النفـط يصعـد نحـو الهـاويـة

 

روشير شارما

 

 

 لاحظ الكاتب المسرحي آرثر ميلر ذات مرة أنه "يمكن القول إن حقبة ما انتهت عندما تُستنفَد أوهامها الأساسية". ومعظم الأوهام التي طبعت الطفرة الاقتصادية العالمية الأخيرة ــ المفهوم القائل بأن النمو العالمي انتقل إلى مستوى أعلى بصورة دائمة، وبأن أسعار المساكن من ميامي إلى مومباي سترتفع إلى ما لا نهاية ــ أصبحت الآن مستنفدة بالفعل. غير أن فكرة واحدة لا تزال تملك القدرة على الاستحواذ على المخيلات والأسواق:

وهي أنه من المحتم أن ترتفع أسعار السلع الأساسية مثل النفط والنحاس والحبوب والذهب مع مرور الوقت ويعتقد عدد كبير من الأشخاص الأذكياء أن الهبوط في أسعار السلع الأساسية العام الماضي يشكل محطة قصيرة في سوق متجهة نحو الصعود في المدى الطويل.إنها نظرة متجذرة في اتجاهات قوية وحقيقية، مثل نمو الصين والهند، والتراجع في الاحتياطي العالمي (استُنفًد النفط في عدد كبير من أكبر الحقول النفطية وأفضلها في العالم)، والمخاوف من تأميم الموارد (لا تسيطر شركات النفط المستقلة الآن إلا على 20 بالمائة من الاحتياطي العالمي)، والنقص طويل الأمد في الاستثمار في الطاقة والزراعة مما يحد من العرض غير أن الواقع هو أن العالم واجه كل هذه المسائل من قبل، وفي الأعوام الـ200 الماضية، كانت أسعار السلع الأساسية تتجه هبوطا، بفضل التكنولوجيا الجديدة والفعالية الأكبر في الاستخراج، واستبدال سلعة بأخرى (مما يشرح الترابط الشديد بين أسعار السلع الأساسية).

لدى شركة الأبحاث "بنك كريديت أناليست" التي تتخذ من مونتريال مقرا لها، بيانات تظهر أن أسعار السلع الصناعية الأساسية هي أقل بـ 75 بالمائة مما كانت عليه عام 1800، بعد احتساب التضخم. وعلى الرغم من كل المخاوف بشأن "بلوغ استخراج النفط ذروته"، فإن الحقيقة هي أن أسواق النفط الأساسية المتجهة نحو الهبوط هي أسواق يقودها الطلب لا العرض وعندما يرتفع الطلب في نهاية المطاف، هناك عادة بديل ما جديد (الطاقة النووية، الغاز الطبيعي، التكنولوجيا الخضراء) يتحين الفرصة لتلبية هذه الزيادة في الطلب. السعر الحقيقي للنفط الآن هو عند المستوى نفسه الذي كان عليه عام 1976، وقبل ذلك في سبعينات القرن الـ19 عندما بدأ لأول مرة الاستخدام الجماهيري للنفط في الولايات المتحدة. ويعود هذا الهبوط طويل الأمد في الأسعار بشكل أساسي إلى الاكتشاف المستمر لحقول جديدة وتحقيق فعالية أكبر في مجال الطاقة، مما يُفقد فكرة أن النفط ينفد بسرعة من العالم، أي معنى. وتجربة ثمانينات القرن الماضي مثال جيد في السياق الحالي أيضا.

