أسواق المال العالمية.. الاضطراب الكبير .. الهدوء الحذر

 

إعداد: عبد الله الذبياني

 

 

 

لم تعد الانظمة المالية محكمة وكافية لضبط عملية السير الاقتصادية في عالم بات يبحث عن هوامش ربحية عاجلة وفاحشة، ماحدث لم يكن سوى وصمة عار في جبين المنظومة الاقتصادية العالمية وبخاصة النظام المالي والاقتصادي الغربي وتحديدا في الولايات المتحدة التي كشفت المعلومات الأولية أن أكبر خمسة بنوك فيها متورطة بشكل مباشر في هذه القروض وبالتالي فإن تعرضها لأي أزمة مالية أو اقترابها من الإفلاس يعني تهديدا للنظام المصرفي ليس في أمريكا وحدها بل في الدول التي تستشرف قوانينها المالية والمصرفية من واشنطن فضلا عن انتشار تلك البنوك حول العالم بالقروض والاستثمارات مما يعني أيضا اتساع فجوة الأزمة لتطول العالم (الاقتصاد العالمي بأكمله) ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل كان تحرك البنوك المركزية كافيا، أم لم يتجاوز كونه مجرد مسكنات مؤقتة للتهدئة وأن المبالغ التي تم ضخها في أسواق النقد خلال أيام الانهيارات لن تتجاوز منافعها ساعات التداول التالية للقرار؟

فالمخاوف باقية وتشكل هاجسا مقلقا للبورصات العالمية ولأسواق المال والسلع بشكل عام وربما تقود إلى هيكلة شاملة في أنظمة الأسواق المالية.ماذا على دول المنطقة وتحديدا دول مجلس التعاون الخليجي عمله لتلافي آثار تلك الانهيارات ولتجنيب إقتصاديات بلادها المخاطرة التي تعيشها أميركا والرأسمالية المتوحشة؟ *

* مثّل التراجع الذي شهدته أسعار الأسهم أخيرا أسواق المال العالمية منعطفا خطيرا ألقى بظلاله على الأسواق العربية، ولكنه في ذات الوقت وفر فرصة حقيقية لفهم كيفية نشوء أزمة بهذه الضخامة وبالتالي دراسة إمكانيات تجنب تأثيراتها السلبية على الأسواق المحلية.

بدأت الأزمة بعد تزايد حدة قلق المتعاملين في أسواق المال بشأن الظروف التي تمر بها أسواق الائتمان في العالم والتي أرجع المحللون معظمها إلى المشاكل التي تعرضت لها سوق الإقراض العقاري الأمريكي المعروفة باسم "ساب برايم" والتي تمنح للراغبين في السكنى من دون الاشتراط بأن يكون للمقترض سجل مالي قوي، والتي ساهمت في تدهور أسعار الأسهم بشكل ملحوظ خلال الفترة الماضية، وقد كانت أسهم القطاع المصرفي وعلى وجه التحديد بنوك يو بي إس، وإتش إس بي سي، وباركليز قاطرة الانهيار في أسعار الأسهم، حيث كانت هي الأكثر تضررا خلال الأزمة، وهو أمر لفت أنظار المحللين الماليين الذين فسروا ذلك بأن المستثمرين في البورصة لا يعرفون أي البنوك معرضة لمشكلات الائتمان العقاري ومدى خسائرها المحتملة، فبدأ الجميع في البيع بشكل هستيري على الرغم من أن الصورة المستترة تبدو أكثر إيجابية مما يعكسه هذا الذعر العام.

