الرأسمالية رجل ميت ولو أنه ما زال يتحرك

 

محمد الباهلي 

 

 

الطريق الثالث:

لا أبالغ إذا قلت إن الكثير من الطروحات والتحليلات والمناقشات التي دارت في الفترة السابقة، والتي أشار إليها الباحثون والأكاديميون على اختلاف مدارسهم، حول إشكالية "إفلاس" النظام الرأسمالي، كانت أقرب في تشخيصها وتصوراتها إلي الحقيقة من غيرها من الطروحات الأخرى التي لا ترى ذلك، والتي ذهبت إلى أن ما تعاني منه الرأسمالية هو مجرد أعراض شكلية يمكن تجاوزها ويعود النظام الاقتصادي أكثر قوة وفاعلية وديناميكية. وآخر من كتب في هذا الاتجاه هو فريد زكريا، وذلك في مقاله "البيان الرأسمالي". فرغم تأكيده الصريح على أن النظام الرأسمالي يمر بأزمة حادة ويعاني من خلل خطير ورغم إشارته الى ما قاله عميد المحللين الماليين "مارتن وولف" حول هذه الإشكالية وخطورتها والتي خلص فيها إلى القول: "ها قد سقط إله أيديولوجي آخر"، إلا أنه أصر على أنه رغم هذه العيوب الذي يعاني منها النظام الرأسمالي، فهو لا يزال المحرك الاقتصادي الأكثر إنتاجية ضمن كل ما اخترعه الغرب. وهنا أتوقف لأعالج هذا الفكر التنظيري الذي لا يرى المشكلة إلا بعين واحدة، والذي يعتبر في نظري أحد أسباب الأزمة المالية ومشكلة النظام الرأسمالي، حيث لعب دوراً مؤثراً في استمرار الأزمات المالية المتكررة، وأعني بذلك أنه عندما يتم تشخيص الحالة الاقتصادية وبخاصة إذا كانت هذه الحالة ناتجة عن خلل عميق فإن هذه العقلية تعتبر أن ما يجري فيها من خلل على أنه مجرد أعراض شكلية وليست إشكالية في جوهر النظام نفسه يمكن حلها بمجموعة من المسكنات، حيث نجد ذلك عند كل أزمة اقتصادية حيث يتم بعدها تغيير جلد الرأسمالية وصورتها في لباس جديد رغم وجود "العلة والمرض" في داخل النظام نفسه. ويبدو هذا الأمر واضحاً عندما وصل "المحافظون الجدد" إلى السلطة في أميركا، حيث تم اعتماد فكرة الليبرالية الجديدة كمخرج مؤقت للأزمة التي أصابت الرأسمالية، والاتجاه إلى تحرير السوق من القوانين التي كانت تضبطها، وزيادة نفوذ الشركات الاحتكارية والأسواق المالية ولا شك أن ذلك التوجه فتح الباب أمام كبار المغامرين الماليين لكسب ثروات طائلة عن طريق المضاربات والمراهنات وأيضاً صناديق الاستثمار وتجار العملة لتحقيق مكاسب كبيرة على حساب الشعوب، والأهم في هذا التوجه أن "الربا" (الفائدة) هو الذي يقود حركة الاقتصاد الرأسمالي بأكمله تقريباً، لذلك كانت النتيجة أزمات اقتصادية متلاحقة كانت أحدثها الأزمة المالية الحالية التي لا زالت آثارها واضحة ومع ذلك فإن الحل لا يزال بعيداً، فأصحاب الرأي المطالب بإيجاد بديل آخر عن الرأسمالية يدركون اليوم أن هذه النظرية وصلت إلى مرحلة الإفلاس، وهذا ما أشار إليه مفكرون كثيرون، منهم إيريك هوبسيوم ومارتن موريل وبول كروجمان (الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد) والذي اعتبر الرأسمالية "رجلا ميتاً" ولو أنه ما زال يتحرك. وقد قال مارتن وولف في صحيفة "فاينانشال تايمز" عبارته المشهورة: "ها قد سقط إله أيديولوجي آخر".

لذلك فإن أي إصلاح للنظام الرأسمالي قد لا يكون مفيداً، لأن المشكلة في جوهر النظام نفسه، أي في موضوع "الفائدة" التي تمثل النظام بأكمله، وهذا ما لفت نظر العالم للاقتصاد الإسلامي الذي يحرم نظامه التعامل بالربا، خاصة بعد نجاح تجربة الصيرفية الإسلامية في العالم وتميزها كتجربة مالية وحيدة في العالم كله لم تتأثر بالأزمة الحالية. وقد ذكر مسؤول ماليزي في الآونة الأخيرة أن الاقتصاد الإسلامي الذي تطبقه بلاده أنقذها من الأزمة العالمية، وأن رصيد البنوك الإسلامية في ماليزيا يتزايد سنوياً إن الاقتصاد الإسلامي لا يتوقف فقط عند تحريم الربا، بل يضع حركة الاقتصاد تحت نظر التشريعات الإسلامية التي تضبط القائمين عليه في سلوكهم مع المال والنفس والمجتمع. وهو يجعل عمليات الاستثمار للمصلحة العامة وليس بمقدار العائد النقدي من الاستثمار، وذلك بإظهار العمل الإنساني واختلاطه بالجهد البشري وجوهر هذه العملية تتم على أساس المخاطر المنضبطة والمحسوبة من خلال التفاعل الحقيقي في العملية الاستثمارية. والأهم من كل ذلك أنه اقتصاد رباني يقوم على قواعد من تعاليم الخالق جل وعلا، وليس من وضع الإنسان... فهل يكون هذا الاقتصاد هو البديل القادم بعد إفلاس الاشتراكية والرأسمالية، راسماً الطريق الثالث الذي يبحث عنه العالم لحل مشكلاته وأزماته المالية والاقتصادية.

وكل ذلك حسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً ودون تعليق .

المصدر: الاتحاد الاماراتية- 26-6-2009