في سبيل بناء نظرية لحوار الحضارات

(2)

 

زكي الميلاد

 

 

شرحنا في المقالة السابقة كيف أن غارودي عبر عن حوار الحضارات بوصفها نظرية واضحة, يعرف مقاصدها وغاياتها وماذا يريد منها. ونحاول في هذه المقالة شرح كيف أن هنتنغتون هو الآخر عبر عن صدام الحضارات بوصفها نظرية واضحة, يعرف مقاصدها وغاياتها وماذا يريد منها, تمهيداً لمعرفة هل نحن نعرف ماذا نريد من حوار الحضارات؟

وهل توجد لدينا نظرية في هذا الشأن؟ وما هو السبيل لبناء نظرية لنا في حوار الحضارات؟

وهذا ما يفسر اهتمام هنتنغتون بمفاهيم القوة والتفوق الدينامية والتحالف, ويدعو الغرب إلى إعادة النظر في أنماط رؤيته وعلاقته بالعالم, بقصد المحافظة على فرادته ووحدانيته وليس من أجل عالميته وكونيته, العالمية التي يرى فيها هنتنغتون أنها قد تكون سبباً في الصدام بين الحضارات, وحسب تحليله فإن العالمية الغربية (خطرة على باقي العالم لأنها قد تكون سبباً في حرب بين الدول الرئيسية في الحضارات المختلفة, وخطرة على الغرب نفسه لأنها قد تؤدي إلى هزيمته, ومن ثم فإن مسؤولية القادة الغربيين تكمن ليس في محاولة جعل الحضارات الأخرى على صورة الغرب ومثاله, وهو أمر أكبر من طاقاتهم, بسبب انحسار قوتهم, وإنما في الحفاظ على  العالمية الغربية خطرة لأنها قد تسبب الحرب بين بلدان العالم وقد تؤدي إلى هزيمة الغرب نفسه الخصائص الفريدة للحضارة الغربية وحمايتها وتقويتها).

لهذا فإن هنتنغتون قد حدد خطة واستراتيجية لنظريته في صدام الحضارات, لصون الحضارة الغربية على حد تعبيره, وهذه الخطة تكشف بوضوح كبير البنية السياسية والدوافع السياسية لهذه النظرية, والانحياز التام للمصالح الغربية, ودورانها في الإطار السياسي والاستراتيجي الغربي, ومن ثم فلا يمكن أن تفهم هذه النظرية أو تفسر إلا في ضوء هذه الخلفيات.

ولا يخفي هنتنغتون حقيقة خطته المقترحة ومكوناتها, بل يجاهر بها ويكشف عنها بصراحة تامة, حيث يقول: (ولصون الحضارة الغربية على الرغم من انحسار قوة الغرب, ومن مصلحة الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية أن تنجز:

1- الاندماج السياسي والاقتصادي والعسكري, وأن تنسق سياساتها لتمنع دولاً من حضارات أخرى من استغلال الخلافات في ما بينها.

2- أن تضم إلى الاتحاد الأوروبي وإلى حلف الأطلسي الدول الغربية في أوروبا الوسطى, أي دول قمة فيزغراد بلدان البلطيق وسلوفينيا وكرواتيا.

3- أن تشجع تغريب أمريكا اللاتينية, وجذب دولها بقدر الإمكان نحو الغرب.

4- أن تكبح نمو القوة العسكرية التقليدية وغير التقليدية للدول الإسلامية, وللبلدان ذات الثقافة الصينية.

5- أن تمنع اليابان من الابتعاد عن الغرب والاقتراب من الصين.

6- أن تعد روسيا الدولة الرئيسة في العالم الأرثوذكسي, وقوة إقليمية أساسية تملك حقوقاً مشروعة في أمن حدودها الجنوبية.

7- أن تحافظ على التفوق التكنولوجي والعسكري للغرب على الحضارات الأخرى.

8- أخيراً وخصوصاً, أن تعترف بأن أي تدخل للغرب في شؤون الحضارات الأخرى, سيشكل على الأرجح السبب الأخطر لعدم الاستقرار, ولنزاع شامل في عالم متعدد الحضارات).

التعامل مع عالم الحضارات بهذا المنظور السياسي, والتخطيط الاستراتيجي, هو الذي أثار مخاوف العالم من مقولة صدام الحضارات, خصوصاً أنها جاءت في مرحلة ما بعد الحرب الباردة, لذلك فقد صدمت العالم في محاولتها لاصطناع انقسامات جديدة هي أشد عمقاً وخطورة من الانقسامات التي كان عليها العالم في مرحلة الحرب الباردة.

وحينما أراد هنتنغتون أن يدافع عن هذه النظرية أمام ردود الفعل العنيفة والواسعة حولها في مختلف مراكز العالم, حاول أن يصور هذه النظرية على أنها نظرية تفسيرية لما يجري في العالم من انقسامات ونزاعات وحروب, على خلفيات دينية وثقافية وقومية, في حين أن الخطة السياسية والاستراتيجية التي يقترحها تؤكد أن مقولته ليست مجرد نظرية تفسيرية فحسب, بل هي نظرية إنشائية أيضاً, وهذا هو مصدر الخوف منها, ويبقى الجامع المشترك بين نظريتي غارودي وهنتنغتون هو الغرب ناظراً ومنظوراً إليه.

وكل ذلك بحسب رأي المؤلف نصاً ودون تعليق .

المصدر: okaz