الرهن العقاري وأدوات التمويل المعقدة

 

علي بن طلال الجهني

 

 

سبق الحديث في يوم الثلثاء الماضي عن أزمة الرهن العقاري وما سببته تلك الأزمة من اضطرابات في أسواق المال العالمية وسيتبين في المستقبل أن الرهن العقاري لم يكن إلا الشرارة المباشرة لمشكلة أكبر أهم مصادرها ما يسمى «الهدج فيندز» (*) أو ما يمكن ترجمته بعبارة «محافظ تفادي الأخطار».

وفي الماضي غير البعيد - منذ نحو ثلاثين سنة - كان الهدف من «الهدج فيندز» حماية كبار المتداولين بالعملات الأجنبية  فمثلاً إذا كانت شركة مثل «جنرال الكتريك» أو «نستليه» لا تعلم ماذا سيحصل لقيمة عملات الدول التي تصدّر إليها أو تستثمر فيها، فإنها كانت بحاجة إلى «تفادي» مضاعفات تغيرات قيم العملات بشراء أو بيع العملة التي تريد عن طريق «محافظ تفادي أخطار تغيرات العملات».

ثم اكتشفت مراكز التمويل المصرفية الكبرى في نيويورك ولندن وزيورخ وفرانكفورت وغيرها، أنها تستطيع عن طريق بيع منتجات «الهدج فيندز» الحصول على «عمولات» كبيرة، والأهم متزايدة، كلما زادت صعوبة فهم هذه «المنتجات» على المستثمرين  وبالطبع فالمستثمر الذي يحقق له استثماره أرباحاً مجزية لن يتذمر من ارتفاع العمولات وتدريجياً، زاد عدد محافظ «الهدج فيندز» وتبعا لذلك زادت «المخاطرة» من جانب من يديرون هذه المحافظ وفي العقدين الماضيين أتت مراكز المال والتمويل التجارية الكبرى بأداة جديدة يتعذر على غالبية المستثمرين فهمها تسمى «المشتقات».

وزاوج كبار سماسرة «الهدج فيندز» تدريجياً بين «المعقد» و «الأكثر تعقيداً» بما سموه «الأدوات المالية الجديدة» حتى أضحى اليوم لا يوجد مصرف تجاري كبير أو بيت من بيوت التمويل لا يبيع ويشتري «المشتقات» ويحاول إغراء المستثمرين بالاستثمار بـ «الهدج فيندز» وهنا ينبغي إعطاء فكرة عامة عن معنى «المشتقات».

في الأصل هذه الكلمة «دريفدف» تعني نسبة التغيير في شيء يمكن قياسه. فإذا كانت أرباح شركة تزيد هذا العام بنسبة 12 في المئة، مقارنة بالعام الماضي، فتكون المشتقة الأولى لأرباح هذه الشركة 12 في المئة. وإذا وصلت الزيادة في العام المقبل 15 في المئة، فتكون المشتقة «الثانية» ربع واحد في المئة! أي نسبة التغير في التغير، وهلمّ جرا، إلى أن يصل عدد المشتقات إلى عشرة أو مئة أو ألف أو مليون!

الأمر سهل جداً، إذ انه لا يتجاوز برنامج كومبيوتر. ولكن ماذا يعرف مبرمج البرنامج عن «مشتقات المستقبل»؟ والجواب ليس أكثر من التخمين أو الفرضيات التي يفرضها، ومن هنا تأتي المشكلة والمعنى المالي لهذه المشتقات أن السعر سيتصاعد لمنتجات المحفظة أو لسعر الشركة ما دامت المشتقات لم تصل إلى الصفر أو الهبوط إلى أقل من الصفر.

أي ما دامت الشركة لا تحقق أرباحاً فحسب وانما أرباح متزايدة حتى لو كانت نسبة تصاعد الأرباح متواضعة، فإن ذلك يؤدي إلى ارتفاع السعر بسبب تصاعد نسبة العائد.

نعود في هذه المرحلة من التحليل إلى كيفية حدوث الأزمة التي كانت شرارتها الأولى الرهن العقاري. والسبب الأساس كما تم شرحه في الأسبوع الماضي أن التساهل في إقراض من لا يستطيعون الوفاء بالأقساط الشهرية التي التزموا بها، أدى إلى التدهور المالي لقيمة هذه القروض التي تم جمعها في محافظ كبيرة، ثم وزِّعت كسندات قروض هي متوسط قيمة القروض الأصلية التي تم توقيعها مع مَن اشتروا المساكن وكانت المساكن هي الرهون التي يمكن الاستيلاء عليها وبيعها إذا لم يستطع المقترض الوفاء بقيمة الأقساط.

إذاً أين المشكلة ما دام المقرضون يستطيعون بيع المساكن نفسها؟

لأسباب عدة أهمها أن قيمة المساكن نفسها تدهورت بسبب زيادة المعروض منها بسبب تزايد المفلسين. والأسباب الأخرى قانونية وتكاليف معلومات، فما الذي يعرفه مدير محفظة مالية في باريس أو في طوكيو اشترى سندات عقارية أو مشتقاتها وأضافها إلى ما يديره من محافظ «الهدج فيندز» وكان منشأ هذه القروض صكوكاً تملك بيوتاً متواضعة في لويزيانا وكانساس وأيوا؟

وهنا لا بد من طرح سؤال: هل ستتأثر مصارف عربية بما حدث من أزمة في الرهون العقارية؟

والجواب بالطبع نعم، ولكن بقدر قيمة استثماراتها في هذه «الهدج فيندز» التي تحتفظ بسندات رهون عقارية. والأرجح أن استثمارات المصارف العربية في سندات هذه الرهون لن تكون كبيرة.

للأسف الشديد يتعذر إيجاد سياج حديدي بين مصارف العالم بصرف النظر عن موقع وجودها أو قومية البنك المركزي المشرف عليها.

وجوهر الموضوع، الرهون العقارية، كانت مصدر الأزمة في آب (أغسطس) 2007، غير أنه يمكن ان يكون لها عشرات المصادر الأخرى في المستقبل، إذ فشلت الدول القيادية اقتصادياً كأميركا ودول الاتحاد الأوروبي والصين واليابان في الاتفاق على إلزام الجميع بإيضاح معنى ومقتضيات أدوات الاستثمار المالية المعقدة وغير المعقدة بما يجعل كل مستثمر، صغيرا كان أم كبيرا، يعرف عن المخاطر التي سيتكبَّدها، عاجلاً أو آجلاً، كل من يستثمر بما لا يفهمه أو لا يفهم مدى خطورته.

وهذا ليس من قبيل الاهتمام بالطبقة المخملية المستثمرة، وانما يعود إلى أن كل أزمة مالية تؤثر في شؤون البشر المعيشية اليومية في كل مناطق المعمورة حتى وإن كانت بنسب متفاوتة.

أليس من الواضح أن أي أزمة مالية في بلد كفرنسا ستؤثر في مستوى معيشة المهاجرين إليها من أفريقيا ودول شمال إفريقيا خصوصاً؟ وظروف المهاجرين الاقتصادية بدورها تؤثر مباشرة في اقتصاديات الدول التي تكون من مصادر عملتها الأجنبية الصعبة تحويلات المهاجرين المتواضعة فردياً والكبيرة جماعياً.

والله من وراء القصد.

* كلمة «هدج» في الأصل تعني سياجاً، سواء أكان سياجاً معنوياً كالتملص من الجواب المباشر أم سياجاً حقيقياً لحماية شجرة أو شيء آخر مادي.

*أكاديمي سعودي.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:الحياة اللندنية-6-9-2007