العالم بالمقلوب: بلدان الجنوب تُـموِّل بلدان الشمال !
في الوقت
الذي يتصاعد الجدل في البلدان الغنية حول جدوى الإعانات الدولية من أجل
التنمية، أثبتت دراسة سويسرية صدرت حديثا، أن الثروات ورؤوس الأموال
التي تصدّرها بلدان الجنوب إلى بلدان الشمال، تتجاوز بكثير قيمة تلك
الإعانات.
وتكشف
الدراسة، التي أنجزها برونو غورتنر، المسؤول عن ملف التمويل الدولي في
"التحالف من أجل الجنوب" في سويسرا، جُـملة الأسباب التي أعاقت الجهود
الدولية عن تحقيق الأهداف التي وضعتها الأمم المتحدة في مطلع الألفية
وتؤكّـد
الدراسة أن رؤوس الأموال المصدّرة من بلدان الجنوب إلى بلدان الشمال
سنة 2006 قد تجاوزت 658 مليار دولار، مقارنة بما ضخّـته بلدان الشمال
إلى بلدان الجنوب من منح وإعانات، وقد بلغت قيمة الرساميل التي صدّرتها
بلدان مثل الهند والصين وكوريا لوحدها نحو 125 مليار دولار.
ويقول صندوق
النقد الدولي، إن ميزان المبادلات المالية في بلدان الشمال يُـعاني من
عجز أمام تدفّـق رؤوس الأموال القادمة من بلدان الجنوب، وذلك بشكل
متواصل منذ عام 1999.
وتحلِّـل
الدراسة التي حملت عنوان "العالم بالمقلوب: بلدان الجنوب تُـموّل بلدان
الشمال"، الصادِرة أخيرا بالدليل السويسري لسياسات التنمية، واقع
الإعانات الدولية وأسباب قصورها عن تحقيق أهدافها، كما رصدت الطرق التي
تتم عبرها التحويلات المالية في عالمنا اليوم وخطورتها على مستقبل
التنمية في بلدان الجنوب.
الفشل في تحقيق أهداف الألفية
لبلوغ
الأهداف التي أقرّتها الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 2000، أوصى
مؤتمر مونترّي بزيادة المساعدات الدولية إلى0.7% من إجمالي الناتج
الداخلي بالدول الغنية بحلول 2015.
لكن القرار
بقِـي حِـبرا على ورق، لأن الدول الصناعية الغنية لم تخطُ خُـطوة في
هذا الاتجاه، والأسوأ من ذلك، يقول جوليان راينبار، السكرتير الدائم
"لإعلان برن" في حديث لسويس انفو أن "قسما هاما من المساعدات التي
تُـمنح من أجل تحقيق التنمية، أصبحت توجّـه إلى تسديد الدّيون الخارجية
وإلى المساعدات الطارئة والدعم اللوجستيكي، الذي لا علاقة له بالتنمية
المستدامة".
هذا الوضع
دفع ريتشارد مانينغ، رئيس لجنة المساعدة الإنمائية بمنظمة التعاون
والتنمية في الميدان الاقتصادي إلى التأكيد على أن "المساعدات الدولية
التي تُـمنح للبلدان الأشد فقرا، هي الآن أقل بكثير مما كانت عليه سنة
1990".
وتُـشدد
الدراسة الآنفة الذكر، على أن الوضع زاد تفاقُـما بعد أحداث سبتمبر
2001، إذ تحوّل الاهتمام الدولي إلى ضمان الأمن، وتراجَـع الاهتمام
بقضايا التنمية وتحوّل الجزء الأهم من المساعدات الدولية إلى "دعم
الحرب على الإرهاب، ومكافحة المخدرات ووضع البنيات الأساسية للمراقبة
والتثبت في حركة الأشخاص والأموال".
وفي محاولة
لاستيضاح الموقف السويسري من هذا الوضع، أشار يورغ فريدن، نائب مدير
الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون، والمسؤول عن رسم سياسات التنمية
بالوكالة في حديث لسويس انفو أن "الأمر الوحيد الذي يدخل في أرقام
المساعدات من أجل التنمية، الإعانات التي تُـقدَّم للاجئين المقيمين في
سويسرا، والتي تبلغ 500.000 فرنك، وهي نسبة ضئيلة، بالمقارنة مع حجم
المساعدات التي نقدمها".
