"الغذاء مقابل النفط"... معادلة عالمية
جديدة!
بول كينيدي
كان من الأمور الممتعة دوماً بالنسبة لي، النظر في الدور الذي تلعبه
الصدفة البحتة في التاريخ... أحد الأمثلة على ذلك، أن بريطانيا العظمى
بحلول منتصف القرن الثامن عشر كانت تمتلك أكبر صناعة لبناء السفن في
العالم. وفي الوقت الذي كانت فيه تلك المصانع تنتج المئات إن لم يكن
الآلاف من السفن الشراعية كل عام، كان بعض المخترعين الإنجليز يشتغلون
على إنتاج الماكينات البخارية، التي كانت بمثابة اختراع سحري في ذلك
الوقت وفر كميات هائلة من الطاقة المضمونة من جانب وتم استخدامه من
جانب آخر لتحويل السفن الشراعية إلى سفن بخارية.
وكان السؤال في ذلك الوقت هو: أين توجد أفضل أنواع الفحم اللازمة
لتشغيل تلك الماكينات ؟ وكان الجواب أن أفضل أنواعها هو الفحم
البيتوميني الخاص، الذي يوجد في مناجم في جنوب ويلز. وكان بناء السفن،
والطاقة البخارية، والفحم هي العناصر التي دفعت الإمبراطورية
البريطانية قدماً للأمام على مدى الـ 150 عاماً التالية، وهو ما مثل
بالطبع مصادفة سعيدة لها ولسكانها.
في اللحظة الراهنة ربما تكون أبصارنا شاخصة إلى مصادفة عولمية أخرى
طويلة الأمد، وأن كانت تختلف في شكلها عن المصادفة التي تكلمنا عنها
توا، لأن الاتجاهات الجيوبوليتكية التي سأصفها تشير إلى سيناريو (مكسب-
خسارة)، وليس سيناريو (مكسب- مكسب) كما كان الأمر في نموذج الآلة
البخارية.
الاتجاه الأول هو الاتجاه نحو ارتفاع أسعار النفط العالمية التي وصلت
في الوقت الراهن إلى مستويات قياسية-وهناك احتمالات قوية أنها ستزداد
مستقبلاً- مقارنة بما كانت عليه خلال العشر أو العشرين سنة الماضية.
والسبب في ذلك معروف جيداً، وهو الزيادة الهائلة في الطلب على الطاقة
من قبل الاقتصادات الآسيوية الضخمة وخاصة الصين والهند، بالإضافة إلى
عدم قدرة الأمم الأكثر ثراء( أميركا واليابان وأوروبا) على تخفيض
مستويات استهلاكها من الطاقة سوى بكميات محدودة
وتشير المقالة المثيرة للاهتمام التي ظهرت في صحيفة "النيويورك
تايمز" في التاسع من شهر ديسمبر الحالي إلى أن ما يُفاقم هذا الاتجاه
هو الاستهلاك المسرف والمتزايد للبنزين في الدول المصدرة للنفط نفسها.
فهذه الدول تقول لنفسها: طالما أننا نعوم على بحر من النفط فلماذا لا
نستمتع به.
يبلغ سعر اللتر من البنزين في المملكة العربية السعودية وإيران في
الوقت الراهن 50 سنتاً، في حين لا يزيد سعره في فنزويلا عن مبلغ زهيد
هو 7 سنتات في الجالون. والمشكلة الوحيدة – والتي قد تتحول فيما بعد
إلى كارثة- هي أن بعض تلك الدول تبذر أصولها المادية ومصادر ثروتها
بسرعة كبيرة، لدرجة دفعت بعض الخبراء إلى القول بأنها قد تضطر إلى
استيراد البترول في مستقبل ليس بعيداً. وهذا يحدث في إندونيسيا على
سبيل المثال، وقد يحدث أيضاً في المكسيك خلال عقد واحد من الزمان، وفقا
للعديد من خبراء الطاقة. ومما يؤسف له أن الألم الذي ستشعر به تلك
الدول لن يقتصر عليها وحدها ونظراً لارتفاع
أسعار النفط، فإن الأمر المحتم هو أن الناس سيلجؤون إلى مصادر الطاقة
البديلة التي يعتبر أكثرها جاذبية في الوقت الراهن هو الإيثانول
المستخرج من قصب السكر (بشكل رئيسي في البرازيل) أو الذرة (بشكل رئيسي
في الولايات المتحدة).
