«حرب الأدمغة» والتحديات الاقتصادية

 

كامل وزني

 

يشهد العالم حرباً بين الدول المتطورة تعرف بـ «حرب الأدمغة». إذ بدأت الدول الكبرى تعتمد في مواجهة تحدياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على بنية تحتية، عمادها تشجيع التعليم وإرساء المناهج التعليمية الحديثة والإنفاق الضخم على المدارس والجامعات والأبحاث العلمية.

تحدّث الدول الصناعية لهذه الغاية قوانينها لبناء الثقة في كل القطاعات حتى يتمكن أبناء المجتمع من الحفاظ على التقدم والإبداع. وفي وقت يشهد الغرب تطوراً لافتاً في هذا المجال، تعيش المجتمعات العربية ضعفاً في أنظمتها التعليمية وتحتل مرتبة متأخرة جداً بين الدول، بحسب تقرير أعده برنامج الأمم المتحدة للتنمية اعتبر أن «انخفاض المعايير التعليمية يشكل أحد الأسباب الرئيسة للتخلّف الذي يعيشه هذا العالم».

والمــعرفة في هذا العصر باتت جزءاً من التبادل التجاري والخدماتي والثقافي بين الشعوب، تتميز من خلالها الدول الغنية والقوية عن الدول الفقيرة أو المتخلفة. وبات للسيادة الوطنية ولقوة المجتمع مكون أساس يتمثل في قدرة هذا المجتمع على تصدير المعارف والابتكارات.

إن التقدم الهائل والمستمر في نظام التكنولوجيا والاتصالات جعل مستقبل الثروة والإنتاج، يعتمد في شكل مباشر على التكنولوجيا والمعلومات في أي وقت ولكل الغايات.

فما الذي يتوجب على الدول العربية أن تفعله حتى تحقق التنمية المطلوبة لتضاهي الدول الصناعية والمتطورة؟ وما هو الدور الذي يلعبه قطاع المال في تمويل أصحاب الكفاءات وأهل الفكر؟

على الدول العربية أن تبني ثقافة سياسية وإنتاجية، تتماشى مع تأمين الفرص وتشجيع أصحاب الكفاءات. فلا يمكن قيام الدولة على الرساميل والموارد والأموال فقط، لأن بناء الدولة الحديثة والحفاظ عليها يتطلبان تغيير بنية المجتمع وتشجيع المبادرات الفردية، وحضّ الشباب على التفكير والتجديد والابتكار حتى لا تهاجر الأدمغة إلى الدول الأجنبية.

اعتبر بيل غيتس في مقال نشرته صحيفة «واشنطن بوست» أن «الابتكار هو مصدر قيادة الولايات المتحدة اقتصادياً، ويشكل أساس التنافس في الاقتصاد العالمي، فإنفاق الولايات المتحدة على الأبحاث وحماية الملكية الفكرية والأسواق المالية، من أهم الأسباب الحقيقية التي حوّلت حركة المجتمع من مجرد أفكار إلى مؤسسات ناجحة».

والدولة الأميركية لا تفرّق بين المواطنين الأميركيين والأجانب القادمين من مختلف أنحاء العالم، بل تسعى دائماً الى الاستفادة من كل المواهب والقدرات. وهي تحاول لهذه الغاية جذب الأدمغة والمهارات عبر إعطائها كل الخدمات والتسهيلات التي تخدم أبحاثها وأعمالها.

إن نسبة الطلاب الأجانب في أميركا مرتفعة جداً، وأظهر تقرير للبنك الدولي العام الماضي أن الطلاب الأجانب «يشكلون 80 في المئة من مجموع حملة الدكتوراه في اختصاص الهندسة والمواد العلمية. وتنفق أهم الجامعات الأميركية بسخاء لحفز التلاميذ الأجانب وإغرائهم على الدراسة فيها والانتقال لاحقاً الى سوق العمل.

وطالب غيتس الحكومة الأميركية بـ «تشجيع الطلاب الأجانب على البقاء في أميركا بعد التخرج، خدمة للمصلحة الوطنية لأن نصف أعداد طلاب الدكتوراه في علوم الكمبيوتر أجانب».

