ماذا يفعل العرب بأموال الطفرة النفطية الراهنة؟

 

 

أحمد السيد النجار

 

 

حسنا فعلت دول الاوبك بقرارها تخفيض انتاج النفط للحفاظ علي أسعارها مستفيدة في هذا الاجراء من الذكريات المريرة لانهيار أسعار النفط في شتاء عام‏1986‏ لاقل من ثلث سعره في عام‏1985‏ عندما تسابقت دول منظمة الاوبك انذاك علي زيادة الانتاج وتجاوز الحصص المحددة لها من قبل المنظمة بما أغرق السوق النفطية بفائض العرض وتسبب في انهيار الاسعار‏.‏ وبمثل هذه الارادة يمكن لدول الاوبك وفي القلب منها الدول العربية أن تحافظ علي استمرارية وتصاعد الطفرة النفطية الراهنة المتمثلة في ارتفاع أسعار النفط وايراداتها من تصديره بصورة فارقة عن المستويات السائدة قبل عام‏2000.‏

وبقدر أهمية الاجراءات الكفيلة بالحفاظ علي أسعار النفط عند مستويات عادلة‏,‏ فإن استخدام الدول العربية المصدرة للنفط لاموالها يتسم بنفس القدر من الاهمية لانه يحدد كيف تستبدل الدول العربية ريع ثروتها النفطية الناضبة‏,‏ ويحدد فرص هذه الدول في النمو والازدهار المتواصل مستقبلا‏.‏ وقد بلغ مجموع احتياطيات الدول العربية من النفط عام‏2004‏ نحو‏667,4‏ مليار برميل تشكل نحو‏59%‏ من اجمالي الاحتياطيات العالمية‏,‏ وبلغ مجموع احتياطياتها من الغاز الطبيعي نحو‏53353‏ مليار متر مكعب تمثل نحو‏29,3%‏ من اجمالي الاحتياطي العالمي منه‏.‏

ورغم التغيرات التي حدثت في طبيعة العقود المبرمة بين شركات النفط والدول العربية عن العقود القديمة إلا أن العقود الحديثة مازالت تمنح الشركات الاجنبية التي تقوم بالتنقيب عن النفط والغاز واستخراجهما‏,‏ حصة كبيرة من الموارد العربية من النفط والغاز‏.‏ لا لشيء الا لان الكثير من الدول العربية متخلفة وتعتمد علي شركات بلدان أخري في استكشاف وانتاج النفط والغاز‏,‏ كما تعتمد الشركات الوطنية في الكثير من البلدان العربية علي عمالة فنية وماهرة من بلدان أجنبية‏.‏

وعلي أي الاحوال فإن الطفرة النفطية الراهنة تشكل فرصة جديدة للاقتصادات العربية لتوظيف الايرادا ت الناجمة عنها من أجل احداث طفرة موازية في قدرة وتنوع وحداثة الاقتصادات العربية شريطة توفر الارادة السياسية لتحقيق ذلك داخل كل قطر عربي وبالتعاون بين الاقطار العربية المصدرة للنفط والتي تملك الفوائض المالية‏,‏ وبين الاقطار المؤهلة لاستيعاب الاستثمارات التي يمكن ان تتدفق من الاقطار النفطية الي الخارج‏.‏

ومقابل هذه الفرصة الايجابية‏,‏ فإنه من الوارد ان يتم اهدار ثمار هذه الطفرة النفطية الجديدة لو أعادت الدول العربية المصدرة للنفط‏,‏ انتاج نمط التوظيف الذي اعتمدته في الطفرة النفطية الأولي بعد حرب أكتوبر‏1973,‏ وأعادت إنتاجه في الطفرة النفطية الثانية بعد الثورة الإيرانية وأثناء السنوات الأربع الأولي من الحرب العراقية ـ الإيرانية‏,‏ وهو ما حدث بالفعل حتي الآن علي الأقل‏,‏ وذلك علي الرغم من التحذيرات التي أطلقناها وأطلقها غيرنا من أن زيادة الثروات العامة والشخصية في الدول العربية المصدرة للنفط نتيجة ارتفاع أسعاره وإيراداتها من تصديره سوف يؤدي إلي تفاقم حالة الاقتصادات البالونية أو اقتصادات الفقاعة القابلة للانفجار‏,‏ إذا تم توظيف هذه الأموال في البورصة وفي شراء الأراضي والعقارات والمعادن النفيسة بدلا من استثمارها في تمويل بناء مشروعات حقيقية ومنتجة في الاقتصاد العيني‏,‏ حيث أدي ذلك إلي زيادة الطلب علي الأسهم والعقارات وهي الاستثمارات الأسهل بالنسبة للمستثمرين الذين لا يملكون خبرات لبناء استثمارات صناعية أو زراعية أو خدمية‏.‏ وإزاء عدم توازي الاستثمارات العينية الجديدة المحدودة‏,‏ مع الزيادة الهائلة في حجم الطلب علي الأسهم‏,‏ فإن تضخم أسعار هذه الأسهم ثم انهيارها يصبح واقعا لا محالة‏,‏ كما أن ركود قطاع العقارات ولو بعد حين يكون بدوره أمرا مرجحا‏,‏ أو يتم إضاعة الثروات في عقارات لا تستخدم أو تستخدم بمعدلات متدنية للغاية‏.‏ وقد حدث بالفعل وانهارت أسعار الأسهم في العديد من البورصات العربية في البلدان المصدرة للنفط بالذات‏.‏