أعباء المستهلكين تتزايد

وزاد من تعقد المشكلة أن أثارت شركات البيع بالتجزئة في الولايات المتحدة مخاوف من تباطؤ معدلات الاستهلاك، وقد أدى ذلك بأن تلحق أسهم معظمها بأسهم المؤسسات المصرفية، وفي الوقت الذي بدا فيه سهم شركة نستله يمضي في اتجاه الصعود عكس التيار بعد إعلان الشركة تحقيق نمو يفوق توقعاتها، تنبأت وولمارت أكبر شركة للبيع بالتجزئة في الولايات المتحدة بتراجع أرباحها بسبب معاناة زبائنها من الضغوط الاقتصادية التي ترتبت على ارتفاع أسعار النفط، ولهذا السبب تم الإفصاح في الأيام التالية عن بيانات أظهرت أن مبيعات التجزئة الأمريكية قد ارتفعت في الشهر الماضي، كما تراجعت أسهم المصدرين جراء انتشار القلق من تباطؤ الاقتصاد الأمريكي وربما العالمي، فالمؤسسات المالية ستصبح أكثر حذرا بطبيعة الحال في منح القروض، كما أنها ستضع جزءا من النقد جانبا كإجراء احتياطي في مواجهة احتمالات الخسارة المتزايدة لذات السبب، وهو ما يعني في وجهه الآخر أن الشركات والعملاء العاديين لن يحصلوا بسهولة على القروض التي يحتاجون إليها، وعلى هذا الصعيد علقت قرابة 70 شركة رهن عقاري أمريكية عملياتها وأعلنت إفلاسها أو عرضت للبيع منذ بداية العام الماضي 2006 وحتى الآن، وذكرت شركة "كونتري فاينانشيال" أن مصاعب سوق الرهن العقاري أصبحت تهدد أرباحها ووضعها المالي جديا، وأخيرا أعلنت شركة "هوم مورتجيج إنڤستمنت" إفلاسها، وانخفضت الإيرادات ربع السنوية لشركة "تول بروذرز" العقارية، وأعلنت شركة هوم ديبو العاملة في المجال العقاري توقع تراجع أرباحها أيضا بسبب تراجع سوق العقارات السكنية.

حلول غير حاسمة

لقد كان العالم في الأسابيع الماضية يواجه أزمة سيولة مركبة، وقد أثار دهشة المحللين أن الإجراءات التي اتبعتها الحكومة الأمريكية عن طريق مجلس الاحتياطي الفيدرالي بضخ المزيد من السيولة إلى النظام المصرفي لم تفلح في طمأنة المستثمرين المنزعجين من مشكلات الإقراض بشكل كامل، ولم تتعد آثار ذلك الإجراء تهدئة البورصات المضطربة لمدة يومين، ثم عادت بعدها أجواء التراجع وسط تجدد المخاوف لدى المستثمرين وعدم وجود بيانات وتصريحات من البنوك الأمريكية وشركات التمويل توضح كيفية التعامل مع أزمة التمويل العقاري التي هزت السوق.

واستتبع هذا الإجراء بإجراءات شبيهة جرى التنسيق لها من جانب البنوك المركزية في أوروبا وآسيا التي قامت بدورها بضخ المليارات عن طريق اتفاقات إعادة شراء لأجل ليلة واحدة لتوفير السيولة النقدية في البنوك مستهدفة الحفاظ على استقرار أسعار الفائدة، أما أستراليا فقد قام بنكها المركزي برفع معدل الفائدة بنسبة ربع في المائة ليصل إلى %6.5 وهو أعلى معدل منذ 11 عاما، وهو إجراء استهدف الحد من التضخم وكبح جماح الإقراض الذي بلغ أعلى مستوياته منذ عام 1998.

 وعلى الرغم من كل هذه الإجراءات إلا أن هذا لم يؤد إلى منع انتشار الظاهرة عالميا، والتي عبرت عن نفسها في تراجع أسواق المال في كل من تايلاند وماليزيا وهونج كونج وإندونيسيا وكوريا وسنغافورة وتايوان كان تراجع سوق الصين أقل من نظيراتها الآسيوية حيث أعلنت البنوك في الصين أنها لا تمتلك استثمارات مرتبطة بمشكلات الرهن العقاري الأمريكي، وفي أوروبا وصف المحللون الماليون الأزمة هناك بأنها أزمة خطيرة تهدد النظام المالي الأوروبي ولكنها ليست كارثية، وقد تراجعت أسواق السويد وهولندا والنرويج وبلجيكا والنمسا والدنمارك وفنلندا وانخفض مؤشر فاينانشيال تايمز البريطاني وداكس الألماني وكاك 40 الفرنسي وڤوستي البريطاني وميبتل الإيطالي وتوبكس الأوسع نطاقا والذي سجل أدنى نقطة منذ نوفمبر من العام الماضي 2006 ومؤشر نيكاي الياباني الذي أقفل عند أقل معدل له منذ ثمانية أشهر، وذلك بعد أن انعكست مشاعر المستثمرين المضطربة بشكل واضح على مؤشر داو جونز الصناعي الذي اهتز بعنف في الأسبوع الماضي لينخفض إلى مستويات أدنى من حاجز الـ 13000 نقطة، بينما فقد مؤشر ناسداك نحو 1.7 من قيمته.

