عولمة النمو وعولمة التضخم

 

ميشال مرقص

 

 

يسعى العالمُ، منذ الربع الأخير من القرن العشرين، وبعد الأزمة الاقتصادية في سبعيناته، إلى توسيع بساط العولمة وتيسير انسياب السلع والبضائع تحقيقاً للمنافسة، وتالياً تقديم سلعٍ تتميّزُ بجودتها العالية وأسعارها الرخيصة. وحقّقت العولمةُ أهدافها، في هذا المجال، فنعم العالمُ منذُ بداية الألفية الجديدة بالرخاء. التضخم لم يتجاوز معدلاتٍ مرتفعة، أعلاها 3.5 في المئة، وارتسمت معدلات النمو الحقيقية بين 5 و7 في المئة. «المصنع الكوني» ينتج، وتبادل السلع والخدمات في أعلى مستوى، ارتفعت قيمته من نحو7 تريليونات دولار إلى ما يزيد على 13 تريليوناً.

أطلق النمو محرّكات الإنتاج في بلدان بدأت تنهض من ثباتٍ اقتصادي أغرقها في الفقر عقوداً طويلة، فاستفاقت بلدانٌ مثل الصين والهند وأميركا اللاتينية وروسيا وأوروبا الشرقية وغيرها، على حركة ولوج مؤسساتٍ عابرة للقارّات إليها، هربت من أعباء النمو في موطنها الأم، ومن ارتفاع تكلفة عناصر الإنتاج ومنها الأجور وتراكم التقديمات الاجتماعية، فاستهدفت مناطق تقدّم يداً عاملةً بأجورٍ زهيدة، لا ترتبط أيضاً بأيّ غطاءٍ للأمن الاجتماعي، وقلّصت أعباء الضرائب والرسوم، فاستطاعت أن تواكب أهداف العولمة، الراغبة عبر اتفاقات منظمة التجارة العالمية، في تحقيق سلاسة التبادل وتعميم جودة السلع والبضائع. وانسابت المنتجات الرخيصة إلى أسواق البلدان المتقدّمة، منافسةً في السعر، وموفِّرَةً سلعاً بديلة من تلك المصنّعة محلياً بأسعار عالية وهذه العولمة في النمو تنافسها راهناً عولمةُ التضخم، ويمثّل أحد أكبر التحديات للعالم. فارتفاع الأسعار يطال «القرية الكونية» من دون استثناء، والبلدان المتقدّمة تتحمّل العبء الأكبر، لأنها تستورد التضخم من البلدان النامية، حيثُ معدلاته غير مسبوقة قياساً إلى ما عُرف منذ بدء الألفية ولغاية العام الماضي وبات التضخم، الذي رسمت معالمه مؤشرات الفصل الثاني من السنة الجارية، قلقَ العالم المتقدم. يتخطّى عبؤه قدرة المستهلكين على الإنفاق، ما يتسبّب بالركود، الذي لولاه لأمكن تجنّب التأثير السلبي للتضخم، بتصحيح الأجور. لكن اللجوء إلى التصحيح ينقل الاقتصاد إلى دائرة التضخم المتولّد من ذاته. وفي هذا النطاق، بات خفض التضخّم إلى مستوى مقبول، «أولوية أميركية» بحسب ما أبلغ رئيس مجلس الاحتياط الفيديرالي الأميركي، بن برنانكي الكونغرس، وحضّ بنك التنمية الآسيوي الشهر الماضي، صانعي السياسات على التخلي عن تركيزهم على النمو والبدء بمكافحة التضخم، كما حذّر رئيس البنك المركزي الأوروبي جان كلود تريشيه منطقة اليورو، من أخطار التضخم المالي على استقرار الأسعار، ومن بقائه عالياً على المدى المنظور.

وتواجه المؤسسات والشركات آثار التضخم بتقليص النفقات الداخلية، والخسارة في الأرباح، لقاء الحفاظ على مستوى التسويق والاستمرار في النشاط، تلافياً للإفلاس. وخفّضت شركات طيران، أو مؤسسات كبرى عدد العاملين لديها لحصر الأعباء، وزادت أجور السفر جوّاً لتعويض ارتفاع أسعار المحروقات، ولجأت منشآت بيع التجزئة إلى الحسومات. وتعاني شركاتٌ كثيرة في الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الاقتصادي وغيرها من البلدان المتقدمة، من خسائر. كما يؤثّرُ ارتفاع أسعار المحروقات في نشاطاتٍ إنتاجية مثل الزراعة وصيد الأسماك ووسائط النقل، بكل أنواعها البرية والبحرية والجوية. وإذا كان الكثير من الشركات في البلدان المتقدمة، تخطّى حاجز الانهيار، مع نمو إيجابي متدنٍ، فإنها لن تكون ذات مناعة كافية لتتجاوز معدلات نموٍ سلبية متوقعة خلال النصف الثاني من السنة ويبقى الصراع بين نظريتي دعم النمو أو وقف التضخم. فمعدلات التضخم تأكل من معدلات النمو الاسمي، لكنّ اقتصاديين يرون أن النمو يوفّر فرص عملٍ ويحقق دخولاً كافية للعاملين، يواجهون بها ارتفاع الأسعار. ويرى آخرون في الحدّ من زخم التضخم، مدخلاً إلى تصحيح الأوضاع، لكن ذلك يتطلّبُ أناةً لتحقيق الأمر. فالعودة إلى الوضع الطبيعي، تستغرق على الأقل مسافةً زمنية توازي التي استغرقتها الأزمة منذ بدايتها إلى الآن.

لا شكَّ في أن مرحلة النمو والازدهار التي عرفها العالم في بداية الألفية الثالثة، آخذة في الأفول، على الأقل لدى البلدان المتقدمة، ووطأتها أدنى لدى البلدان الناشئة، التي، وإن تراجعت معدلات النمو فيها، تبقى عالية. لكن هذه تتكبّد أيضاً أعباء تصحيح الأجور ونتائج خفض الدعم عن المحروقات والغذاء، التي قد تثير احتجاجاتٍ شعبية واضطراباتٍ وتزيد عدد الفقراء. وفي هذا النطاق يتخوف مسؤولون من زيادة الأجور التي تقود إلى زيادة الغلاء فيزداد التضخم وتنحصر الأمور في حلقة دائرية. ويرون أن الركود يجمّد التضخم، نتيجة انخفاض الطلب، ما يلجم الأسعار ويخدم منطق تصحيح الخلل.

وكل ذلك حسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً ودون تعليق.

المصدر :daralhayat