استمرت اليابان وأوروبا في تسجيل نمو قوي في ثمانينات القرن الـ20، غير أن استهلاك النفط ظل بشكل أساسي على حاله طوال ذلك العقد، إذ سعت المنطقتان إلى تحقيق فعالية أفضل في استهلاك الوقود وانتقلتا إلى مصادر بديلة للطاقة مثل الطاقة النووية. كما أن 90 بالمائة من النمو في الإمكانات النفطية الجديدة منذ عام 2004 مصدره الوقود الأحيائي والنفط الاصطناعي وسوائل الغاز الطبيعي. بينما تصبح البلدان أكثر غنى، يتراجع الاستهلاك الفردي للسلع الأساسية فيها. إنها أسطورة إذاً أن الطفرة في الصين والهند سوف تؤدي حتما إلى ارتفاع أسعار النفط والسلع الأساسية الأخرى.في أي مرحلة من الوقت، هناك دائما قوى اقتصادية جديدة تظهر على الساحة العالمية، إلا أن أسعار السلع الأساسية استمرت في الهبوط. كانت الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي مرحلة قوية نسبيا على صعيد الاقتصاد العالمي، وكانت الصين تنمو بمعدل 9 بالمائة. غير أن أسعار معظم السلع الأساسية لم ترتفع بالوتيرة نفسها: فالنفط مثلا لم يتجاوز قط عتبة الـ40 دولارا للبرميل الواحد في تلك المرحلة.السبب وراء عدم ارتفاع أسعار النفط بسيط: الطلب على أي سلعة مطاط بحسب السعر، مما يعني أنه عندما يرتفع السعر كثيرا، يتوقف المستهلكون عن شراء السلعة أو يبذلون جهودا ضخمة لإيجاد بديل عنها. ففي الستينات والسبعينات من القرن الماضي، أدى انتعاش التصنيع في اليابان وأوروبا إلى ارتفاع أسعار المعادن الصناعية مثل النحاس والنيكل، حتى لم يعد بإمكان المشترين تحمل الأمر. وبلغ مجموع الإنفاق على النحاس الذروة مع 0.45 بالمائة من الاقتصاد العالمي في منتصف الستينات من القرن الماضي، وعلى النيكل 0.2 بالمائة في السبعينات من القرن الماضي. وعندما ارتفعت أسعار النحاس كثيرا، استُعمل الألمنيوم بديلا في عدد كبير من الوظائف. وبما أن السلع هي مدخلات في ذاتها، فهي لا تبرر سوى حصة معينة من التكاليف الإجمالية قبل أن يصبح استهلاك المنتج النهائي أمرا متعذرا.

هناك أسباب وجيهة للاعتقاد أن العالم اجتاز للتو نقطة تحول مماثلة. فقد انهارت الطفرة الأخيرة في أسعار النفط عام 1979، عندما تخطى مجموع الإنفاق على النفط 7 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي. وفي العام الماضي، بلغ الإنفاق على النفط حصة مماثلة من إجمالي الناتج المحلي العالمي، ومنذ ذلك الوقت تراجعت الأسعار بمعدل أكثر من الثلثين. والعام الماضي أيضا، بلغت أسعار سلع أساسية أخرى مثل النحاس والزنك والرصاص، مستويات مرتفعة لم نشهدها منذ الستينات أو السبعينات من القرن الماضي، قبل أن تهبط إلى الحضيض من جديد غير أن الأسواق لا تزال تراهن على أن سعر النفط سيرتفع من جديد. يبلغ سعر برميل النفط الذي سيتم تسليمه بعد ثلاث سنوات 70 دولارا، مقارنة بـ50 دولارا للبرميل الذي يباع الآن. ويتوقع بعض المحللين أن يصل سعر البرميل إلى 90 دولارا بحلول سنة 2012 ومن المتوقع أيضا أن ترتفع أسعار السلع الأساسية الأخرى من النحاس إلى الأرز.تجدر الإشارة إلى أنه حتى عام 2005، كانت الأسواق تتصرف انطلاقا من الافتراض المعاكس. فطوال سنوات، كانت أسعار البضاعة الفورية أعلى بكثير من أسعار البضاعة الآجلة، لأن معظم المستثمرين اعتقدوا أن الأسعار ستتبع الاتجاه التاريخي، أي انها ستهبط. وقد جنوا المال عبر تجديد عقودهم النفطية بسعر أقل. وما عدا ذلك، كانت السلع الأساسية تُعتبَر صفقة خاسرة، ولسبب وجيه. غير أن هذه النظرة التي استمرت طويلا تلاشت مع الطفرة في أسعار النفط التي شهدها العقد الحالي، وسوف تعود من جديد. حاليا لا يزال المستثمرون يبادرون إلى توظيف الأموال مجددا في السلع الأساسية عند أي بادرة معافاة في الاقتصاد العالمي، مما يولد التقلبات غير المنتظمة التي نشهدها في الأسابيع الأخيرة وتؤدي إلى ارتفاع الأسعار.