300 مليار مشكوك في تحصيلها

صندوق النقد الدولي الذي عزز في الشهر الماضي توقعاته للنمو العالمي سارع في أول أيام الأزمة إلى التقليل من شأنها، مؤكدا أنها محدودة ويمكن احتواؤها، منوها بتدخل البنوك المركزية بضخ النقد في النظام المالي، وقد ضخ مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي منذ التاسع من أغسطس الماضي وحتى الآن 71 مليار دولار أمريكي في النظام المصرفي، حسبما أكدت صحيفة بالتيمور صن في تحليل لها حول هذه الظاهرة التي بدأت بعد موجات من الصدمة أول شرارة لها في أعقاب إعلان بنك بي إن بي باريباس أكبر البنوك الفرنسية عن تجميد السحب من ثلاثة صناديق مخصصة للاستثمار في الرهن العقاري الأمريكي، وبعد أن حاول صندوق استثماري أمريكي منع العملاء من سحب أموالهم في محاولة لتجنب خسائر استثمارية، وفي كندا لم يتمكن صندوق استثماري من إيجاد الأموال اللازمة لرد قيمة أوراق تجارية مضمونة ببعض الأصول، وبدأت مظاهر تلك الأزمة في أعقاب تشكك عدد من المقرضين العقاريين بإمكانية استرجاع نسبة القروض التي قدموها لمقرضين معسرين، وقدرت بعض المصادر الديون العقارية المشكوك في تحصيلها بنحو 300 مليار دولار، وتوقعت أن تسفر الأزمة في سوق التمويل العقاري عن إفلاس بعض الشركات وتعريض عدد من البنوك للمساءلة.

وجاءت خطوة مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي المفاجئة بتخفيض سعر الخصم الذي يتقاضاه على القروض المباشرة إلى البنوك بمثابة محاولة أخيرة أثبتت نجاحا إلى حد كبير في نزع فتيل أزمة كادت أن تشمل أسواق الائتمان العالمية، وعلى الرغم من أن تخفيض السعر كان بمعدل نصف نقطة مئوية على 5.57 في المائة، إلا أن تأثيرات هذه الخطوة الإيجابية بدت واضحة في وول ستريت وفي أسواق المال الأوروبية فيما لم تدرك بورصة طوكيو تلك التأثيرات في نهاية تعاملات الأسبوع الماضي بسبب الإعلان عن القرار في أعقاب إغلاقها مباشرة.

مظاهر مبشرة ولكن هل هي مستقرة؟

وقد اتخذ المجلس الذي يعتبر بمثابة البنك المركزي للولايات المتحدة الأمريكية هذا الإجراء كاستجابة للضغوط المتزايدة على الائتمان ولوقف التدهور في أسواق المال وعلاج ظاهرة انعدام الثقة التي بدأت تمثل عقبة حقيقية أمام النمو الاقتصادي، فيما عاد مؤشر داو جونز للشركات الصناعية الأمريكية ليسجل ارتفاعا، كما ارتفع مؤشر ناسداك الذي تغلب عليه الشركات العاملة في مجال التقنية وقد أدى هذا الإجراء إلى انخفاض فوري لسعر الدولار أمام اليورو والعملات الرئيسة الأخرى، بينما انخفض الدولار واليورو أمام الين الياباني حينما أقبل المستثمرون الذين أصابهم الفزع من أزمة ائتمانية عالمية على شراء الين بكثافة رغم ضعف العائد عليه، وقد وصل هذا بالين إلى أعلى مستوى له منذ أربعة أشهر بينما انخفض الدولار بنحو عشرة في المائة عن أعلى مستوى وصل إليه منذ أربع سنوات ونصف، وبذلك يبدو الاقتصاد الياباني أقل المتضررين من الأزمة الأخيرة على الرغم من تأثره النسبي وهو ما أكد عليه رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي في أول الأزمة "ما زال الاقتصاد الياباني في وضع قوي" رغم دعوته إلى مراقبة السوق بشكل دقيق ولصيق، وهو ما تمت ترجمته على الفور بضخ بنك اليابان المركزي 600 مليار ين بما يعادل 5.07 مليار دولار بعدما كان قد ضخ في نهاية الأسبوع السابق للأزمة تريليون ين في الأسواق وحتى الآن لا يزال مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي غامضا بشأن نواياه إزاء ضخ المزيد من الأموال عن طريق خفض سعر الفائدة في اجتماعه القادم والمقرر عقده في الثامن عشر من شهر سبتمبر القادم، وهي الخطوة التي يعتقد المتعاملون في وول ستريت أنها كفيلة بأن تكون حافزا مناسبا لاسترداد سوق الأسهم عافيته، وحتى الآن تكبح المخاوف من تزايد معدلات التضخم البنك المركزي من تخفيض المعدلات، وبحسب ليندا ديوسيل المسؤولة عن التخطيط لتحركات السوق في مؤسسة (المستثمرون المتحدون) في بطرسبرج فإن مثل هذه الخطوة ستكون بمثابة إجراء سحري يقود السوق إلى الارتفاع بشكل دراماتيكي، ولكن خطوة كهذه لا بد أن تتم دراسة تبعاتها جيدا لأن ما قد يبدو كتصحيح لاتجاهات السوق يمكن أن يكون ضارا على المدى الأطول.

