المؤسسات تفسد أيضاً !
محمد خالد الأزعر
على الرغم من شيوعه وتفشيه وإمكانية العثور عليه في تضاعيف كافة المجتمعات الإنسانية، وإن بدرجات متباينة من الانتشار والتأثير والسلطان في المكان والزمان، فإن الفساد كمفهوم وظاهرة ما زال عصياً على التعريف الجامع المانع. كل ما أمكن في سياق محاولات بلورة هذا المفهوم المراوغ، هو توصيف العمليات والسلوكيات التي تندرج تحته بشكل إجرائي يفتقر الدقة والتحديد. وعليه يلاحظ الاتفاق على أن هذه العمليات تحوى معاني ومعالم الانحراف عن المضامين الأخلاقية السوية، وتجاوز المعايير والضوابط القانونية بشقيها السياسي الحقوقي والمدني العرفي، أحدهما أو كلاهما. والواقع أن الانشغال الشديد بمحاربة الفساد ومطاردته من لدن رموز وهيئات وأطر إصلاحية، باتت تتكاثر على صعد محلية وإقليمية ودولية بينها تنسيق وتعاون لا بأس به، والنتائج الإيجابية الناشئة عن ذلك، تبرر القبول بهذا التعريف الوصفي على نواقصه وعلاته. إذ لا يصح تجاهل الظاهرة وإطلاق يدها لتعيث في الأرض، انتظاراً لتقعيدها على أسسٍ علمية رصينة. لكن ما لا يجب التسامح معه هو الابتسار الواضح في التعامل مع الفساد، بحسبه عمليات تنصرف إلى ما يقوم به أفراد متنفذون أو تجترحه جماعات ودوائر ضيقةٍ في هذا الموقع أو ذاك. فالملاحظ أن المبادرات الرامية إلى فضح الفساد والتشهير به غالباً ما تستهدف شخوصاً بعينهم وأحياناً بعض الشلل والحلقات من مراتب ومكانات مختلفة. الأمر الذي ينطوي ضمناً على تبرئة مؤسسات كبرى وأحياناً نظماً بكاملها من هذه الوصمة. ويتصل بهذه المقاربة غير السوية في تقديرنا، ذهاب بعض الإصلاحيين وذوى النوازع الطهرية، الباحثين عن الشفافية والانضباط الخلقي والقانوني، إلى الثقة المطلقة بظاهرة «المأسسة» واعتمادها كأحد أقانيم النظم الديمقراطية الحقة. فعند هؤلاء، ومنهم فقهاء عدول ومنظرون كبار في قضايا التحول الديمقراطي والإصلاح السياسي والإداري، يبدو إنشاء وانتشار المؤسسات كترياق يشفى المجتمع (الدولة) من سطوة الاستناد إلى المعايير الشخصية أو غير الموضوعية عموماً بين يدي التجنيد للوظائف العامة. وهم يعتقدون أن العمل المؤسسي، القائم على مسوغات ومؤهلات وشروط مطروحة على الملأ بالتساوي، يشكل ضمانة مؤكدة وحصانة لا يشق لها غبار ضد استشراء الفساد وتغول المفسدين. هذا الاعتقاد لا يخلو من وجاهة وحكمة، كما أنه مستلهم من الخبرات والتجارب النظامية والسياسية والإدارية المقارنة التي يميل أكثرها إلى النظر للمؤسسات كقرينة على الرشد والعقلانية والحداثة، بينما يرى في غيابها دليلاً على المزاجية والعشوائية والسلطوية، التي تشرع الأبواب أمام الفساد من مداخل الزبائنية والمحسوبية ونموذج«السادة والأتباع». ثم إن للمؤسسات أصولاً وقواعد وأحكاماً وخططاً تتجاوز القائمين عليها مهما بلغت أعمارهم ومواقعهم وكفاءتهم، بما يضيق فرص الانفراد بالتحكم