دول وبنوك وسياسات
محمود عوض
من الطبيعي والمعتاد في مثل هذا الوقت من كل سنة أن يراجع الناس في
ذاكرتهم أبرز الأحداث والشخصيات في السنة المنتهية. ولأول وهلة تتجه
الذاكرة إلى تلك الأحداث التي احتلت الصفحات الأولى ومقدمات نشرات
الأخبار. لكن من الطبيعي بدرجة أكبر- وأكثر
حكمة في الواقع - أن نتوقف تحديدا عند
الأحداث التي تعبر عن إرهاصات بالمستقبل. أحداث قد تمثل بطبيعتها جملة
اعتراضية على السياق العام المتداول إقليميا ودوليا. وربما لهذا السبب
تحديدا جرى التعتيم عليها وعزلها في حينها، خصوصا في إعلامنا العربي
الذي يبدو أنه في معظمه أصبح يستسهل إعادة تدوير المادة الإعلامية
الجاهزة الواردة إليه لإعادة ضخها، بدل ممارسة تفكير مستقل يفرز الأهم
من الأكثر أهمية.
من تلك الأحداث الأخيرة التي أراها، وربما آخرون غيري، ذات دلالة
تتجاوز إطارها الزمني والإقليمي ما جرى في بونيس ايريس عاصمة الأرجنتين
في العاشر من الشهر الجاري حينما اجتمع ستة من رؤساء دول أميركا
اللاتينية لكي يعلنوا رسميا قيام مؤسسة مالية جديدة باسم «بنك الجنوب»
كان يدعو إليها ويلح عليها منذ سنة 2004 هوغو شافيز رئيس فنزويلا.
البنك الجديد سيبدأ برأسمال سبعة بلايين دولار وتشارك فيه فنزويلا
والبرازيل وبوليفيا والإكوادور والأرجنتين والأوروغواي وباراغواي وتكون
مهمته تمويل مشاريع إنمائية في المنطقة حيث: «يسمح البنك ـ الجديد ـ
لأميركا اللاتينية بالتحرر من سلاسل التبعية المالية» بحسب تعبير
الرئيس الإكوادوري في خطابه. ومن وجهة نظر هوغو شافيز رئيس فنزويلا فإن
هذه الخطوة الجديدة ستسمح لدول المنطقة بالتحرر من سطوة وهيمنة صندوق
النقد الدولي والبنك الدولي حيث هو يعتبر أن «صندوق النقد الدولي يمثل
مصيبة في سياساته الصدامية التي حملت إلى شعوبنا الجوع والبؤس والعنف».
عند هذه الجملة الأخيرة أضاءت لمبات حمراء في أماكن عديدة أهمها واشنطن
المقر الدائم للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي منذ قيامهما في سنة
1944 كركائز أساسية في النظام الدولي الجديد الذي أرادته أميركا تعبيرا
عن وضعها العالمي المسيطر والمستجد على ضوء الحرب العالمية الثانية.
ومع إضافة منظمة التجارة العالمية التي نشأت في سنة 1995 اكتمل الثالوث
الذي أصبحت أميركا تعتمد عليه في ترجمة وضعها الإمبراطوري المستجد، ليس
فقط في مواجهة دول الجنوب النامية والفقيرة، وإنما حتى دول الشمال التي
قد تتطلع إلى منافسة أميركا اقتصاديا في الساحة الدولية.
في ظروف عادية كان خبر إقامة «بنك الجنوب» من سبع دول في أميركا
اللاتينية يمكن اعتباره مجرد حدث محلي أو إقليمي لا يتجاوز نشره
الصفحات الاقتصادية في الصحف والبرامج المتخصصة في الإعلام المرئي
والمسموع. لكن في الظروف الدولية الراهنة يصبح لمثل هذا الحدث دلالات
أعمق وأكثر أهمية.. من حيث المكان والملابسات والطموحات والنتائج
القابلة للحدوث.
