الأزمة المالية الأميركية... التداعيات السياسية

 

د. صالح عبد الرحمن المانع 

 

 

تراجعت أسواق المال في منطقة الخليج العربي وغيرها من أسواق المال العالمية على إثر إعلان ثلاثة من أهم المصارف الأميركية إفلاسها، أو قربها من الإفلاس، مما جعل أحداها لقمة سائغة لبنك أميركا، وهو من أكبر البنوك المحلية في الولايات المتحدة، وتعرض المصرف الآخر "ليهمان بروذرز" للإفلاس الكامل، كما تعرضت إحدى أكبر شركات التأمين الأميركية "إي آي جي" لاحتمال انهيار مشابه، لولا تدخل الحكومة الفيدرالية في الساعات الأخيرة من عمر هذه الشركة وكما تحمل وكالات الأنباء من أخبار، فإن هذه الأزمة المالية في الولايات المتحدة قد تطيح بشركات ومصارف مالية ضخمة أخرى، وقد بدأت بالفعل بعض الشركات المالية في طلب قروض من بنوك محلية وأجنبية متعددة والواقع أن المرء يشعر بألم شديد لمثل هذا الانهيار المالي الذي يذهب بمدخرات الناس التي وضعوها في هذه البنوك. كما أن هذه البنوك وشركات التأمين تعتبر مرجعاً مالياً ومستودعاً لمدخرات بنوك أخرى محلية وأجنبية، وإذا ما استمرت مثل هذه الانهيارات للشركات والمصارف الكبرى، فأغلب الظن أن بنوكاً مرتبطة بها، أو معتمدة عليها في أوروبا والصين وغيرها من دول العالم، ربما تتأثر سلباً، وتفقد جزءاً من ودائعها المالية في هذه المصارف الأم وهناك خشية من أن هذه الانهيارات قد تؤثر على بعض البنوك الخليجية والعربية، التي اشترت سندات أو أسهماً، أو لها ودائع كبيرة في هذه البنوك.

غير أن شخصاً متخصصاً في المسائل السياسية ينبغي عليه أن ينظر في التداعيات السياسية لمثل هذا التدهور في أسواق المال بعناية. فلاشك أن الأفراد المتأثرين من مثل هذا التدهور، سيدلون بأصواتهم في الانتخابات الأميركية القادمة ضد حزب الرئيس الذي يقبع في البيت الأبيض، وهذا يعني أن عدداً كبيراً من الأصوات الاحتجاجية ستصب في مصلحة مرشح الحزب "الديمقراطي" باراك أوباما. كما أن مثل هذا التدهور المالي سيزيد من تركيز الحكومة الأميركية المقبلة على المشروعات الاجتماعية لضمان مستويات أعلى من الوظائف للعاطلين والمسرّحين من أعمالهم. ولعل التناقض يكمن هنا في أن الإدارة "الديمقراطية" القادمة ستجد نفسها مضطره إلى تبني مزيد من الإنفاق الحكومي، وسيفاقم ذلك من عجز الميزانية الضخم الذي تعاني منه الولايات المتحدة في الوقت الحاضر غير أن التغير الأكبر سيحدث في السياسة الخارجية الأميركية، فبينما كانت سياسات إدارة بوش تقوم على شن الحروب في أرجاء مختلفة من العالم، من أهمها المنطقة العربية، وجنوب آسيا، فإن الإدارة الديمقراطية الجديدة ستميل على الأغلب إلى الانكفاء على نفسها، وتقليص الإنفاق العسكري لصالح مزيد من أوجه الإنفاق المدني، والتركيز على خلق مزيد من الوظائف لأبناء الطبقة الوسطى، وستضطر الحكومة إلى رفع مستويات الضرائب على الطبقات الموسرة، وربما أيضاً على الاستثمارات الأجنبية.

