت أساساً إلى منع اشتعال الصراع الطبقي بين الرأسماليين والعمال. وشهدت العقلانية أيضاً تطبيقاً مبهراً حين نجحت الدول الغربية في تأسيس نظم سياسية ديموقراطية بعد نضال عنيف خاضته مختلف الطبقات الاجتماعية الأوروبية. غير أن هذه العقلانية المبهرة شهدت انتكاسة كبرى بعد ظهور النظم النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، لقد كانت هذه النظم في الواقع تمثل ردة تاريخية كاملة في مسيرة العقلانية الأوروبية، وشهدت هزيمة العقل أمام غرور القوة الفائقة. غير أن هذا التيار المعادي لحركة التاريخ سرعان ما اندثر بعد الهزيمة المدوية لدول المحور «ألمانيا وإيطاليا واليابان»، وعاد نهر الديموقراطية لكي يتدفق من جديد. بعبارة أخرى، استردت العقلانية السياسية عرشها المفقود، بل يمكن القول إننا في عصر العولمة أصبحنا نعيش في عصر الديموقراطية، التي أصبحت بعد خبرات إنسانية مريرة النموذج الأمثل للنظم السياسية. لقد انتهت– بسقوط الاتحاد السوفياتي – مرحلة النظم الشمولية إلى الأبد، وإذا كانت ما تزال هناك جيوب هنا وهناك للنظم السلطوية، إلا أن مسار التاريخ الصاعد لا بد عاجلاً أو آجلاً أن يقضي عليها. وإذا كان الغرب بذلك يكون استرد عقلانيته السياسية، إلا أنه في المجال الثقافي يبدو أنه من خلال الأصوات السياسية والفكرية العنصرية، قد أوغل- باسم حرية التعبير- في رفض العقلانية التي هي إحدى أسس الحداثة الغربية ذاتها! ويمكن القول إن التستر وراء حجة حرية التعبير للممارسات الشاذة الخاصة بازدراء الأديان وخصوصاً الدين الإسلامي، ليس سوى دليل على إخفاق النموذج الغربي للحداثة، لأنه إذا أراد الغرب خوض حروب ثقافية ضد الثقافات الأخرى وخصوصاً الثقافة الإسلامية والثقافة الصينية، فإن معنى ذلك إشعال الصدام بين الحضارات، وهذه مسألة تنافي العقلانية تماماً، لأننا في عصر العولمة نعيش حقبة تاريخية فارقة، تتميز بقبول التنوع الإنساني الخلاق إذا ما استخدمنا عنوان تقرير مهم أصدرته اليونسكو، وهذا التنوع الإنساني معناه في نفس الوقت التنوع الثقافي، وفي هذا المجال لابد من التأكيد على المبادئ التي سبق لليونسكو أن ركزت عليها في عديد من مؤتمراتها، وهي أنه ليست هناك ثقافة أسمى من ثقافة، وأن لكل ثقافة رؤيتها الفريدة للعالم ونعني النظرة للكون والمجتمع والإنسان، والتي ينبغي أن تحترم، إعمالاً لمبدأ شرعية الخصوصيات الثقافية، خصوصاً تلك التي تتميز بالانفتاح على الغير تأخذ وتعطى معه، وليست هذه التي تتسم بالانغلاق، غير أنه بالإضافة إلى رصدنا لظاهرة الرفض الغربي للعقلانية، لابد أن نرصد أيضاً– وفقاً لمؤشرات كمية وكيفية– تنامي ظاهرة النقد الذاتي الغربي. والنقد الذاتي الغربي تتنوع صوره وأنماطه، فهناك نقد ذاتي غربي سياسي، يقوم على التحليل النقدي للممارسات السياسية الغربية، وهناك نقد ذاتي غربي اقتصادي يركز على سلبيات الممارسات الغربية الاقتصادية، غير أن هناك– وهذا ما يهمنا هنا– نقد ذاتي غربي ثقافي، وتتعدد صور هذا النقد الذاتي في مجال الموضوعات التي يتناولها، غير أننا نركز على النقد الذاتي الغربي فيما يتعلق– على وجه الخصوص– بإغفال الدور البارز الذي قامت به الحضارة الإسلامية في مجال تأسيس الحضارة الغربية الحديثة. ونحن نعرف أن التاريخ الرسمي السائد لتاريخ الحضارة الغربية يزعم أنها انطلقت أساساً من الحضارة الإغريقية، مروراً