المكان هو أميركا اللاتينية، وهي التي اعتادت السياسة الأميركية منذ
قرن ونصف اعتبارها الفناء الخلفي للولايات المتحدة الذي لا تسمح لأي
قوة منافسة بالتطفل على مصالحها فيه. فلنأخذ كوبا مثلا وهي مجرد جزيرة
صغيرة يسكنها عشرة ملايين من السكان. لكن لأنها تبعد عن الساحل
الأميركي في فلوريدا ثمانين ميلا، ولأن النظام الحاكم فيها منذ استيلاء
فيديل كاسترو على السلطة في كانون الثاني (يناير) 1959 ليس على هواها
فقد أصبحت تلك القوة العظمى تفرض حصارا ومقاطعة مستمرين ضد الجزيرة
الصغيرة هو الآن في العقد الخامس، وبحجة أن النظام الحاكم شيوعي وعميل
لموسكو، مع أن المؤرخين الأميركيين الثقاة يقرون بأثر رجعي أن السياسة
الأميركية بحماقتها وعنجيتها هي التي دفعت بكاسترو وكوبا إلى الشيوعية
أساسا.
ويذكر المؤرخ الأميركي البارز الراحل آرثر شليزنجر رحلة كان قام بها
إلى هافانا عاصمة كوبا قبيل استيلاء فيديل كاسترو على السلطة فيها
فيقول: «لقد أصابني الشحوب من الطريقة التي تحولت بها مدينة هافانا
الجميلة إلى كازينو ضخم للقمار وبيت كبير للبغاء لرجال الأعمال
الأميركيين الذين يذهبون إليها من ميامي لقضاء عطلات نهاية الأسبوع...
مغتصبين الفتيات من عمر 14 سنة. وبناء على هذا وحده يستغرب المرء كيف
لا يشعر أي مواطن كوبي نحو الولايات المتحدة سوى بالكراهية».
ومع أن أميركا تعتبر كوبا وكل أميركا اللاتينية فناءها الخلفي المحرم
على غيرها إلا أن الرئيس جون كينيدي وجد عند استلامه الرئاسة أنه في ما
بين سنتي 1945 و1960 تلقت يوغوسلافيا،وهي بلد واحد وشيوعي، أموالا من
الولايات المتحدة أكثر من كل ما تلقته دول أميركا اللاتينية مجتمعة. في
حينها كانت الحرب الباردة في ذروتها والصراع الأساسي مع الاتحاد
السوفياتي كقوة منافسة محوره أوروبا، أما العالم الثالث ـ أو عالم
الجنوب ـ فمؤجل إلى ما بعد الحسم في المسرح الأوروبي.
هكذا بدا الاهتمام الأميركي بأميركا اللاتينية منحسرا ليصبح طوال الحرب
الباردة من مهام وكالة المخابرات المركزية ووزارة الدفاع، مع استعداد
لمواجهة صارمة مع الاتحاد السوفياتي لإرغامه على سحب صواريخه من كوبا
في سنة 1961 مقابل تنازلات غير معلنة في تركيا. واتسمت تلك الفترة
بالعمل سرا وعلنا لحماية وتعظيم مصالح الشركات الأميركية الكبرى
المسيطرة على اقتصاديات دول أميركا اللاتينية. لقد مضت تلك السنوات في
انقلابات وتحالفات وتغييرات دموية لم تكن وكالة المخابرات المركزية
بعيدة عنها، ولا كانت الشركات الأميركية أيضا بعيدة عن تشكيل الأحداث
بما فيها شركة الموز الأميركية التي قامت بتمويل انقلابات وحكومات في
دول سميت في الأدبيات السياسية «جمهوريات الموز».
تغير الزمن ولم تعد حجة العمالة لموسكو السوفياتية الشيوعية قائمة بعد
تفكك الاتحاد السوفياتي ذاته. مع ذلك فإن الرغبة في الاستقلال عن
الهيمنة الأميركية أصبحت اقوى وأقوى بما جعل نظما جديدة يتوالى وصولها
إلى السلطة في عدد من دول أميركا اللاتينية، وبالانتخاب الشعبي الكاسح
في هذه المرة. في فنزويلا مثلا وصل هوغو شافيز إلى السلطة في سنة 1998
حاصلا في انتخابات نزيهة على 56 في المئة من الأصوات. وفي نيسان
(ابريل) 2002 فشلت محاولة انقلاب ضد شافيز لم تستمر سوى أقل من 48 ساعة
كان البيت الأبيض أعلن خلالها عن ترحيب أميركا بالانقلاب الجديد قبل أن
يفاجأ بأن شعب فنزويلا اسقط الانقلاب وأعاد شافيز إلى السلطة.
