لـمـاذا ... ومـتـى عـشـقـت وكيل الشيطان ؟ !
د. عمار بكار
"وكيل الشيطان" أفضل علاج لكوارث التفكير! من المجالات العلمية التي أرى أننا مقصرون جدا في التعامل معها والاستفادة منها مجال "صناعة القرار" Decision Making الذي تأسس في أوساط القرن العشرين وكان له دور مهم في الغرب في تطوير مؤسسات القطاعين العام والخاص. إحدى النظريات المميزة في مجال صناعة القرار تسمى نظرية "تفكير المجموعة" GroupThink التي أسسها عالم أمريكي نفسي شهير (جينيس) عام 1972م. النظرية باختصار وتبسيط تقول إن المجموعة التي تتخذ القرارات المهمة وتتميز بروح الفريق قد تنجرف نحو طريقة تفكير جمعية تقودهم لاتخاذ قرارات خاطئة ومتهورة رغم أن الخبرة العالية لبعضهم والمعلومات المتوافرة كانت كافية لاتخاذ القرار الصحيح. بعد ظهور النظرية، خرجت مئات الدراسات التطبيقية على أساسها، التي دعمت مصداقية النظرية، حتى أن أحد المؤرخين طبق النظرية على القرارات الرئاسية الأمريكية وأثبت من خلال مراجعة الوثائق الخاصة بها أن أسوأ 19 قرار رئاسي في تاريخ أمريكا كان سببه هذه الظاهرة، وجاء آخر ليثبت أن كثيرا من قرارات الشركات الكبرى المتهورة كانت بسبب هذه الظاهرة، وجاء باحثون آخرون ليثبتوا أن قرارات هيئات المحلفين القضائية التي ثبت خطؤها الكبير لاحقا كانت أيضا بسبب ظاهرة "تفكير المجموعة". العوامل التي تسبب ظاهرة تفكير المجموعة عوامل منتشرة في مؤسساتنا الاقتصادية والحكومية وتحتاج إلى تأمل واسع لتفاديها أثناء عملية صناعة القرار، ومن هذه العوامل الأسلوب الإداري أو القيادي للرئيس أو المدير، عندما لا يشجع الآراء المخالفة والحوار المفتوح بين الآراء، أو عندما يسبب احترام المجموعة له ولخبرته أن يتبنوا وجهة نظره والمبررات التي يطرحها. من العوامل أيضا: انعزال المجموعة عند اتخاذ القرار عن الآراء الخارجية، عدم وجود آلية واضحة لتنسيق الحوار واتخاذ القرار، عدم وجود التنوع في الفريق وانتمائهم إلى الخلفية الثقافية والعرقية والدينية نفسها، وقوع المجموعة تحت ضغوط خارجية أثناء صناعة القرار، ضعف ثقة المجموعة بنفسها بسبب قرار فاشل اتخذ حديثا، أو بسبب الأبعاد الأخلاقية للقرار، أو بسبب صعوبة القضية التي يتخذ فيها القرار، الرغبة في الوصول إلى اتفاق جماعي على القرار، وغيرها من العوامل. لو تأملت في كثير من الاجتماعات التي تعقد في مؤسساتنا العربية، لوجدت أنها تعاني من كثير من هذه العوامل التي تسهم في صناعة قرار فاشل أو ضعيف، ولفهمت لماذا تصدر الكثير من القرارات ويتم التراجع عنها لاحقا رغم أن الخطأ واضح للعيان ولا يحتاج إلى معايشة الفشل لاكتشافه. الباحثون في هذا المجال اقترحوا عدة أفكار لمعالجة هذه الظاهرة، ومن أشهر هذه الأفكار ما يسمى بـ"وكيل الشيطان" Devil’s Advocate، وهو عبارة عن موظف يتم تعيينه بهذا الاسم ويتدرب على آليات هذه الوظيفة أو مستشار تتم الاستفادة منه عند الحاجة، وما يقوم به هو أن يجلس في الاجتماع ويحاول مناقضة كل فكرة أو معاندتها والمطالبة بالأدلة والحجج الكافية التي تثبتها وتشجيع الآراء الغريبة لأخذ حقها من النقاش وتحدي الآراء الجماعية، ويقوم بمناقشة المدير بشكل مكثف (مع المحافظة على المهنية والاحترام)، كما يحاول النظر للعوامل التي تؤدي إلى "تفكير المجموعة" ومعالجتها قبل اتخاذ القرار المهم. هناك أساليب أخرى مقترحة تتعلق بالإجراءات التي تتخذ أثناء صناعة القرار، وهناك أبحاث كثيرة حول التفاصيل (مثلا الوقت اللازم لتطبيق كل آلية ونوعية الآلية المناسبة لكل نوع من القرارات). في بحث أجريته أثناء مرحلة الدراسات العليا كان حول الاستفادة من غرف الدردشة chat rooms بحيث تظهر الآراء والنقاشات دون أن يعرف أحد من قائلها بينما يكون المجتمعون كل منهم في مكتبه، الأمر الذي يفترض أن يكون له أثر إيجابي كبير على تميز القرار مقارنة بمجموعة ناقشت القرار نفسه بالطريقة الكلاسيكية. النتيجة النهائية من كل ما سبق هي أن الشركات واللجان والمؤسسات والمديرين عليهم أن يعطوا المزيد من التركيز لآلية صناعة القرار لأنها المفتاح للنجاح أو الفشل على كل المستويات. سئل أحد المفكرين الاقتصاديين الذين عملوا مع الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون عن أهم ما يميزه كواحد من أنجح رؤساء أمريكا في العقود الأخيرة، فكان جوابه أن كلينتون كان "صانع قرار ناجح"!
|