وخصّص بعض الدول الحديثة النمو كالصين ودول آسيا موارد مهمة من موازناتها للجامعات والأبحاث، وتنفق لهذه الغاية مبالغ طائلة لرفع مستوى جامعاتها، ولتعيد الباحثين لديها الى وطنهم الأم. مع العلم أن الولايات المتحدة تسعى الى زيادة برامج تبادل الطلاب مع الجامعات الصينية للاستفادة قدر المستطاع مما توصلت اليه تلك الدولة من خبرات ومعرفة في مختلف المجالات.

تملك الدول العربية طاقات بشرية ضخمة يمكن استغلالها لمواكبة الركب العلمي والمعرفي، إلا أن هذه الثروة لا تستغلها حكومات هذه الدول في الشكل المناسب. فلا يكفي أن نقدم للمواطن خدمات الطبابة والتعليم الأولي والأمن، بل علينا أن نعطيه الحوافز الفكرية والدعم المادي والمعنوي حتى نحوّله الى قوة منتجة، مؤهلة لبناء الدولة القوية والمنافسة.

على دولنا العربية أن تقوّي أنظمتها التعليمية وتزيد الاستثمار في القطاعات العلمية والبحثية، وأن تؤمن الحماية للمستثمرين من خلال اعتماد الشفافية والصدقية في أنظمتها المالية ما يخوّلها استقبال الرساميل واستثمارها.

إن مصادر التمويل في معظم الدول العربية تنحصر في المصارف التي يحق لها وحدها أن تقرر مَن الذي سيحصل على التمويل، إضافة الى منافسة بعض الحكومات للقطاع الخاص من خلال إعطاء فوائد مرتفعة على الأموال، ما يقضي على عملية التنمية وعلى المبادرات الصغيرة والفردية.

لذلك على الدولة ورجال الاقتصاد العمل على إيجاد أسواق مالية غير متأتية من أموال المصارف، لأنها لا تقرض أموالاً إلا لزبائنها الذين يملكون أعلى درجات التقويم وأدنى درجات الأخطار، ما يجعل من المستحيل على المواطن البسيط صاحب الأفكار الرائدة أن يحصل على التمويل لترجمة أفكاره. كما أن المصارف غير مهتمة بتمويل البحث والتطوير العلمي، لأن هذه العملية تبدو للوهلة الأولى نظرية ولا يمكن محللي الأخطار في المصارف تقويم ربحيتها المؤكدة.

إن أموال المستثمرين الناتجة من الأسواق المالية مكّنت الولايات المتحدة من أن تصبح الرائدة في مجال البحث العلمي والتقني، متفوقة بذلك على الدول الأوروبية واليابان. فانتقال الأموال من المصارف الى الأسواق العامة يجعل عملية التمويل أكثر إثارة وديموقراطية، وأقل تركيزاً على الربحية المباشرة والمضمونة حسابياً. وتساهم بالتالي في عملية التنمية بحيث انها تجمع بين الفكر والمال، ما ساهم في قيام الثورة المعلوماتية والصناعية والبحثية.

كل هذه الحقائق تؤكد أهمية العلوم بمختلف فروعها ودورها في النهوض بالأمم وإدخالها الى دائرة المنافسة، لذا على الدول العربية أن تزيد اهتمامها بقطاع التعليم العالي، وتخصيص موازنات خاصة لبناء مراكز الأبحاث والدراسات. ويتحقق هذا الأمر عندما تدرك هذه الدول أن الهدف من التقدم العلمي ليس الربح المادي المباشر والسريع، بل التأسيس لمجتمع العلم والمعرفة القادر على المنافسة في الأسواق العالمية. فالشباب المثقف والمتعلم هو العنصر الوحيد القادر على النهوض بدولته والالتحاق بالتالي بركب ثورة المعلومات.

وخصصت الولايات المتحدة 137،2 بليون دولار من الأموال الفيدرالية للأبحاث والتطوير للعام الجاري، والهدف من ذلك إبقاء القدرة التنافسية في التكنولوجيا وفي الأسواق العالمية. وشمل هذا الإنفاق شركات الهندسة والفيزياء والطاقة وغيرها من المجالات الحيوية الجديدة.

وعلى الدول العربية أن تركز إنفاقها على تطوير الأبحاث في مجالات الطب والصيدلة والعلوم الجينية والبيولوجية والهندسة والاتصالات، لأن هذه القطاعات تخدم المجتمع وتخدم البشرية جمعاء، ولأنها تتيح فرص عمل وتؤمن للدول قدرة تنافسية كبيرة.

*خبير اقتصادي لبناني

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر: الحياة اللندنية-20-3-2007