في بوليفيا أدت قوة حركة الشعب الأصلي إلى وصول إيفو موراليس إلى
السلطة بالرغم من ضغوط وزارة الخارجية الأميركية. كذلك لم تنجح كافة
الضغوط الأميركية في منع انتخاب دانييل أورتيغا إلى السلطة في
نيكاراغوا، أو رافائيل كوريا في الإكوادور. وحينما جرى في بناما
الاجتماع السابع والثلاثين للجمعية العامة لمنظمة الدول الأميركية في
حزيران (يونيو) الماضي طلبت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية
إرسال لجنة تحقيق إلى فنزويلا لتحليل أسباب عدم تجديد حكومة شافيز
للترخيص الممنوح لمحطة راديو وتلفزيون في فنزويلا رفض المجتمعون الطلب
الأميركي بما جعل الوزيرة الأميركية المعزولة تغادر الاجتماع.
وفي محاولة لاستعادة أميركا لبعض هيمنتها على دول أميركا اللاتينية قام
الرئيس جورج بوش في آذار (مارس) الماضي بجولة استمرت ستة ايام في خمس
دول هي البرازيل وأوروغواي وكولومبيا وغواتيمالا والمكسيك، اختار شافيز
رئيس فنزويلا أن يقوم بجولة متزامنة مضادة شملت الأرجنتين وبوليفيا
مسميا الرئيس الأميركي «شيطاناً تفوح منه رائحة الكبريت»
ومقابل الغضب الشعبي الذي قوبل به الرئيس الأميركي في كل مكان
كان الترحيب الشعبي يستقبل شافيز.
هذا وغيره دفع بيتر حكيم رئيس مؤسسة الحوار الأميركي ليتساءل: هل
واشنطن على طريق خسارة أميركا اللاتينية؟ بينما خرج مويزيس نعيم مدير
مجلة السياسة الخارجية الأميركية عن دائرة التساؤل إلى دائرة التقرير
حينما قال: «أميركا اللاتينية قارة ضاعت منا».
وبعيدا عن التراشق والتساؤل والتقرير فإن ما تواجهه أميركا في «فنائها
الخلفي» منذ سنوات لم يكن ايديولوجي الدوافع كما كان الزعم سابقا،
وإنما لأن الشعور في ذلك «الجنوب الأميركي» يعبر عن مواجع حقيقية من
الهيمنة الأميركية. في سنوات السبعينات والتسعينات مثلا طلبت فنزويلا
مساعدة من صندوق النقد الدولي فاشترط عليها أولا ترك الاستثمار في
الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية وتحرير الأسعار وفتح أسواقها أمام
السلع الأجنبية ومعظمها بالطبع أميركي.
وفي الأرجنتين كانت المصيبة أفدح. فخلال سنوات الثمانينات جرجرت أميركا
الأرجنتين ـ مباشرة أو من خلال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ـ إلى
برنامج شامل للخصخصة، بما يعني بيع الشركات العامة وحتى المرافق
المملوكة للدولة إلى القطاع الخاص الذي ينتهي به الأمر إلى الحيازة
الأميركية، وبما في ذلك احتياطي الأرجنتين من الغاز والبترول. فكانت
النتيجة المؤكدة خرابا مستعجلا أدى بأكثر من ستين في المئة من شعب
الأرجنتين للانحدار إلى ما تحت خط الفقر بينما عشرون في المئة جوعى
فعلا، وبلغت معدلات الفساد والجريمة والعنف أعلى المستويات.
لا تستطيع أميركا أو أي دولة ممارسة مثل هذه الهيمنة إلا إذا كان لها
عملاء ومستفيدون وسماسرة في مراكز السلطة العليا. وفي بعض اللحظات
التاريخية كانت الصورة تنقلب بشكل عبثي. في سنة 1961 مثلا أوفد الرئيس
الأميركي جون كينيدي وفدا محدودا إلى أميركا الجنوبية لاستكشاف إمكانية
تعديل السياسة الأميركية في المنطقة. في حينها كان آرثر شليزنجر
المستشار المقرب إلى كينيدي عضوا بذلك الوفد. وفي الأرجنتين تحديدا
فوجئ شليزنجر بوزير الاقتصاد الأرجنتيني ينطلق في دفاع مستميت عن سياسة
بدأتها حكومته لتحرير التجارة وتخفيض الإنفاق على الخدمات وممارسة
سياسة مالية انكماشية وإعطاء امتيازات غير مسبوقة إلى القطاع الخاص...