ونظراً لأن هناك المزيد، والمزيد من المساحات الزراعية في الغرب الأوسط
الأميركي التي يتم تحويلها في الوقت الراهن إلى زراعة الذرة، فإن
النتيجة الحتمية هي أن إنتاجية بعض المحاصيل الأخرى مثل فول الصويا على
سبيل المثال قد انخفضت ولكن الطلب على فول
الصويا يرتفع بشكل سريع مرة أخرى، وهو ما يرجع إلى زيادة الاستهلاك في
قارة آسيا. فمن المعروف أن عدد قطعان الخنازير في الصين يبلغ عشرات
الملايين، وأنها تلتهم كميات هائلة من الوجبات المعدة من فول الصويا كل
عام. وقد أدت زيادة أسعار فول الصويا نتيجة للارتفاع الهائل في الطلب
عليه إلى زيادة دخول مزارعي هذا المحصول في ولاية "إيوا" على وجه
الخصوص، وهو ما يجعل هؤلاء المزارعين كما رأى "جون أوثرز" في مقالته
الأسبوعية الرائعة "التي نشرت في صحيفة "الفاينانشيال تايمز" في الثامن
من ديسمبر الجاري، أكثر تفضيلاً للعولمة مما يتخيل بعض المرشحين
الرئاسيين الأميركيين.
هل هذا الارتفاع الكبير في الأسعار- سعر فول الصويا تسليم مؤجل يزيد
هذا العام بنسبة 80 في المئة عما كان عليه العام الماضي- مرشح
للاستمرار؟ ليس هناك شخص يستطيع أن يقطع بذلك، ولكن الزيادة المستمرة
في عدد السكان في العالم، والزيادة الكبيرة في الدخول الحقيقية لما
يزيد عن ملياري شخص بمختلف أنحاء المعمورة خلال السنوات الأخيرة،
سيُترجم من دون شك إلى زيادة مطردة في استهلاك البروتين في العالم، أي
زيادة كميات الاستهلاك من اللحوم الحمراء، والدجاج والأسماك، وبالتالي
زيادة الطلب على الحبوب التي تستخدم علفاً لها.
وقد قامت "الإيكونومست"- وكأنه ليس لدينا ما يكفينا من الهموم
والمشاغل- بنشر مقالة مُفزعة تحت عنوان" نهاية الطعام الرخيص" حرصت
فيها ومن خلال عرض مسهب على توصيل هذه الفكرة لأذهان القراء. وقد تضمنت
هذه المقالة عرض مؤشرات بيانية للأسعار تبدأ من عام 1845 أي في ذروة
السجال الذي احتدم في ذلك الوقت حول إلغاء قوانين الذرة السيئة
السمعة(رسوم التعرفة الزراعية) في بريطانيا. ومؤشر أسعار الطعام هذا
العام، أزيد منه في أي عام خلال الـ 162 عاماً الماضية، وهو ما يحمل في
طياته توقعات قاتمة لفقراء المدن في مختلف أنحاء العالم، ولكن يحمل في
الوقت نفسه منافع مالية للمزارعين ولكن ماذا
يعني هذا بالنسبة لجيوبوليتيكا القوى العظمى خصوصاً الولايات المتحدة
والصين؟ بالنسبة للثانية تعتبر هذه الاتجاهات خطيرة للغاية، لأنها
ستحتاج إلى البحث عن مصادر خارجية، لتوفير احتياجات 1.4 مليار نسمة إلى
النفط والغاز والمواد الغذائية والأخشاب والحديد، والصلب والزنك
والنحاس، وهي احتياجات آخذة في التزايد.
ولكن ماذا عن الولايات المتحدة؟ هنا نعود إلى ما ذكرته سابقة عن
سيناريو الربح والخسارة. فزيادة احتياجات الولايات المتحدة من النفط
على نحو مطرد لن يكون أمراً جيداً لها من الناحية الاستراتيجية
والاقتصادية كما سيؤدي إلى الإضرار بميزان المدفوعات، وإلى إرهاق
الدولار ويجعلها معرضة لمخاطر حقيقية أو متخيلة- بسبب تعطل أنابيب نفط،
أو خطوط نقل بحري عبر المحيط ورأيي أن النفط
هو أكبر نقطة اعتماد أميركية على الخارج، وهنا مكمن الخسارة. أما أسعار
المحاصيل الغذائية العالمية، فإن اتجاهاتها الحالية ستشكل لأميركا بلا
شك قوة حقيقية ودائمة.
لقد تعلم العالم الكثير من خلال سياسة النفط مقابل الغذاء التي لوثت
سمعة الأمم المتحدة منذ أعوام قليلة، ولكننا نجد أمامنا الآن علاقة
أكثر إثارة، وأوسع نطاقاً، وأطول مدى زمنياً بين هاتين المادتين
المهمتين للغاية للوجود الإنساني. وليس المقصود أنه سيكون علينا أن
نختار بين النفط أو الغذاء، ولكن المقصود هو أنه في العقود القادمة سوف
تقوم أمم الكرة الأرضية بزيادة اهتمامها وبالتالي تقديرها للسلع
الأساسية مثل الحبوب وماء الشرب والبنزين. والدول التي تتوفر لديها هذه
الأشياء سيكون مستقبلها زاهراً، أما الدول التي لا تمتلك سوى مصادر
محدودة فستواجه مستقبلاً كالحاً. في حين أن الدول التي سيكون بها وفرة
في بعض تلك المواد ونقص في بعضها الآخر كالولايات المتحدة مثلا، فستكون
عرضة لتطورات مثيرة.
وكل
ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.
المصدر:alitihaad
|