تشويه الأسواق المالية

 

علي بن طلال الجهني

 

 

إن الهدف من كتابة هذا الموضوع هو محاولة إيجاد تفسير واضح مختصر، لجذور الأزمة ومدى تلاعب فئة قليلة شوهت الأسواق المالية، ما أدى إلى الكارثة الاقتصادية الشاملة التي تمر بها دول العالم بدرجات متفاوتة من الأذى .بدأت بوادر المشكلة منذ السبعينات من القرن الماضي حينما وجدت بضع مؤسسات مالية، كانت أكبرها وأهمها «ليمان براذرز» التي اشترتها في ما بعد مجموعة «سيتي بنك»، أنه من المربح شراء القروض من مانحيها أياً كانت درجة المخاطر في سلامة هذه القروض، وأياً كانت درجة تصنيفها من شركات «التقويم»، وأياً كانت ماهية ما يراد تمويل الحصول عليه، ثم «خلطها» وإصدار «ما يشبه السندات» المعتادة لتمثيل هذا الخليط العجيب المتباين من حيث النوع والمدة ومستوى العائد وقيمة القروض الأصلية. أي ان المستثمر في شراء هذه الأدوات المالية الجديدة الشبيهة - وليست المماثلة - للسندات المعروفة، والتي تم إصدارها تواً، لا يدري ولا يهمه أن يدري من أين أتت.

وكل ما يهمه هو اسم ومدى صدقية اَلْمُصَدِّر الأخير الذي تحمل اسمه ومن تلك الأدوات المالية التي بدت وكأنها السندات المعروفة التي تصدرها الحكومات والشركات، لتمويل ما يراد تمويله، ولد مخلوق جديد في بداية التسعينات اسمه «المشتقات»، وهي أدوات تجارية، كانت جديدة في ذلك الوقت، «مشتقة» من قيمة ما يشبه السندات التي تم تولديها من خليط القروض المتباينة التي تم دمجها وتم طمس منشئها عمداً ومع سابق إصرار! غير أن هذه «المشتقات» لا تباع ولا تشترى في أسواق مالية تشرف عليها سلطات رسمية كبورصة نيويورك أو شيكاغو أو لندن أو فرانكفورت. وهذا ما سهّل على المتعاملين في «المشتقات» إخفاء درجة خطورة ما كانوا يتاجرون به على المنشآت المالية التي وظّفتهم أولاً ثم على النظام المالي عامة. فلا يوجد سجل يوثق كمية ونوعية وسعر ما يباع ويشترى من مشتقات. وليس معروفاً لعامة الناس من البائع ومن المشتري ومتى تم البيع أو الشراء، وكم كان السعر المتفق عليه غير أن عمليات شراء وخلط القروض المتنوعة ثم إصدار ما يشبه السندات مقابلها، غزت أسواق العقار منذ أواخر التسعينات من القرن الماضي، وذلك بدوره دفع الممولين لامتلاك العقار إلى التساهل في منح القروض. فلا دفعات أولية ولا أي جهد في «تقويم» قدرات المشترين على الوفاء. غابت الدوافع للتحقق من قدرات مشتري العقار على الوفاء، ما دام أنهم وجدوا سوقاً مفتوحة «لبيع» ديون المقترضين الى شركات كبيرة ستخلطها وتسوقها من جديد. وبذلك تم خلق طلب ضخم متصاعد «مفبرك» لسهولة الحصول على التمويل، حتى صار الكثيرون يشترون مساكن عدة ويجدون من سيموّلها، لأن الممولين سيبيعون «الرهون» أو القروض التي منحوها لغيرهم. وبمجرد ارتفاع أسعار ما اشتروه تواً يتخلصون منها بربح ثم يبحثون عن غيرها، وهلمَّ جرا.

تدريجاً صارت «المشتقات» مشتقة بالدرجة الأولى من «الرهون العقارية». ولزيادة ضبابية التلاعب في تجارة المشتقات، أنشئت أقسام خاصة في المنشآت المالية في خارج الحدود كالباهاما، حتى لا تكون «المشتقات» جزءاً من موازنات المنشآت المالية المنشورة والأهم حتى يتم إخفاء ما يجري عن الجهات الرقابية في الاحتياط الفيديرالي (البنك المركزي) المسؤول عن مراقبة القطاع المصرفي وكان أهم المستثمرين في شراء ثم رهن «المشتقات» ما يسمى بصناديق التحوط التي لا تشرف على عملها أي جهة رقابية حكومية وهذا ما ساعد على التوسيع في توظيف «المشتقات» حتى أصيبت تجارة المشتقات «بطفرة» جينية خبيثة بحيث صارت «صناديق التحوط» تشتق من كل دولار، في حيازتها، عشرة، ثم عشرين، ثم ثلاثين، وحتى وصلت إلى أربعين اشتقت من كل دولار في عام 2007 ومنذ عام 2003 شاركت شركات التأمين الكبرى في الحفلة، سعياً وراء عمولات المشتقات العالية التي كانت ما بين نصف وواحد في المئة من قيمة كل مشتقة، وضمنت القروض التي تمنح برهن «المشتقات» ضماناً لها وحينما تعطلت سوق المشتقات لم تستطع شركات التأمين الوفاء بالتزاماتها، وكادت أكبرها تفلس لولا تدخل الخزانة الأميركية و «المركزي» وقبل أن تصل أزمة «المشتقات» إلى سد كل قنوات التعاملات المالية، أدى التهور في توظيف المشتقات إلى تغيير سوق الائتمان تغييراً جذرياً عما كان معمولاً به قبل سنوات قليلة والمقصود بـ «الائتمان» هو تمويل القروض لأي غرض كالبطاقات «الائتمانية» أو شراء العقار وبناء المصانع أو شراء الطائرات إلى تمويل شراء السيارات والثلاجات والإلكترونيات والتغيير الذي حدث في هذه السوق، أن القروض لم تعد جزءاً من موازنات القطاع المصرفي الذي تراقبه السلطات النقدية (أي تُعطى القروض من دون أن يتوافر لها مقابل في أصول مانحيها)، وإنما انتقلت السوق الائتمانية إلى صناديق التحوط حتى صار من السهل عليها إخفاء درجة المخاطرة في منح التمويل بضمان «رهن المشتقات» وما أن اكتشف المضاربون أن «المشتقات» التي يتم تداولها خارج «رادارات» سلطات رقابة الأسواق المالية بين المنشآت المالية قد تم «اشتقاقها» من رهون عقارية رديئة النوعية، بمعنى أن كثيراً من المقترضين لتمويل شراء مساكنهم سيعجزون عن الوفاء، وذلك سيؤدي إلى تكبيد تجارة المشتقات خسائر كبيرة، عندئذٍ، بدأوا ببيع أسهم هذه المنشآت، ما أفقدها جزءاً متصاعداً من أصولها، وهذا بدوره أضعفها حتى جعلها تتوقف عن منح القروض وخطابات الضمان، وما تبع ذلك من جفاف كل وسائل التمويل، ومن ثم الكارثة المالية التي تبعها التراجع الاقتصادي الذي يمر به العالم حالياً وموضوع الأسبوع المقبل سيكون مكملاً لهذا الموضوع بمشيئة الله والله من وراء القصد.

* أكاديمي سعودي

وكل ذلك حسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً ودون تعليق .

المصدر: daralhayat.com