إلخ. وزير الاقتصاد الأرجنتيني لم يكن يعرف أن شليزنجر يعرف أن تلك
السياسات هي أصلا طلبات سرية سابقة من صندوق النقد الدولي والبنك
الدولي، وبضغط أميركي غير معلن في سنوات رئاسة دوايت ايزنهاور. لكن ما
جعل شليزنجر يشعر بالحيرة حقا ـ حسب ما سجله في ما بعد ـ هو أن ذلك
الدفاع الحار من وزير الاقتصاد الأرجنتيني يتجاهل بالكامل حقيقة انخفاض
الدخل القومي الحقيقي للأرجنتين نتيجة لتلك السياسات بنسبة عشرة في
المئة وانخفاض الأجور الحقيقية بنسبة ثلاثين في المئة نتيجة إلغاء
الدعم الحكومي للسلع الغذائية الأساسية وتضاعف معدلات البطالة
والجريمة. وفي كتاب له سجل شليزنجر مشاعره بقوله: «إذا كان ذلك الوزير
يدافع عن تلك السياسات لإرضائنا فإنني أستغرب حقا: هل هو لا يفهم أن
الإدارة في واشنطن تغيرت؟».
على أي حال، عهد جون كينيدي انتهى باغتياله. والذي استمر متصاعدا هو
الاستخدام الأميركي للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتاليا منظمة
التجارة العالمية من أجل الهيمنة الاقتصادية الأميركية وخصوصا في سنوات
انفرادها بعرش القوة عالميا كما تعتقد هي. تلك المنظمات الثلاث تقدم
المشورة نفسها للدول النامية: انكماش اقتصادي، خروج الدولة من
الاستثمار، بيع شركات القطاع العام للمشتري الذي ترشحه أطراف استشارية
أميركية وبأسعار متدنية بحجة تشجيع المشترين لأن وقتهم ضيق وزبائنهم
كثيرون، تحرير التجارة وتخفيض أية رسوم على السلع المستوردة، السماح
لرأس المال الأجنبي بالدخول والخروج مشتريا وبائعا بلا قيود... إلخ.
وللحصول على معونة صندوق النقد الدولي يجب على الدولة أولا أن تصبح
عضوا في البنك الدولي. وللحصول على قروض البنك الدولي يجب الالتزام
ببرامج الصندوق. وحتى الذهاب إلى «نادي باريس» لإعادة جدولة الديون
المتأخرة يجب على الدولة الاتفاق أولا مع صندوق النقد. وهكذا تصبح
الدولة المعنية داخل دائرة جهنمية محكمة من السيطرة والهيمنة تقود في
نهاية المطاف إلى أميركا. ويقر آرثر شليزنجر بأنه لو كان صندوق النقد
الدولي مثلا موجودا في القرن التاسع عشر حينما كانت أميركا ماتزال دولة
نامية، ولو قدر لأميركا وقتها أن تأخذ بمعاييره: «فإن مشوار نمونا
الاقتصادي كان سيصبح أطول بكثير. وفي مواعظنا الآن للدول النامية بأن
تأخذ بتلك المعايير فإننا نصبح في موقع الداعرة التي، بعد أن حققت من
الدعارة أموالا تسمح لها بالتقاعد المريح، أصبحت تعظ الآخرين بالتزام
الفضيلة».
انتقادات شبيهة بذلك وجهها جوزيف ستيجليتز كبير الاقتصاديين في البنك
الدولي سنة 1999 بعد أن روعته الكوارث الاقتصادية التي أفضت إلىها
نصائح ومشورة صندوق النقد الدولي إلى دول عديدة من روسيا إلى جنوب شرقي
آسيا إلى البرازيل. هو استقال في حينها من البنك الدولي ليواصل
انتقاداته بحرية. وبينما حصل تاليا على جائزة نوبل في الاقتصاد فإن نفس
السياسات استمرت داخل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
هذا يعيدنا إلى ذلك القرار الذي اتخذه رؤساء الدول الستة في أميركا
اللاتينية في العاشر من الشهر الحالي. قرار إنشاء «بنك الجنوب». القرار
سبقه في أيار (مايو) الماضي انسحاب فنزويلا من عضوية صندوق النقد
الدولي والبنك الدولي بعد سداد كل ديونها لهما. كذلك قامت بوليفيا بطرد
ممثلي صندوق النقد والبنك الدولي لديها بعد الخضوع لهما عشرين سنة.