تطور نوعي في التفاعل مع الأزمات

وتأتي الخطوة الجديدة من جانب مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكية بمثابة تطور نوعي في استراتيجيات تعامل الحكومة الأمريكية للسيطرة على الأسواق، فقد اعتاد المجلس الفيدرالي على الانتقال من ضخ الأموال عن طريق القنوات المعتادة بشكل مباشر إلى تخفيض سعر الفائدة بشكل مباشر، ولكنه هذه المرة ابتكر خطوة وسطى تمكنه من إيقاف التدهور في أسواق المال في ذات الوقت الذي لا يتم فيه اتخاذ قرار طائش قد يعجب المستثمرين بحسب تحليل الكاتبة كريشنا جوهاين في صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية التي أوضحت في تقرير لها من واشنطن أن الخطوة الجديدة تسهم في زيادة السيولة في الأسواق وتعطي "إشارة" بأن هناك نية لتخفيض أسعار الفائدة بينما لا يتم اتخاذ هذا الإجراء فعلا.

ويعتبر سعر الخصم هو تلك سعر الفائدة التي يقوم البنك المركزي بفرضها على قروض البنوك التجارية قصيرة الأجل لدى البنك المركزي، وقد كان سعر الخصم قبل القرار الأخير 6.25 وقرر مجلس الاحتياطي الفيدرالي تخفيضه إلى 5.75، وهو ما يعني نظريا تسهيل مهمة البنوك في الحصول على القروض من البنك المركزي وبالتالي تسهيل مهمتها في توفير القروض لعملائها، وقد آثر مجلس الاحتياطي الفيدرالي الاقتراب من هذه القيمة عوضا عن تعديل سعر الفائدة الذي استقر منذ ما يربو على السنة عند سعر الـ 5.25 بحسب صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، وهي القيمة التي تقرض بها البنوك بعضها بعضا وتؤثر بشكل مباشر وفوري في الحياة الاقتصادية للمواطن العادي حيث يتم على أساس منها تحديد نسب الفائدة على التعامل ببطاقات الائتمان وفوائد قرض السيارة أو السكن وترتكز الاستراتيجية الأمريكية على الأرضية الاقتصادية لا السوقية، وبينما توفر انطباعا لدى المستثمرين بأن سعر الفائدة قاب قوسين أو أدنى من التخفيض لا يكلف الاقتصاد الأمريكي أعباء اتخاذ هذا القرار، وبحسب فاينانشيال تايمز فقد وفرت تلك الإشارات انعكاسا أكثر أهمية على السوق مما لو كان القرار قد تم اتخاذه فعلا، وبهذه الطريقة يتم تحقيق الهدفين معا، ضخ الأموال في النظام المالي وضمان استمرار عمل السوق، وفي ذات الوقت حصار أي خسارة للاقتصاد.