هذا التفاؤل هو في غير مكانه الصحيح. فالعالم هو الآن في خضم الهبوط الأكبر في النمو منذ الركود الكبير، ومن غير المرجح أن تتجدد في وقت قريب حقبة النمو العالمي المرتفع بطريقة استثنائية التي أدت إلى الزيادة في الطلب على السلع الأساسية من 2003 إلى 2007، لكن المحللين يوافقون بشكل أساسي، وبغض النظر عن نظرتهم حول الاقتصاد العالمي، على أن أسعار السلع الأساسية سوف ترتفع. يقول المتفائلون إن انتعاش الطلب الاستهلاكي سوف يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط والسلع الأساسية الأخرى، في حين يشتري المتشائمون السلع الأساسية للتحوط من ارتفاع شديد يخشونه في التضخم، نظرا إلى الأموال الطائلة التي تسكها البنوك المركزية حول العالم.يتجاهل السيناريوهان التاريخ الذي يظهر أن سلعة واحدة فقط يرتفع سعرها في البيئة التضخمية، وهي الذهب. أما أسعار السلع الأساسية الأخرى فهي لا ترتفع عادة إلا في المراحل الناضجة من الطفرة عندما يشهد الاقتصاد العالمي فورة في النشاط ويتجاوز الطلب العرض لفترة وجيزة. في الوقت الحالي، يتخطى العرض في كل السلع الأساسية تقريبا الطلب إلى حد كبير، وعلى الأرجح أنه سيتراجع في السنتين المقبلتين على الأقل.

من شأن آمال المنتجين أن تؤدي أيضا إلى استفحال الهبوط في الأسعار. فمن الواضح أن العاملين في قطاع النفط والمشتغلين بتعدين النحاس وبارونات الفولاذ يتوقعون أن يكون الهبوط الأخير في الأسعار مؤقتا، لأنهم لا يجرون سوى تخفيضات قصيرة الأمد في إنتاج المصانع بدلا من اتخاذ خطوات أكثر ديمومة مثل إغلاق المصانع. وخير مثال على ذلك صناعة الفولاذ التي خفضت إنتاجها بنسبة 40 بالمائة في مختلف أنحاء العالم منذ سبتمبر، فباتت المصانع تشغّل 65 بالمائة من طاقاتها بعدما كانت تشغل 95 بالمائة العام الماضي. غير أن مصنّعي الفولاذ لا يغلقون مصانعهم، مما يعني أن هذه المصانع ستعمل بسرعة جزئية في المستقبل المنظور، وهكذا لا يبقى للمنتجين سوى قدرة ضئيلة على تحديد الأسعار.التحركات مشابهة في حالة المعادن الأخرى. فعلى الرغم من الهبوط الأخير في الأسعار، لا تزال سلع كثيرة تباع بسعر يفوق بأشواط كلفة إنتاجها، ولذلك يجب أن تنخفض الأسعار أكثر قبل أن يشعر المنتجون بالألم الكافي الذي يرغمهم على إقفال مصانعهم. بدلا من ذلك، ارتفعت مخزونات معظم السلع الأساسية إلى أعلى معدل لها منذ خمس سنوات، وفي بعض الحالات 10 سنوات، على الرغم من أن أسعار البضاعة الفورية لاتزال أعلى بكثير من الأسعار التي كانت سائدة قبل عقد. يعني ذلك أنه سيكون على الأسعار أن تنخفض لأنه يجب التخلص من فائض المخزونات.