الانسحاب هو مجرد احتجاج يعبر عن الغضب. ولكي يتحول الغضب إلى طاقة
إيجابية يصبح المهم هو التحرك لإقامة بديل أفضل.
هذا البديل العملي الجديد ـ بنك الجنوب ـ كما تصوره هوغو شافيز من
البداية سيؤدي إلى «الكف عن إيداع احتياطياتنا المالية في بنوك
الشمال.. ولكي نتمكن من التصرف بمواردنا بغية تبادل المساعدة.. بدلا من
الاقتراض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي « وبشروط سياسية ضمنية
أو صريحة. وهدف البنك هو «تمويل التنمية الإقتصادية والإجتماعية في
الدول الأعضاء». أو كما عبر لويس لولا داسيلفا رئيس البرازيل فإن «بنك
الجنوب خطوة مهمة لتعزيز الاستقلالية المالية لأميركا الجنوبية». وفي
الخلاصة اتفق الرؤساء المجتمعون في عاصمة الأرجنتين يومها في
انتقاداتهم اللاذعة لسياسات وبرامج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي
لمساهمتها في رفع مستوى الديون والفقر في أميركا اللاتينية في سنوات
الثمانينات والتسعينات قائلين إن بنك الجنوب هذا: «لن يفرض رقابة مهينة
على شعوبنا كما يفعل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي».
للوهلة الأولى تظاهر روبرت زوليك رئيس البنك الدولي منذ شهر تموز
(يوليو) الماضي بعدم القلق قائلا إن في أميركا اللاتينية مجالا متسعا
للعمل. يجوز. لكن فكرة مماثلة كان دعا إليها مهاتير محمد في العقد
الماضي وقت رئاسته لحكومة ماليزيا حاربتها أميركا بشدة مانعة اليابان
من التجاوب مع فكرة إقامة ذلك البنك الإقليمي على مستوى آسيا.الآن ربما
تقامر أميركا على البرازيل باعتبارها صاحبة الاقتصاد الأكبر لكي تقوم
بدور الفرامل لإحباط هذا البنك الجديد من داخله. هذا بالضبط ما جعل
صحيفة مهمة ناطقة بلسان الشركات الكبرى عابرة القارات والجنسيات لكي
تدعو البنك الدولي إلى نوم مريح هانئ.
ربما. لكن ما يجعل لإقامة «بنك الجنوب» أهمية خاصة هنا ثلاث حقائق
مجردة. أولا: إن قادة الدول المنشئة للبنك يعرفون أن شعوبهم اكتوت بما
جرى من خلال الهيمنة الأجنبية على اقتصادياتهم. ثانيا: إن أولئك القادة
كانت لديهم البصيرة الكافية لكي يخرجوا من دائرة رد الفعل إلى دائرة
الفعل. لم يعد يكفي مجرد الشكوى من أميركا وكأنها قدر لا فكاك منه.
أميركا تسعى لتعظيم مصالحها وهو من طبيعة الأمور. قادة الدول الأخرى
مسؤوليتهم الأولى نحو شعوبهم هي أيضا طرح البديل والسعي إليه بإرادة
سياسية كافية. ثالثا: إن الامتحان الفاصل لأي توجه اقتصادي/سياسي هو
إدراك المواطن العادي بأنه أصبح أمامه فعلا مستقبل أفضل. والطريق إلى
ذلك بالضرورة هو أن يتعامل السياسيون مع شعوبهم بجدية وشفافية كاملين.
ويظل فهم مغزى ما جرى مرتبطا بالشرح والتفسير لعامة الناس. وربما كان
أولئك القادة من أميركا اللاتينية أكثر ذكاء حينما بادروا سابقا بعمل
قناة تلفزيونية مشتركة برأسمال عشرة ملايين دولار. وحينما بدأت تلك
القناة بثها التجريبي في 24/7/2005 قالت إن هدفها هو أن يرى مواطنو
أميركا اللاتينية أنفسهم من خلال عيونهم هم، وليس بعيون أي أحد آخر.
عقبى لنا.
وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر
المذكور نصا ودون تعليق.
المصدر:daralhayat-30-12-2007
|