وعندما سألت
سويس انفو السيد فريدن عن المبلغ الذي منحته الوكالة لدعم المهرجان
الدولي للأفلام بفريبورغ هذه السنة (350.000 فرنك سويسري)، وعلاقة ذلك
بتنمية البلدان الفقيرة، ردّ قائلا: "الإبداع الفني وتحديث هوية
الشعوب، عامل أساسي لإنجاح التنمية، ولهذا الغرض، تدعم الوكالة
المشروعات الفنية المبدعة، وكذلك من أجل تحسيس المواطنين السويسريين
للمشاركة بقوة في جهود التنمية".
وتذهب دراسة
أخرى بعنوان "التمويل الدولي وجهود التنمية"، صدرت سنة 2005 عن إحدى
المنظمات الغير حكومية إلى أبعد من ذلك، مؤكدة أن "هذه المساعدات تخدم
مصالح المانحين أكثر من المستفيدين وأنها عادة ما تكون مُـرفقة بشروط
مثل الخصخصة وتحرير السوق والحدّ من الإنفاق العام، وهي إجراءات عادة
ما يؤدّي تنفيذها إلى تدهور الوضع الداخلي في البلدان الفقيرة".
وحول هذه
المسألة أيضا، يبرّئ يورغ فريدن، المسؤول بالوكالة السويسرية للتنمية
والتعاون الساحة السويسرية ويردف قائلا: "بشكل رسمي، وعلى مستوى
العلاقات الثنائية، لا نضع شروط ذات طبيعة سياسية أو اقتصادية، وكل ما
نطالب به احترام حقوق الإنسان واعتماد نظام ديمقراطي".
الإعفاء من تسديد الدّيون
الدّيون هي
الأخرى تمثِّـل خطرا كبيرا على مستقبل عملية التنمية في الجنوب، وتكشف
الإحصاءات الصادرة عن البنك الدولي وصندوق التنمية بالأمم المتحدة أن
الدّيون الدولية سنة 2005، بلغت 511 مليار دولار، وسدّدت الدول
المقترضة في نفس السنة 393 مليار دولار لدُيون سابقة، منها 117 مليار
دولار مجرد فوائد.
ولمساعدة
الدول التي ترزح تحت وطأة هذه الدّيون، قامت العديد من البُـلدان
الغنية بإلغاء مستحقاتها، وبلغت قيمة الدّيون المُـلغاة ما بين سنة
1982 و2005، 310 مليار دولار، لكن ذلك لا يمثل سوى 7.8 % من مجموع
الدّيون العالمية البالغة 4000 مليار دولار.
وعِـوض أن
يساعد هذا الإجراء على تخفيف كاهل الميزانيات العامّـة في البلدان
النامية وتوفير موارد إضافية للتنمية، تؤكِّـد مراصد دولية على أن ذلك
لم يوقِـف النزيف المستمر لقُـدرات تلك البلدان، وأن جزءً كبيرا من تلك
القروض استقر بحسابات النّـخب الحاكمة والطبقة الأوليغارشية المحيطة
بها في المصارف الغربية، والجزء الآخر منها صرف على مشروعات غير ناجعة.
ولكي يكون
هذا الإجراء فعّـالا، يقترح جوليان راينبار من "إعلان برن": "إرفاق هذا
الإجراء بشروط تجعل الأموال المستفادة حِـكرا على الاستثمار في مجال
التنمية".
استنزاف
الموارد
كذلك، من
المفترض منطِـقيا، وبحسب كل النظريات الاقتصادية، أن يكون تدفّـق رؤوس
الأموال من البلدان الغنية إلى البلدان النامية، لكن ما يحدث على
الساحة الدولة هذه السنوات الأخيرة، هو العكس تماما.
ومن
المُـفارقات أن أكبر مورد لرؤوس الأموال الآن، هي الولايات المتحدة
التي تمتلك 70% من المدّخرات المالية العالمية، وأن كثيرا من الدول
الإفريقية والعربية توجَـد على رأس الدّول المصدّرة لرأس المال.
وبلغت قيمة
رؤوس الأموال الخاصة، التي غادرت بلدان الجنوب سنة 2005، 258 مليار
دولار، وبلغت المدخرات المالية العربية بالمصارف الغربية سنة 2006 ما
يعادل 220 مليار دولار.