مكمن الخلل

لكن أين مكمن الخلل: فقد شهدت القروض الموجهة لضعيفي الملاءة طفرة في أمريكا خلال الأعوام الأخيرة ولم يكن هناك ما هو أسهل من الحصول على قرض سكني فإذا كانت الجدارة الائتمانية لطالب القرض متدنية أو كان لديه تاريخ بالإفلاس، فهذا لا يهم. وإذا كان دخله متدنياً إلى حد لا يكفي للتأهل للحصول على قرض، فكل ما عليه أن يفعله هو محاولة الحصول على القرض من خلال تعبئة طلب خاص "يصرح فيه عن دخله" ( ويكتفي البنك بذلك وإن كان يتعين عليه التحقق من بيان الدخل ) وإذا كان طالب القرض يشعر بالتوتر من أن الجهة المقرضة يمكن أن تستعلم عن "الدخل المصرح" فكل ما عليه هو زيارة موقع شركة معينة على الإنترنت ومقابل رسوم مقدارها 55 دولارا سيساعدك المأمورون العاملون في هذه الشركة الصغيرة ( مقرها ولاية كاليفورنيا ) في الحصول على قرض بتوظيفك على أنك "مقاول مستقل". وسيعطونك إشعارات بالرواتب لتكون "دليلاً" على الدخل، وإذا دفعت رسماً إضافياً مقداره 25 دولاراً فإنهم يضعون مأموري الهاتف الذين يردون على المكالمات ويجيبون أجوبة تعطي عنك صورة براقة إذا احتاج البنك إلى الاستفسار عن وضعك لعل أكثر جانب سقيم بالنسبة لسوق القروض لضعيفي الملاءة في السنوات الأخيرة هو أن الجهات المقرضة بلغت من السخاء في تزويد القروض للمقترضين الفقراء حداً جعل القلة القليلة منها فقط هي التي تقوم بالاستفسارات إن فعلت ذلك أصلاً.

هذا جعل النظام عرضة للاحتيال بصورة غير عادية، وهي إمكانية يأخذ في النظر فيها الآن المدعون العامون الفيدراليون في مختلف أنحاء الولايات المتحدة وحيث إن أزمة القروض لضعيفي الملاءة يتوقع لها أن تكلف المستثمرين ما بين 50 مليار دولار (24 مليار جنيه استرليني، 36 مليار يورو) إلى 100 مليار دولار، وفقاً لما يقوله بنك الاحتياطي الفيدرالي ( البنك المركزي الأمريكي ) فإن التحقيقات في أمريكا يمكن أن تحول هذه الأزمة من تصحيح سوقي إلى فضيحة مدوية تشمل الولايات المتحدة بأكملها. ( وفقا لما أورده محللو "فايناشيال تايمز" اللندنية ).

العلاج المؤقت

لم تكن البنوك المركزية لتقف موقف المتفرج من هذه الأزمة التي بقدر ما كانت تهدد أسواق المال والاقتصاد العالمي بأكمله بقدر ما كانت تشكل وصمة سوداء في وجه النظام المالي والاقتصاد الغربي وتحديدا في الولايات المتحدة التي كشفت المعلومات الأولية أن أكبر خمسة بنوك فيها متورطة بشكل مباشر في هذه القروض وبالتالي فإن تعرضها لأي أزمة مالية أو اقترابها من الإفلاس يعني تهديدا للنظام المصرفي ليس في أمريكا وحدها بل في الدول التي تستشرف قوانينها المالية والمصرفية من واشنطن فضلا عن انتشار تلك البنوك حول العالم بالقروض والاستثمارات مما يعني أيضا اتساع فجوة الأزمة لتطول العالم (الاقتصاد العالمي بأكمله) لكن هل كان تحرك البنوك المركزية كافيا أم لم يتجاوز كونه حقنا مؤقتة للتهدئة يتفق المراقبون والمحللون الماليون على أن التدخل لم يكن أكثر من "الحقن المؤقتة" وأن المبالغ التي تم ضخها في أسواق النقد خلال أيام الانهيارات لن تتجاوز منافعها ساعات التداول التالية للقرار فالمخاوف ستظل باقية وستشكل هاجسا مقلقا للبورصات العالمية ولأسواق المال والسلع بشكل عام وربما تقود إلى هيكلة شاملة في أنظمة الأسواق.

ماذا عن الأسواق العربية؟

بالنسبة للسوق السعودية فقد أكدت مؤسسة النقد العربي السعودي في الأيام الأولى لأزمة أسواق المال العالمية أن السوق المالية المحلية لم تتأثر وهو ما تجلى فعليا في سوق الأسهم تحديدا وزادت المؤسسة بأنها لم تلق أي طلبات من البنوك لضخ سيولة على غرار ما حدث في كثير من دول العالم. ويعود الأمر بالدرجة الأولى في هذا الوضع إلى أن هناك عددا من أدوات التداول التي قادت للأزمة في البورصات العالمية غير متاحة حاليا في السوق السعودية مثل تداول المشتقات والبيع بالآجل فضلا عن أن سوق السندات لم تتشكل بصورتها النهائية وبالتالي فإن الأسهم السعودية تعمل - حسب محللين - بالحد الأدنى من المؤثرات الآنية في البورصات العالمية والأمر ينساق إلى حد بعيد على بقية الأسواق العربية حيث يقول محللون إن اتجاه الهبوط في الأسواق العالمية كان له "تأثير نفسي فقط" في البورصات العربية. ويعيدون ذلك إلى عدم الارتباط القوي بين الأسواق العربية والأسواق العالمية وتحديدا عدم وجود شركات أجنبية مدرجة في الأسواق المحلية إلا في حدود ضيقة جدا.