وهناك نقاش يدور في صفوف المثقفين في الولايات المتحدة وأوروبا حول الاستثمارات الأجنبية، وشراء الشركات الكبرى من قبل الصناديق الدولية في الخليج وسنغافورة والصين وتايوان. وكلنا يذكر كيف وقف البعض في الكونجرس منذ نحو عام ضد شراء شركة موانئ دبي لميناء نيويورك. وأغلب الظن أن مثل هذه السياسة ستستمر في الولايات المتحدة، وإن بشكل أقل، حيث سينظر للمستثمرين الأجانب من الآن فصاعداً على أنهم منقذون لمثل هذه الشركات والمصارف المتعثرة. وربما ستستمر سياسة الإدارة الأميركية في الضغط نحو تحويل الاستثمارات الأجنبية إلى تملك سندات الشركات، والسندات الحكومية، بدلاً من الأصول وربما كانت بعض أسباب الأزمة الحالية يكمن في عوامل عدّة، فالجميع يشير إلى فقاعة أسعار العقار، التي وصلت إلى مستويات عالية لا يمكن للأفراد فيها تسديد الفواتير الشهرية للقروض المترتبة عليهم، وفي حال العقارات الأميركية، فإن عائدها الشهري من إيجار وخلافه، لم يكن كافياً لتسديد فواتير البنك وأقساطه الشهرية، وهذا ما دفع أصحاب هذه العقارات إلى إعلان إفلاسهم، وحين وضعت البنوك أيديها على هذه العقارات لم تعد قادرة على بيع تلك الأصول بأسعارها الأصلية. غير أن هناك سبباً هيكيلياً آخر درسناه في أول مادة في علم الاقتصاد، وهو أن الاقتصاد الرأسمالي يعاني من دورات ركود اقتصادي صغيرة، ودورات ركود اقتصادي ضخمة. وكلنا يذكر من كتب التاريخ المآسي التي تعرض لها الناس عام 1929. ونأمل ألا تصبح هذه الفترة صورة من صور ذلك العام المشؤوم.

وهذه البالونات التي تتضخم بشكل كبير، ثم تنفجر في وفترة وجيزة، لها ثمن باهظ على مدخرات الأفراد، وقد تحيل بعضاً منهم إلى الطبقة الفقيرة، كما قد تطيح بالطبقة الوسطى بشكل كامل. ولعلنا نتذكر فبراير عام 2006، حين انهارت أسواق المال في السعودية، ونتج عنها إلغاء مدخرات قرابة الأربعمائة ألف عائلة ويذهب الفكر الكلاسيكي الاقتصادي إلى ترك الدورات الاقتصادية لتطحن الناس، وأن ترفع الدولة يدها عن الاقتصاد، وتتدخل فقط في وضع القوانين الصارمة لحماية المصارف وأسواق المال. ولا زال هناك الكثيرون في الإدارة الأميركية ممن يؤمنون بمثل هذه النظرية. غير أن الحكومات الحديثة لا يمكنها أن تبقى مكتوفة الأيدي بينما يذوب الهرم الاقتصادي أمام أعينها. وذلك مما حدا بإدارة الرئيس بوش إلى التدخل وتقديم قرض لشركة التأمين الأميركية بمقدار 85 مليار دولار. ولعل معظم الأزمات الاقتصادية الكبرى ترتبط كذلك بموجات من الجفاف وتراجع في الإنتاج الغذائي، وزيادة في أسعار السلع. ومثل هذه التطورات حدثت في العام الماضي، كما ارتبطت أيضاً بزيادة أسعار الوقود، وهو ما جعل مدخلات الإنتاج الصناعي في البلدان الصناعية تتأثر سلباً بتلك الزيادة.

وإذن فالعوامل المختلفة التي ظهرت في الأزمات الاقتصادية نجدها اليوم ماثلة أمامنا، وبينما كانت الحكومات هي التي تتدخل لتخفيف الآثار الاقتصادية والاجتماعية لهذه الأزمات، باتت اليوم البنوك الأجنبية والحكومية تضخ سيولة هائلة في الاقتصاد الأميركي في فترة قصيرة، لتقليص احتمال تعرض مزيد من هذه المؤسسات المالية للانهيار.

وأخيراً فإن حروب الإدارة الأميركية الحالية، وإنفاقها الهائل على الدفاع وشراء الأسلحة، والذي زاد من 320 مليار دولار عام 2001، إلى 711 مليار دولار هذا العام، قد أرهقت الاقتصاد الأميركي، وقادت مصارفه وبنوكه إلى مثل هذا الانهيار.

وكل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:alittihad.ae