فيها وتوجيهها والسيطرة على مواردها وقراراتها. على أن هذه الخصائص والميزات لا تشفع للغلو في تصوير المأسسة والمؤسسات (بما في ذلك الأحزاب والحركات السياسية) بقرة مقدسة ! لا يأتيها باطل الفساد والإفساد من بين يديها أو من خلفها. فمثلما ينال هذا الباطل من الأفراد والمجموعات فإنه يستطيع النيل من المؤسسات. ونزعم أنه من حاصل جمع تصرفات الفساد والمفسدين في مؤسسة بعينها ربما وقعت هذه الأخيرة بكاملها في حوزة الفساد . وبالطبع لنا أن نتوقع غشيان الفساد لنظام بمجمله جراء تغلغل المفسدين في مؤسساته، ونشوء شبكة علاقات مصلحية بينهم. تذهب بريح الأطر والقوانين والتقاليد الحاكمة لعمل هذا النظام. وفي مثل هذه الحالة لا نصبح بصدد فساد مؤسساتي فقط وإنما بصدد دولة فاسدة. ولهذا يحق التمييز بين فساد صغير يشير إلى سلوكيات فردية أو جماعية محدودة، وفساد متوسط الحجم يتعلق ببعض المؤسسات، وفساد كبير يطال نظماً ودولاً بقضها وقضيضها. أكثر من ذلك، أنه يسعنا الاستطراد إلى ما يمكن وصفه بالفساد المعولم، العابر للنظم والدول والقارات. ومن المؤكد أن هذه الأنماط تنتظم فيما بينها بعلاقة استطراق. نفهم ذلك مثلاً من أخبار الفساد الذي أحاط ببرنامج النفط مقابل الغذاء في سنوات حصار العراق، فأحاله إلى برنامج «الشفط» مقابل الغذاء. لقد أثبتت المتابعات ذات الصلة ضلوع أفراد ومؤسسات ونظم ودول في هذه القضية، ولم يسلم شرف الأمم المتحدة ذاتها من الأذى في هذا المقام!. ولا يتسع الحيز للمضي في سرد أمثلة مشابهة لهذا الفساد العالمي الأكبر تتعلق بشبكات تجارة المخدرات والرقيق الأبيض والسلاح. لا نعتقد بكل حال أن وجود المؤسسات يقي المجتمع تلقائياً من ربقة الفساد. فالذي يفعل ذلك حقاً هو استحواذ المجتمع على ثقافة مُقاومة للفساد. ثقافة مطعمة بالقيم المناهضة لأسباب الفساد الصغير، كالتملق والنفاق والتزلف والتشاطر. واستسهال الغش والولاء غير المشروط لأولى الأمر والبحث عن الإثراء السريع وانعدام المسؤولية الاجتماعية واحتقار الضوابط والروادع الأخلاقية.. نقول ذلك وفي الذهن أن الفساد الصغير وهذه القيم السلبية الحاثة عليه، هما خشبة القفز إلى بقية أنماط الفساد وفي طليعتها فساد المؤسسات، الذي يفضي حتماً وبالتداعي إلى فساد النظم والدول. لا نستبطن بهذه الإشارات التهوين من شأن التطور المؤسساتي كضرورة من ضرورات الإصلاح بكافة أبعاده. فبالمعنى المقارن والنسبي تظل المأسسة طريقاً أكثر مأمونية وضمانة للحقوق والواجبات في أي حال أو أي قطاع للنشاط الإنساني، قياساً بأية بدائل للإدارة والتنظيم. ما ندعو إليه حقاً هو التحفظ إزاء الإفراط في الاطمئنان إلى أن اصطفاف المجتمع وقطاعاته المختلفة في مؤسسات واضحة المعالم، يحملنا إلى طريق المدينة الفاضلة المشمولة برعاية الديمقراطية الحقة. وكل ذلك بحسب المصادر المذكور. المصدر: صحيفة البيان الإماراتية – 12-2-2006
|