التجارة العالمية

حدود الأزمة ليس معروفا هذا ما دفع منظمة التجارة العالمية إلى التنبيه إلى مخاطر محدقة تهدد الاقتصاد العالمي في حال عدم معالجة تداعياتها حالا وهي تعني الأزمة التي تشهدها أسواق المال حاليا والمرتبطة بأزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة ولفتت المنظمة إلى أن معظم المحللين الاقتصاديين يجمعون على أن تراجع نمو الاقتصاد العالمي إلى نحو 3 في المائة عام 2007 من شأنه أن يخفض نمو التجارة العالمية من 8 في المائة عام 2006 إلى 6 في المائة هذا العام. يذكر أن معدل النمو الذي سجلته التجارة العالمية عام 2006 يعد الأعلى منذ عام 2000 وذلك بفضل تحسن الأداء الاقتصادي في معظم القارات تقريباً بما في ذلك أوروبا واليابان علاوة على الصين والهند اللتين سجلتا معدلات نمو قياسية وتعليقا على هذه المؤشرات قال باسكال لامي المدير العام لمنظمة التجارة العالمية، إنها تؤكد الحاجة إلى العمل الجماعي من أجل تعزيز معدلات النمو خصوصاً أنه محاط بالعديد من الأخطار القادمة وتتطلب مواصلة إصلاح الاقتصاد العالمي.

المد يصل السياسيين

طال مد الأزمة السياسيين في أمريكا وأوروبا وإن كان البيت الأبيض لايزال يعتقد أن اقتصاد بلاده قوي وقادر على امتصاص "الكارثة" إلا أن التصريحات التي وردت على ألسنة عدد من القادة الأوروبيين تتضمن أن الوضع ليس كما يصوره بوش وفريقه. حيث نقل عن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قولها "إن الاضطرابات التي عصفت بالأسواق العالمية تبرز الحاجة إلى زيادة الشفافية خصوصا عندما يتعلق الأمر بصناديق التحوط. وقالت ميركل في مقتطفات من مقابلة تنشرها صحيفة بيلد أم سونتاج الألمانية "في حالة صناديق التحوط نحن في حاجة إلى أن نعرف من أين تأتي الأموال ومدى ارتفاع المخاطر الائتمانية".

وأضافت أنه يجب على وكالات التصنيف الائتماني الكبرى في العالم أن تكون أكثر شفافية فيما يتعلق بالأساليب التي تستخدمها للوصول إلى ما يصدر عنها من تصنيفات. ومضت المستشارة الألمانية قائلة "في المستقبل يجب أن يكون واضحا ما هو أساس تصنيفاتها للشركات... لا يمكن أن يكون الأمر مثل صندوق أسود يخرج منه شيء ما ولا يفهمه أحد". الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي شدد، على عدم السماح "لقانون الغاب" بأن يحكم الأسواق المالية وحث على تحسين القواعد المنظمة للأسواق وضمان الشفافية. من ناحية أخرى، أبلغت وزيرة المالية الفرنسية كريستين لاجارد الصحافيين أن وزراء مالية مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى قد يلتقون قبل اجتماعهم المقرر في تشرين الأول (أكتوبر) لمناقشة الوضع لكنها أضافت أنها لا تعتقد أن الاضطرابات الحالية في الأسواق ستلحق ضررا بالاقتصاد الحقيقي وفي إيطاليا، أبلغ رئيس الوزراء رومانو برودي الصحافيين أن تدخلات البنك المركزي الأوروبي الذي ضخ سيولة في الأسواق هي خطوة "في الاتجاه الصحيح"، مضيفا القول "سننتظر لنرى في الأيام القليلة المقبلة إن كانت كافية" وفي وقت سابق نشر مكتب ساركوزي رسالة بعثها الرئيس الفرنسي إلى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل حث فيها مجموعة السبع على بحث خطوات لتحسين الشفافية في السوق لكنه حذر من المبالغة في رد الفعل. وقال إن على السلطات مناقشة مقترحات في الاجتماعات السنوية لوزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية وصندوق النقد الدولي في واشنطن في تشرين الأول (أكتوبر) وقال برودي إن إيطاليا توافق على ما جاء في رسالة ساركوزي.