السبب الوحيد وراء عدم حصول هبوط أكبر في أسعار النفط هو أن كثيرا يتوقعون استمرار الطفرة في الصين بفعل خطط التحفيز القوية التي تطبقها بكين. ففي هذه الأيام، يمكن أن يطلق أي خبر سار قادم من الصين ــ حتى انحسار التراجع في التصنيع ــ هتافات من الفرح لدى المتداولين بالنفط.إنها هتافات سابقة لأوانها. فالصين تعاني من مشكلة فرط الاستثمار. فطوال عقد تقريبا، كانت تستثمر بمعدل يساوي 40 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي، وهو مستوى غير مسبوق في تاريخ التنمية الاقتصادية. ويذهب الجزء الأكبر من المال إلى صناعات التصدير التي تتراجع في التباطؤ العالمي. ومن غير المرجح أن ينتعش الطلب على الاستثمارات قريبا، ويجب ألا ينتعش. تساهم الصين في 10 بالمائة ومن الناتج الاقتصادي العالمي، لكنها تستهلك 25 إلى 50 بالمائة من معظم السلع الصناعية، وهي وتيرة لا يمكن الحفاظ عليها. يجب أن تتباطأ الوتيرة في السنوات المقبلة في حين تتحول الصين نحو خفض اعتمادها على الصادرات والاستثمارات، وبناء اقتصاد يحفزه المستهلكون المحليون. وتعمل بكين أيضا على إنشاء مصانع أكثر فعالية تستهلك طاقة أقل وتحتاج إلى كمية أقل من المواد الخام. وفي هذه الأثناء، ينخفض الطلب على السلع الأساسية في البلدان الأخرى غير الصين، بمعدل سنوي يتراوح بين 30 و60 بالمائة، مما سيلقي بضغوط حادة على الأسعار ويسير بها نحو الهبوط.

في مختلف الأحوال، ثمة مبالغة كبيرة في الحديث عن تأثير الصين على أسعار النفط. فالصين تستهلك 9 بالمائة من إنتاج النفط العالمي، في حين أن البلدان الثرية في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية تستهلك أكثر من 50 بالمائة. يتأثر الطلب على النفط إلى حد كبير بالنمو العالمي، وتتوقع وكالة الطاقة الدولية أن ينخفض بمعدل 2.4 مليون برميل في اليوم أو 2.8 بالمائة إذ تشير التوقعات الآن إلى أن الاقتصاد العالمي سيتقلص بنسبة 1.4 بالمائة عام 2009.سيخفض ذلك إلى حد كبير قدرة كارتل النفط على زيادة الأسعار. فلطالما وجدت منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) صعوبة في إملاء اتجاهات الأسعار عندما يفوق احتياطي طاقتها 5 بالمائة من إجمالي الطلب، وهو يبلغ حاليا 8 بالمائة كما أنه في طور الارتفاع. لقد أمر الكارتل بإجراء ثلاثة تخفيضات في الإنتاج في الأشهر الستة الأخيرة، وفي حين يلبي أعضاؤه الآن 80 بالمائة من التخفيضات المستهدفة، فإن حافز الغش سيزيد فحسب . في مرحلة ما بالتأكيد، سوف ترتفع أسعار السلع الأساسية من جديد، إنما بصورة مؤقتة فقط. حتى الآن، انطبع التراجع في الأسعار المستمر منذ قرون بأسواق هابطة لفترات طويلة وموجات صعودية تدوم لفترات قصيرة. تظهر البيانات من بنك "سي إس إف بي" أن معدل استمرار السوق المتجهة نحو الصعود في قطاع النفط يتراوح من أربع إلى تسع سنوات، ومعدل السوق المتجهة نحو الهبوط من 11 إلى 27 عاما. شهدت السوق المتجهة نحو الصعود التي انتهت الصيف الماضي، ارتفاعا بمعدل 10 أضعاف في الأسعار في غضون تسع سنوات، مما يعكس مدة السوق الصاعدة السابقة التي انتهت عام 1979، وحجمها. وقد أعقبتها سوق هابطة استمرت 20 عاما. وإذا كان في التاريخ عبرة، فنحن في بداية سوق هابطة أخرى تستمر لوقت طويل.

وكل ذلك حسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً ودون تعليق .

المصدر: Newsweek