بالحضارة الرومانية وصولاً إلى الحضارة الحداثة، وفي هذا التاريخ المزيف يسقط تماماً الدور البارز الذي لعبته الحضارة الإسلامية، في نقل الدول الغربية المتخلفة في القرون الوسطى إلى رحاب التقدم. لقد أرسلت الدول الأوروبية في عصر الأندلس الإسلامي الزاخر بفئات متعددة لعدد من الباحثين الأوروبيين إلى الأندلس لتعلم اللغة العربية، وترجمة المخطوطات العربية في الفلسفة والطب والعلوم والفنون إلى اللغة اللاتينية، وهذه الحقائق يعرفها تماماً مؤرخو العلم والثقافة في أوروبا، غير أنهم يجهدون في إخفاء هذه الحقائق، لتبدو الحضارة الغربية وكأنها نبت أصيل لم يتأثر في نموه بالحضارات الأخرى، سواء كانت الحضارة الإسلامية أو الحضارات الشرقية، ونقصد حضارات الهند والصين. غير أنه ظهرت في العقود الأخيرة كتب غربية كتبها باحثون غربيون مارسوا بجسارة النقد الذاتي، وأعادوا كتابة تاريخ الحضارة الغربية في ضوء الأدلة التاريخية والشواهد الأركيولوجية. ومن أبرز هذه الكتب قاطبة الكتاب الذي كتبه مارتن برنال وهو أستاذ جامعي أميركي متخصص في اللغة الصينية أساساً، ولكنه تحول إلى الدراسات التاريخية. وعنوان كتابه الذي خرج في جزئين كبيرين، «أثينا السوداء: في الأصول الآسيوية الأفريقية للحضارة الغربية» والجزء الأول عنوانه «تلفيق الإغريق» أما الجزء الثاني فعنوانه «الأدلة التاريخية والأركيولوجية» والتي يستشهد فيه بتحليل الأساطير وبالكشوف الأثرية، لكي يثبت أن الحضارة الإغريقية استمدت أفكارها الدينية وأساطيرها وعلمها من الحضارة المصرية الفرعونية وغيرها من الحضارات. وفي هذا تكذيب صارخ للتاريخ الغربي الرسمي. وقد فرضت على الكتاب مؤامرة صمت لمدة ثلاثة سنوات كاملة، واضطر الباحثون من بعد لمناقشته والتعقيب عليه علانية، بعد أن هدد أسس التاريخ الغربي الرسمي. وفي هذا السياق نشرت أستاذة أميركية سوداء متخصصة في الأنثروبولوجيا كتاباً ملفتاً للنظر عن نقد الحضارة الغربية من وجهة نظر أفريقية. وقد اختارت هذه الباحثة واسمها «دينا ريتشاردز» لكتابها اسماً أفريقياً مستمداً من إحدى اللغات الأفريقية، كما أنها– إمعانا في العودة إلى الجذور– تسمت باسم إفريقي بدلا من اسمها الأميركي. والكتاب محاولة بالغة العمق في نقد الأسس الفلسفية والفكرية للحضارة الغربية. غير أن هناك مؤلفين غربيين آخرين لم يقنعوا بنقد التاريخ الرسمي للحضارة الغربية، ولكنهم أرادوا أن يبرزوا دور الحضارات الأخرى في تأسيسها، ومن أبرز هذه الكتب الكتاب الذي ألفه «جي. جي. كلارك» رئيس قسم تاريخ الأفكار في جامعة كنغستون في لندن بعنوان «التنوير الآتي من الشرق: اللقاء بين الفكر الآسيوي والفكر الغربي» والذي صدر عام 1997. وفيه تأصيل كامل لتأثر الثقافة الغربية بالثقافة الآسيوية. (والكتاب له ترجمة عربية مشرقة أنجزها شوقي جلال في سلسلة عالم المعرفة، كانون الأول (ديسمبر) 2007). وآخر هذه الكتب الكتاب الذي ألفه دبلوماسي أميركي سابق هو تشارلز هاملتون مورغان بعنوان «تاريخ ضائع» يحاول فيه إعادة رسم اللوحة التاريخية للحضارة الغربية، ويكشف بالتفصيل عن الإنجازات الإسلامية في ميادين العلوم والفلسفة والطب والأدب، والتي أقامت على أسسها أوروبا عصر النهضة، والذي كان مقدمة التقدم الغربي المستمر. وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق. المصدر:daralhayat-16-3-2008
|