3 أسباب رئيسة وراء تراجع البورصات العالمية

* فيما وصف بأنه سيناريو مكرر للأزمة التي شهدها العالم في عام 1997 على أثر انهيار بورصات دول جنوب شرق آسيا، تعيش أسواق المال العالمية حالة من القلق والتوتر على خلفية التراجع الرهيب الذي منيت به المؤشرات الرئيسة للبورصات الأمريكية، وما ترتب عليه من انخفاض في مؤشرات أسواق المال العالمية، وتحديدا الأوروبية والآسيوية وقد زادت الأمور توترا بعد فشل بنكي الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والبنك المركزي الأوروبي في التخفيف من حدة تراجع المؤشرات على الرغم من ضخ نحو 121.6 مليار دولار لطمأنة المستثمرين ووقف نزيف التراجع، حيث إنه خلال يوم واحد من التعامل فقد مؤشر داو جونز قرابة 400 نقطة في حين تراجع مؤشر ستاندرد آند بورز بواقع 150 نقطة.أبعاد هذه الأزمة وانعكاساتها على أسواق المال العربية ناقشناها مع الخبير المالي الدكتور محمد الصهرجتي أستاذ أسواق المال في كلية التجارة جامعة القاهرة، وعضو مجلس إدارة العديد من شركات تداول الأوراق المالية.

*برأيك ما أسباب تراجع مؤشرات البورصات الأمريكية على النحو الذي شهدته الأسابيع الماضية ؟

- هناك ثلاثة عوامل رئيسة كانت وراء الانخفاض الحاد الذي منيت به البورصة الأمريكية:

- العامل الأول.. توسع المؤسسات المالية في منح الائتمانات عالية المخاطر للشركات والمؤسسات العاملة في مجال الرهن العقاري، والتي لا تتوافر لديها الضمانات المالية الكافية لسداد التزاماتها تجاه الجهات المقرضة ووصل الأمر إلى حد معاناة هذه الجهات من عدم توافر السيولة اللازمة لتمويل أنشطتها.

• العامل الثاني يكمن في عدم قدرة مؤسسات التمويل العقاري على القيام بعمليات الاستحواذ التي أعلنت عنها الحكومة الأمريكية أخيرا، وذلك بسبب عدم توافر التمويل اللازم للقيام بهذه العمليات، وهو ما أعطى مؤشرا سلبيا لأداء الاقتصاد الأمريكي.

• العامل الثالث الذي كان له بالغ الأثر في تراجع البورصات الأمريكية هو عجز الحكومة عن توفير فرص العمل التي كانت قد أعلنت عنها في وقت سابق، مما ولد شعورا لدى المستثمرين بأن أكبر اقتصاد على مستوى العالم يمر بأزمة حقيقية، ومن المعروف أن أسواق المال بالغة الحساسية لمثل هذه المؤشرات فكان التراجع الحاد في كافة مؤشرات البورصات الأمريكية.

*ماذا عن تراجع مؤشرات البورصات الأوروبية والآسيوية، وما أوجه الارتباط بينها وبين نظيرتها الأمريكية؟

- من المعروف أن السوق الأمريكية ترتبط ارتباطا عضويا بالاقتصاد الأوروبي والآسيوي، بمعنى أن الشركات الصناعية في هذه الدول تعتمد بنسبة تتعدى %70 على ترويج منتجاتها داخل السوق الأمريكية، وفي حالة تراجع نشاط الاقتصاد الأمريكي تعاني هذه الشركات من انخفاض حجم مبيعاتها وتراجع ربحيتها، وعندما تظهر مؤشرات على هذا التراجع مثلما حدث خلال الأسابيع الماضية تبدأ البورصات العالمية في الانحدار والتقهقر، نظرا لأن صناديق الاستثمار ومؤسسات رأس المال تبدأ في التخلص عما بحوذتها من أسهم، وتزداد عمليات البيع في كافة أسواق المال مما يؤدي إلى تراجع القيمة السوقية للأسهم وانخفاض أسعارها على المستوى العالمي، أخذا في الاعتبار أن مؤسسات المال العالمية سواء كانت أمريكية أو أوروبية تحرص على تنويع محافظها المالية عن طريق الاستثمار في كافة بورصات الأوراق المالية بما فيها البورصات الناشئة، وذلك لتقليل درجة المخاطر المترتبة على تراجع الأسهم في أي من البورصات العالمية.

