التجارة الحرة والسجال الأميركي حول "معايير العمل"

 

 

 

لا شيء يثير الانقسام في صفوف "الديمقراطيين" أكثر من سياسة التجارة الدولية. وقد اتضح هذا الأمر بشكل جلي الأسبوع الماضي، عندما دفع الإعلان عن اتفاق حول التجارة بين الزعماء "الديمقراطيين" وإدارةِ بوش العديدَ من نشطاء الحزب إلى اتهام زعامتهم بالتراجع.

غير أن هذا الغضب سرعان ما قلَّ بعض الشيء بعد ظهور بعض تفاصيل الاتفاق؛ فقد تبين أن "الديمقراطيين" حصلوا على تنازلات مهمة من الموالين للرئيس بوش أو "البوشيين" مقابل موافقتهم الفعلية على اتفاقين صغيرين للتجارة الحرة (مع بيرو وبنما). غير أن "الديمقراطيين" يظلون مع ذلك منقسمين إلى فريقين، واحد يرى أن العولمة مسؤولة عن انخفاض أجور الكثير من العمال الأميركيين، وآخر يرى أن عقد اتفاقات التجارة الدولية والوفاء بها جزء لا يتجزأ من الحكم الرشيد.

والواقع أن ما يجعل هذا الانقسام محيراً، هو كون الجانبين كليهما على صواب. ذلك أن للمخاوف من أن تتسبب المنافسة في انخفاض الأجور الأميركية أساساً واقعياً من الناحيتين النظرية والعملية. فعندما نستورد سلعاً مصنعة من العالم الثالث بدلاً من صنعها هنا، فإن نتيجة ذلك تتمثل في تقلص الطلب على العمال الأميركيين الأقل تعلماً، وهو ما يؤدي بدوره إلى انخفاض الأجور بالنسبة لهؤلاء العمال. ونتيجة لذلك، فإن الواردات القادمة من العالم الثالث، بالرغم من أنها تساهم في غنى الولايات المتحدة بصفة عامة، فإنها تؤدي بالمقابل إلى جعل عشرات الملايين من الأميركيين أكثر فقراً.

إلى أي حد؟ في منتصف التسعينيات، قامت مجموعة من علماء الاقتصاد -من بينهم كاتب هذه السطور- بصياغة تقديرات، من بينها أن التأثيرات السلبية على أجور الأميركيين الأقل تعلماً طفيفة وبسيطة. غير أن هذا الأمر تغير اليوم. ذلك أننا نشتري اليوم سلعاً أكثر من العالم الثالث مقارنة مع ما كنا نشتريه قبل عشر سنوات؛ على أن أكبر الزيادات هي تلك التي سُجلت بخصوص الواردات القادمة من المكسيك، حيث تشكل الأجور نحو 11 في المئة فقط من المستوى الأميركي؛ والصين، حيث تشكل الأجور 3 في المئة فقط من المستوى الأميركي. والواقع أن التجارة ليست المصدر الرئيسي لانعدام المساواة الاقتصادية، إلا أنها باتت عاملاً أكبر مما كانت عليه في السابق. وعليه، فإنه يمكن القول إن ثمة جانباً قاتما في العولمة. أما السؤال، فهو: ماذا عسانا نفعل والحالة هذه؟ هل يجدر بنا أن نعود إلى الحمائية القديمة؟ ولكن ذلك ينطوي على عواقب غير محمودة؛ فإذا شرعت الولايات المتحدة في تقييد الصادرات القادمة من العالم الثالث مثلاً، فإن بلداناً غنية أخرى ستحذو حذوها، وستحرم بالتالي البلدان الفقيرة من الوصول إلى الأسواق العالمية.

ثم كيف ستكون تداعيات هذا الأمر على بنجلادش مثلاً، التي تبدو صامدة بالرغم من افتقارها الكبير إلى الموارد، فقط لأنها تستطيع تصدير الملابس وغيرها من المنتجات التي تتطلب عملاً طويلاً؟ وكيف سيكون التأثير على الهند حيث يوجد أخيراً أمل في تحقيق إقلاع اقتصادي بفضل ارتفاع الصادرات -التي ستتعرض لنكسة لا محالة في حال أُعيد نصب الحواجز التجارية التي تم تفكيكها على مدى نصف القرن الماضي؟ وكيف ستكون تداعياته على المكسيك؟ فمهما يكن رأينا بخصوص اتفاقية "نافتا"، إلا أن إلغاء الاتفاق يمكن أن يفضي إلى عواقب سياسية واقتصادية وخيمة في الجارة الجنوبية. نظراً لهذه المخاوف، يميل المرتابون في التجارة أنفسهم إلى الإحجام عن الدعوة إلى الحمائية الكاملة، ويدعون بدلاً من ذلك إلى اتخاذ تدابير ألطف، ومن ذلك السعي إلى رفع الأجور الأجنبية. ويتمثل العنصر الرئيسي للاتفاقيات التجارية الجديدة في تضمنها لـ"معايير العمل": ذلك أنه سيتعين على الدول التي توقع اتفاقات تجارة حرة مع الولايات المتحدة أن تسمح بالعمل النقابي، إضافة إلى تحريم عمل الأطفال والعبيد.

واللافت أن إدارة بوش عارضت معايير العمل، ليس رغبةً منها في الحفاظ على السلع رخيصة، وإنما لأنها كانت تخشى أن يؤدي ذلك إلى إجبار الولايات المتحدة على تحسين سياساتها العمالية. وإذا كان تضمين هذه المعايير في الاتفاق يمثل نصراً حقيقياً بالنسبة للعمال، فإن معايير العمل من الناحية العملية لن تخدم كثيراً العمال الأميركيين. ذلك أنه بغض النظر عن مدى تنظيم عمال العالم الثالث في إطار نقابات، فإنهم سيظلون يتلقون أجوراً زهيدة، وستواصل التجارة ممارسة الضغط على الأجور الأميركية.

ما هو الحل؟ لا أعتقد أن ثمة حلاً ما دامت المناقشة محصورة في السياسة التجارية؛ فالحمائية الكاملة غير مقبولة، ومعايير العمل في الاتفاقات التجارية لن تنفع كثيراً. والأكيد أننا في حاجة إلى أن نُضمِّن اتفاقياتنا التجارية المقبلة معايير عمل قوية؛ وأن ندرس الاتفاقيات الجديدة المقترحة بما تستحقه من تدقيق وتمحيص. وإذا كان "الديمقراطيون" يرغبون حقاً في مساعدة العمال الأميركيين، فسيتعين عليهم أن يفعلوا ذلك في ظل سياسة مشجعة على العمل تعتمد على وسائل أفضل من السياسة التجارية. ولعل تمويل الرعاية الصحية عبر ضرائب تُفرض على الرابحين في الاقتصاد، يشكل خطوة أولى في هذا الاتجاه.

و كل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:الإتحاد الإماراتية- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"- 22-5-2007