والغريب حقا أن البحث حول أسباب هذه الانهيارات والحلول التي قدمت لمواجهتها‏,‏ كانت غالبا في الطريق الخطأ‏.‏ ففي بعض البلدان بدا الأمر وكأن الأزمة تكمن في توفير المزيد من الطلب علي الأسهم مما استدعي السماح للمقيمين من غير أبناء البلد الأصليين بالاستثمار في الأسهم في بلد كبير مثل السعودية‏,‏ وخفض الضرائب علي الأرباح المحققة في البورصة من‏45%‏ إلي‏20%‏ لإتاحة المزيد من السيولة للمستثمرين ولتشجيع المزيد من المستثمرين علي استثمار أموالهم في البورصة‏,‏ رغم أن الأزمة عكسية تماما وتتمثل في وفرة الأموال التي أدت لارتفاع أسعار الأسهم بصورة مبالغ فيها مما أدي لانهيار الأسعار بعد موجات من الصعود غير المنطقي‏,‏ وعادت الأسعار لمستوياتها قبل عامين‏,‏ ثم حدثت حالة من التذبذب العنيف لأسعار الأسهم في ظل انعدام الثقة واليقين بشأن المستقبل‏.‏

كما تعامل الجميع تقريبا علي أن رؤساء هيئات سوق المال هم المسئولون عن أزمة البورصات العربية‏,‏ وفي بلدان أخري تمت مساءلة وزراء المالية‏.‏ والحقيقة أن الأمر يتجاوزهم جميعا‏,‏ لأنه ببساطة يتعلق بالاستراتيجية الاقتصادية للدولة والمجتمع‏,‏ هذا إذا كانت هناك استراتيجية اقتصادية فعليا تتمثل في خطة لتوظيف الإيرادات النفطية والمدخرات العامة والخاصة في مشروعات صناعية وزراعية وخدمية ضرورية لتحقيق التنمية الاقتصادية وتطوير قدرة الاقتصاد الحقيقي‏(‏ العيني‏)‏ علي النمو الذاتي المتواصل بغض النظر عن حركة أسعار النفط التي لا تزال حاكمة في تحديد اتجاه غالبية الاقتصادات العربية‏.‏ إن مثل هذه الاستراتيجية تعني في الواقع أن المدخرات سيتم توظيفها في تمويل الاستثمارات الجديدة التي ستستوعب التدفقات المالية للبورصة بدون مشاكل جوهرية‏.‏

وكنتيجة طبيعية للارتفاع الكبير في إيرادات الصادرات النفطية العربية فإن معدلات الادخار في البلدان المصدرة للنفط ارتفعت إلي مستويات عالية لكن معدلات الاستثمار لم تتحرك بصورة موازية بل ظلت منخفضة‏,‏ وهذه الفجوة بين معدل الادخار الذي ارتفع كثيرا‏,‏ ومعدل الاستثمار المتدني للغاية تعني أن هناك أموالا هائمة يتجه جانب كبير منها في العادة إلي أسواق الأسهم ويثير فيها الاضطراب‏,‏ كما اتجه جزء لأسواق الذهب ورفع سعر الأونصة بأكثر من‏50%‏ لتتجاوز‏650‏ دولارا في بعض أيام التعامل‏,‏ كما اتجه جزء إلي مجال العقارات‏,‏ فضلا عن الأموال التي تسربت إلي خارج الدول العربية‏.‏

ويبدو تكرار العرب لنمط توظيفهم لإيراداتهم النفطية في أسواق الأسهم وكأنه قدر إغريقي معلق في رقبة البلدان العربية ولافكاك لها منه‏,‏ لكنه في الحقيقة نتيجة لغياب الاستراتيجيات التنموية‏,‏ ونتيجة أيضا لسوء توزيع الدخل واكتفاء الطبقة العليا بريع النفط وتسييدها حالة من الخمول والاعتماد علي ريع المواطنة‏.‏ باختصار إذا لم يكن هناك تغيير اقتصادي ـ اجتماعي ـ سياسي حقيقي نحو المزيد من العدالة في توزيع الدخل ونحو إعلاء شأن قيمة العمل كأساس لتحقيق الثروة بالتضافر مع العلم‏,‏ ونحو تطوير ثقافة الادخار والاستثمار في الاقتصاد العيني الصناعي والزراعي‏,‏ فإن التركيز علي الاقتصاد الرمزي سوف يولد دائما أزمات اقتصادية ويبقي الاقتصاد ضعيفا ومنكشفا وتابعا في حركته لأسعار النفط وعرضة للأزمات والتذبذب المستمر‏.‏