*على الرغم من محدودية تعاملات الأجانب في البورصات العربية، إلا أنه تلاحظ أنها تتراجع بشكل كبير متأثرة بما شهدته البورصات الأمريكية والأوروبية فما هو تفسيرك لهذه الظاهرة ؟

- كما أشرنا آنفا فإن مؤسسات رأس المال العالمية تسعى لتنويع محافظها المالية على مستوى العالم بما في ذلك البورصات العربية الناشئة، وبالنظر إلى أسواق المال العربية نجد أن تعاملات الأجانب قد تصل إلى %20 من حجم التداول وعلى الرغم من محدودية هذه النسبة إلا أنها بالغة التأثير في قرارات المتعاملين في البورصات العربية - بيعا وشراء- حيث إن دراسات أسواق المال تشير إلى أن المستثمرين العرب يتعاملون بمنطق القطيع بمعنى أنهم يتخذون قراراتهم بناء على العمليات التي يقوم بها المستثمرون الأجانب، فضلا عن أن أسواق المال العربية تغلب عليها تعاملات الأفراد الذين يشكلون نحو %80 من حجم التداول وتحركهم العوامل النفسية والإشاعات، ومن ثم فإن معظم قراراتهم لا تكون مبنية على دراسات السوق والأوضاع الحقيقية للشركات التي يحملون أسهمها.

الجانب الأهم في تأثر البورصات الخليجية بما حدث في البورصات الأمريكية والأوروبية أن المتعاملين في أسواق المال العربية كانت تنتابهم حالة من الترقب المشوبة بالحذر بسبب الاتجاه التصاعدي لمؤشرات معظم البورصات العربية بداية من العام الجاري، وعندما تراجعت البورصات الأمريكية سيطرت عليهم حالة من الهلع، وقاموا بعمليات بيع واسعة خوفا من تحقيق خسائر مثلما حدث في بدايات العام الماضي، وهو ما أدى إلى تراجع البورصات العربية بما فيها البورصة المصرية.

*وبرأيك لماذا لم تنجح مليارات الدولارات التي تم ضخها في أسواق المال الأمريكية والأوروبية إلى جانب الآسيوية في التخفيف من حدة تراجع مؤشرات أسواق المال العالمية ؟

- من المتعارف عليه أنه عند حدوث هزات في أسواق المال تستتبعها هزات في أسواق النقد وسعر الصرف تدفع البنوك المركزية بالدول المختلفة إلى أن تضخ أموالا في أسواقها للتقليل من حجم الآثار المترتبة على تراجع مؤشرات أسواق المال كنوع من أنواع تصحيح الأوضاع ليس أكثر، فضلا عن أن حجم الأسواق العالمية ضخم وتصعب السيطرة عليها في فترة وجيزة وقد يأخذ الأمر وقتا لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح.

*في عام 1997شهد العالم أزمة حادة على أثر انهيار كافة البورصات الآسيوية، وعلى الرغم من شدة هذه الأزمة إلا أن البورصات العربية لم تتأثر بأي شكل من الأشكال على عكس ما يجرى الآن فهل نجد تفسيرا لذلك ؟

- منذ نحو عشر سنوات كانت البورصات العربية لا تزال ناشئة وكانت منغلقة على نفسها، أما الآن فالوضع اختلف كثيرا حيث أصبحت أسواق المال العربية جاذبة للاستثمارات الأجنبية بفضل الإصلاحات الاقتصادية التي تشهدها منطقتنا العربية، وأصبح هناك ارتباط قوي بين أسواق المال العربية والقرارات التي تصدرها دوائر مؤسسات المال العالمية، ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى أن حجم تعملات الأجانب أصبح يتخطى ما نسبته %30 من حجم التداول في البورصات العربية.

*برأيك إلى أي مدى سوف تستمر الأزمة الحالية، وهل من المتوقع أن تتعافى أسواق المال العالمية قريبا؟

- يصعب التكهن بهذا الأمر في ظل الظروف الاقتصادية السيئة التي يمر بها الاقتصاد الأمريكي .

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:مجلة المجلة