شكوك وأسئلة حول جدوى المساعدات التنموية للدول الفقيرة
نيكولاس كريستوف
لا تخبرْ أحداً، فثمة سر في أوساط عالم المساعدات الخارجية خاصة منها تلك المخصصة للمجهود التنموي في الدول الفقيرة، يفيد بأن المساعدات غالباً ما لا تحقق الأهداف المتوخاة منها. وقد تم الإفصاح عن الحقيقة (مع المبالغة أحياناً) في كتاب جديد مستفز صدر مؤخراً بعنوان "عبء الرجل الأبيض" لصاحبه ويليام إيسترلي، الموظف السابق بالبنك الدولي، والذي يعمل اليوم أستاذاً للعلوم الاقتصادية بجامعة نيويورك، وقد أثار جدلاً محتدماً في الأوساط المعنية، غير أن الطامة الكبرى تكمن في أن بعض أفكاره صحيح حقاً. دعوني أشير في البدء إلى أنه لا ينبغي للسياسيين الجمهوريين الأميركيين، والبخلاء منهم خاصة، قراءة هذا الكتاب، فقد يؤجج ذلك شكوكهم ويدفعهم إلى المطالبة بالتقتير في مساعدة الفقراء في الدول النامية. ولكن على من تبقى منا أن يقرأه بتمعن لأن ثمة رغبة أكيدة في محاربة الفقر العالمي، وبالتالي فعلينا إيجاد طريقة ما مناسبة لجعل أموال المساعدات أكثر فعالية. الحقيقة أنني لا أتفق مع الكثير مما ورد في كتاب "إيسترلي" من أفكار، غير أنه أصاب بخصوص حقيقة واحدة، وهي أن مساعدة الناس قد تكون أصعب بكثير مما تبدو. فعندما يعاني الناس الجوع المزمن، على سبيل المثال، فإن من شأن إرسال المواد الغذائية في الواقع أن يعقد الأمور أكثر لأن الأغذية القادمة تتسبب في تدني الأسعار وتضرب المحاصيل في السوق المحلي وتخل يتوازن الحالة الاقتصادية عموماً، وقد تدفع بالتالي المزارعين إلى الإحجام عن زراعة أراضيهم في الموسم التالي. (ولذلك تحاول الأمم المتحدة عند إنفاق أموال المساعدات شراء الأغذية في المنطقة بدلاً من استيرادها). في إحدى الزيارات التي قمت بها إلى إقليم دارفور، تناولت وجبة العشاء بأحد مطاعم مدينة نيالا ويدعى "كي 2". وخلف المطعم كانت نحو 18 سيارة دفع رباعي كبيرة بيضاء اللون تابعة للأمم المتحدة ومنظمات العون الإنساني مركونة، ربما تصل قيمتها إلى نحو مليون دولار في بلد يموت فيها الناس جوعاً. الواقع أن موظفي المنظمات الإنسانية يعملون جاهدين في إقليم دارفور كما في غيره، بشكل يستحق التنويه والإشادة وفي ظروف صعبة ومحفوفة بالمخاطر، وأنا لا أحسدهم على امتطائهم سيارات فارهة من هذا القبيل. ولكن يبدو أن ثمة خللاً ما عندما نعلم أن المنظمات الدولية تنجح في صيانة سيارات الدفع الرباعي التابعة لها بسرعة كبيرة مقارنة مع الوقت الذي تستغرقه مهمة صيانة المستشفيات مثلاً. (وأحد أسباب ذلك يتمثل في أن وضع الميزانية يتم بشكل سنوي، ثم إن إحدى أفضل الطرق لإنفاق منحة ما في عام واحد وعن بكرة أبيها هي شراء مركبة فارهة). ومن المعروف أن البلدان التي نجحت في انتشال شعوبها من براثن الفقر (مثل الصين وسنغافورة وماليزيا) كانت تتحصل دوماً على مساعدات محدودة للغاية، في حين أن العديد من البلدان التي عرفت تقاطر المساعدات