ونَـقلا عن
تقرير "إفريقيا 2006"، الذي نشرته مجلة "جون أفريك"، "خلال الفترة
الممتدّة من 1970 و1996، تلقّـت إفريقيا إعانات دولية تعادل 30 مليار
دولار، في الوقت نفسه، عانت من استنزاف مالي قدره 187 مليار دولار،
وبلغ حجم رؤوس الأموال التي فرّت من إفريقيا فقط خلال التسعينات، 274
مليار دولار"، بحسب المصدر نفسه.
وطِـبقا
لريموند ويليام بيكر، أستاذ بجامعة هارفارد، ومختصّ في شؤون العالمين،
العربي والإسلامي، "30% من تلك الأموال، إما أنها من الاتّجار في
المخدرات والسلاح أو سرقات من المال العام، ونتيجة صفقات في الأسواق
السوداء"، وهذه الظاهرة تضر كثيرا بجهود التنمية في البلدان الفقيرة،
حيث تحرم خزائن تلك الدول 35 مليار دولار في السنة، نتيجة التهرب
الضريبي فقط، بحسب نفس المصدر.
إجراءات غير كافية
وإذا كان
مفهوما، لماذا تتساهل دول الجنوب مع هذه الظاهرة، فإن دول الشمال،
المستفيدة من هذا الاستنزاف، لا يبدو أنها تبذل جهودا كافية لمكافحته.
وعلى الرغم
من وجود نظام قانوني في سويسرا مثلا، يسمح للحكومات الأجنبية للمطالبة
باستعادة الأموال العامة المسروقة أو التي مصدرها عمليات فساد وتدليس،
فإن عملية البتّ في تلك القضايا تتطلّـب أدِلة وقرائن قد يصعُـب
توفيرها، مما يسمح للمفسدين بالإفلات من التتبّـعات القضائية.
ومن الأمثلة
الدالّـة في هذا المستوى، قضية الاختلاس المرفوعة منذ سنة 2000 بجنيف
ضد مسؤولين من أنغولا، متّـهمين بإيداع أموال في مصرف يو بي إس
السويسري، وأن تلك الأموال مختلِـسة من موارِد النفط، التي هي مُـلك
للشعب الكونغولي.
وعادت هذه
القضية إلى الواجهة هذا الأسبوع، بعدما قرّر دانيال زابّيلي، المدّعي
العام بجنيف حفظ الملف، نتيجة غياب أدلّـة كافية، في حين تؤكِّـد جمعية
"إعلان برن" (سويسرا) وجمعية "المرصد الدولي" (لندن - المملكة
المتحدة)، أن الأدلّـة على تورط شخصيات حكومية أنغولية في عملية
الاختلاس وغسيل الأموال، كافية لتجميد تلك الودائع.
وتجدر
الإشارة أن قيمة المبالغ المختلَـسة تبلغ 600 مليون دولار أمريكي، كانت
في الأصل موجّـهة لتسديد ديون روسية، فانتهت في حسابات خاصة في سويسرا.
لكن الحكومة
السويسرية تقول أيضا، إنها تبذل الوسع في مكافحة تهريب الأموال،
وتذكِّـر على لسان يورغ فريدن أنها "تقدم الدّعم القانوني اللاّزم لدول
الجنوب، وتنظم دورات تدريبية لصالح المؤسسات القضائية".
كما يذكّـر
المسؤول السويسري بالقرار الذي اتخذته المحكمة الفدرالية في شهر فبراير
2005، والقاضي بردّ الأموال التي هرّبها الدكتاتور ساني أباتشا إلى
نيجيريا، بعدما ثبت أنها أموال عامّـة مُـختلسة، لكن كم من حالات أخرى
لم تصلها يد القضاء ولم تصل صداها إلى المنظمات غير الحكومية؟
بحسب جوليان
راينبار من تحالف "إعلان برن"، الإعانات من أجل التنمية ستظل قاصِـرة
عن تحقيق أهدافها، ما لم تتحوّل توصِـيات مؤتمر مونترّي 2002 إلى
أفعال، خاصة التزام الدول الغنية بنسبة 0.7% من إجمالي الناتج الداخلي،
وتوجيه الإعانات بشكل حصري لقضايا التنمية الحقيقية، والأهم من ذلك،
وضع حد لعلاقات التبعية، التي تجعل الدول الغنية تأخذ باليُـمنى أضعافا
مضاعفة ما تقدّمه دعما باليُـسرى".
عبد الحفيظ العبدلي
وكل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا ودون
تعليق.
المصدر:swissinfo
|