وربما تكون كلمة السر في تغيير هذا الواقع هي دفع الاستثمار العيني الصغير والكبير والحكومي والخاص إلي أقصي مدي لإنتاج السلع والخدمات التي تحتاجها البلدان العربية أو التي يمكنها تصديرها إقليميا ودوليا بكفاءة وقدرة تنافسية عالية‏,‏ بما يستوعب أي تدفقات مالية لأسواق الأسهم بلا مشاكل‏,‏ ويستوعب أيضا قوة العمل في فرص عمل حقيقية‏,‏ كما أن هناك ضرورة لتحسين توزيع الدخل وجعله أكثر عدالة لتعظيم حوافز النمو الذاتي المتواصل في الاقتصاد‏.‏ كما أن الانتباه إلي الفضاء الاقتصادي العربي الرحب‏,‏ سوف يفتح أمام رءوس الأموال العربية الناتجة عن الطفرة النفطية الراهنة فرصا هائلة للتوظيف الآمن في البلدان العربية‏,‏ بعيدا عن التعصب العنصري المضاد للعرب والمسلمين الذي تتزايد خطورته في الغرب عموما وبالذات في البلدان المستقبلة التقليدية للأموال العربية وعلي رأسها الولايات المتحدة‏.‏

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً و دون تعليق.

المصدر: الأهرام المصرية-27-10-2006

 

مواضيع ذات علاقة:

 

کي لا نحوِّ ل النعمة َإلى نقمة!!

هل أميركا مستعدة للصدمة النفطية القادمة؟

ارتفاع أسعار النفط ومعدلات التضخم

معوقات التنمية الاقتصادية في الدول العربية النفطية

الأسباب غير التقليدية لارتفاع أسعار النفط

متى سينضب النفط؟

مستقبل العالم مع النفط ومع انخفاضه

فنزويلا ما بعد "تسييس" النفط

وصفة سحرية لعلاج أميركا من إدمان النفط

ارتفاع أسعار النفط ... إحتياطاتـه

أين تذهب عوائد النفط الخليجي؟

الاستثمار في ظل معادلة النفط والذهب

هل يرسم النفط ملامح العلاقة بين واشنطن وبكين؟

عوائد النفط تقدم فرصة نادرة لإصلاح اقتصاديات الدول العربية

النفط والمياه: كلاهمامعركة حياة       

هل أميركا مستعدة للصدمة النفطية القادمة؟

ارتفاع أسعار النفط ومعدلات التضخم

معوقات التنمية الاقتصادية في الدول العربية النفطية

الأسباب غير التقليدية لارتفاع أسعار النفط

متى سينضب النفط؟

مستقبل العالم مع النفط ومع انخفاضه

فنزويلا ما بعد "تسييس" النفط

وصفة سحرية لعلاج أميركا من إدمان النفط

التحالفات السياسية عقبة أمام تطوير مصادر الطاقة الأميركية

هيلاري كلينتون واستراتيجية أميركا النفطية

ارتفاع أسعار النفط ... إحتياطاتـه

أين تذهب عوائد النفط الخليجي؟

ورقة النفط الإيرانية... هل تكسر شوكة الدبلوماسية الغربية؟

الاستثمار في ظل معادلة النفط والذهب

هل يرسم النفط ملامح العلاقة بين واشنطن وبكين؟

التأميم سلاح شافيز في وجه شركات النفط

عوائد النفط تقدم فرصة نادرة لإصلاح اقتصاديات الدول العربية

نجاح الاقتصاد الريعي في دول الخليج يشكل حجر عثرة أمام الإصلاحات الشاملة  

واشنطن تقر قانونا جديدا للطاقة يهدف إلى: تقليص الاعتماد على النفط الخارجي والصناعات النووية تستعد لمكاسب ضخمة. 

توجه الصين لزيادة مخزونها النفطي يثير قلق الأسواق

إيران والغرب... وحدود استخدام "ورقة النفط"

النفط والمياه: كلاهمامعركة حياة       

قطاع النفط في العراق بين الواقع المؤلم والأفاق المستقبلية

النفط والاستراتيجية الاقتصادية العراقية(1)

مستثمر بارز: سعر النفط سيتجاوز 100 دولار للبرميل

النفط العراقي من التخريب إلى مخططات التهريب