الخارجية عليها بكثرة (مثل النيجر والتوغو وزامبيا) انتهت إلى وضع أكثر فقراً مما كانت عليه، وبالتالي لم يلعب الجهد التنموي المبني على تلقي المساعدات الدور المنتظر منه فيها. ونتيجة لذلك، يعتقد العديد من علماء الاقتصاد أن المساعدات لا تجعل عموماً البلدان الفقيرة تقلع على طريق النمو، إلا أنهم يرون أنها تساعد بصفة أنجح وأكثر فاعلية على النمو في البلدان الفقيرة التي تتمتع بحسن الإدارة. وتلك كانت مثلاً خلاصة دراسة أنجزها في 2000 كريغ بورنسايد وديفيد دولار. وقد أعاد إيسترلي تأكيد ما انتهت إليه تلك الدراسة، ولكن باستعمال كم أكبر من المعطيات هذه المرة. غير أنه لم يجد –لسوء الحظ- تحسناً حتى في أحوال الدول التي تتوفر على إدارة جيدة. ولعل أكثر ما يبعث على الحزن هو ما توصل إليه راغورام راجان وأرفيند سابرامنيان من صندوق النقد الدولي من أن "لتدفق المساعدات تأثيرات سلبية على القدرة التنافسية للبلدان". أما مكمن الخلل، فيتمثل في أن المساعدات تؤدي إلى ارتفاع سعر الصرف المحلي، وهو ما يؤدي بدوره إلى تراجع الصناعة المحلية. كما يرى "سابرامنيان" أيضاً أنه يمكن لعائدات المساعدات أن تتسبب في المشكلة نفسها التي تتسبب فيها العائدات النفطية، والمتمثلة في تشجيع الاعتماد عليها وإضعاف المؤسسات المحلية. غير أن دراسات أخرى تشير إلى أنه يمكن للمساعدات تحسين النمو. ثم إنه كيفما كان تأثير المساعدات على معدلات النمو الاقتصادي، فمما لاشك فيه أن المساعدات تقوم بدور أكثر أهمية، ألا وهو إنقاذ أرواح الأشخاص. ذلك أنه مقابل سنتات قليلة يمكن تلقيح طفل وإنقاذ حياته. ومقابل 5 دولارات يمكن شراء شبكات الأسرَّة للوقاية من لسعات البعوض المسبب للملاريا. لقد نشر "مركز التنمية العالمية"، وهو مؤسسة بحثية مقرها واشنطن، كتاباً رائعاً بعنوان "إنقاذ الملايين" يظهر كيف ساهمت المشاريع الصحية في إنقاذ أرواح الناس، حيث ساهم القضاء على مرض الجدري على سبيل المثال في تحسين حياة العديد من الناس مقابل أموال أقل مما قد يتطلبه أي مشروع يمكن للمرء أن يتخيله. ففي دارفور لم نبذل ما يكفي من الجهود، غير أن المساعدات التي أرسلناها حافظت، على كل حال، على بقاء مئات الآلاف من الناس على قيد الحياة. لقد قمت لفترة طويلة برعاية أطفال عبر برنامج "بلان يو إيس إي". وفي كل زيارة أقوم بها للطفل "المتبنى" في أماكن مثل الفلبين والسودان، ألاحظ كيف تحولت حياة الأطفال بفضل هذه الرعاية الأميركية. صحيح أن المساعدات ليست الحل لكل المشكلات، ولكن الأكيد أنها تعمل على إنقاذ الأرواح. وبالتالي، فدعونا نخوض في نقاش حول فعالية المساعدات. فالمشاكل حقيقية، وكذلك ملايين الناس الذين هم على قيد الحياة اليوم والذين لولا المساعدات لما كانوا بيننا اليوم. و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور. المصدر: الإتحاد الإماراتية- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز" -16-6-2006
|