كيف أسس تشرشل للعلاقة الخاصة مع أميركا؟

 

 

قبل ان يكون تشرشل رجلا سياسيا كان جنديا ومراسلا حربيا، «ابلى بلاء حسناً» في عدة حملات عسكرية ابتداءً من خدماته على الجبهة الشمالية الغربية والسودان خلال التسعينات من القرن الماضي وحتى حقول جنوب افريقيا خلال حرب البوير الجبهة الغربية عام 1916.

كما وكان القائد السياسي لجميع الوزارات العسكرية الثلاث: اولاً اميراً للبحرية لفترتين من 1911 وحتى 1915، ثم من 1939 وحتى 1940، وثانياً وزيراً للحربية والقوات الجوية من 1919 وحتى 1921، وثالثا توليه منصب وزير الدفاع وفي نفس الوقت رئيساً للوزراء خلال الحرب العالمية الثانية (1940-1945).

عام 1944 كتب طبيبه الخاص اللورد موران يقول بأن الحرب بالنسبة لتشرشل كانت تعني «فعلاً رومانتيكياً»، وانه «منذ اللحظة المروعة، حينما هرب من البويريين في حرب البوير وحتى سنوات 1940-1941 فان اكبر الاثارات التي كان باستطاعته ان يستذكرها كانت جميعها ترتبط بمسألة الحرب». وكوزير للتجهيزات العسكرية من عام 1917-191«كان على تشرشل ان يدرك كم ان التعبئة الفعالة للمواطنين والموارد الوطنية هي من الأهمية الحاسمة في مرحلة التصعيد لحرب شاملة». وفي الحقيقة، ان الربط بين الممارسة العسكرية، المعرفة الادارية والخبرة السياسية قد هيأت تشرشل جيداً للقيادة في الحرب العالمية الثانية التي تعتبر ذروة ما قدمه خلالها من خدمات عسكرية وسياسية.

«رومانتيكية» تشرشل مع الحرب بدأت تقليديا من خلال ولادته ونشأته وسط عائلة من دوقات مالبورو لأب صاعد سياسيا وأم تنتمي لأب اميركي مليونير، الأمر الذي جعل تشرشل في موقع متقدم.

الصورة التي يرسمها المؤلف جفري بست هي صورة شاب ولد عام 1874 خلال شروق شمس الامبراطورية البريطانية، مكرساً اهتمامه بلعب دمى الجنود وحالماً بمستقبل عسكري. وهي بالتأكيد صورة تتكرر في العديد من دور الطبقة الوسطى والراقية في المجتمع الفكتوري. ان ما كان يميز تشرشل هو في الواقع قابليته في تحقيق احلامه واستثمارها. فمن البداية المبكرة جداً، حينما كان يراقب عمليات التمرد الاسباني المضادة في كوبا عام 1895 أبدى موهبة غير اعتيادية لنيل الشهرة الشعبية، وذلك من خلال الكتابة عن تجاربه الشخصية وكسب مبالغ لا بأس بها من المال جراء ذالك.

الكتب الأولى التى نشرت لتشرشل، خاصة كتاب «حرب النهر» الذي يعتبر من افضل الكتب التي تحدثت عن حملة السودان عام 1898حتى الآن، جلبت له شهرة عالمية واسعة وساعدت على ترشيحه للبرلمان عام 1955. لقد اسس تشرشل لكتاباته ومنذ البداية الطابع المذكراتي - التاريخي، كذلك اتخاذ نفسه مثالا من خلال سرده الروايات المقنعة والبليغة عن الحربين العالميتين.

ان تأثير روايات تشرشل التاريخية الخاصة التي في معظمها تدور عن الحرب العالمية الثانية تسود اغلب صفحات الكتابين. فمارتين جلبرت، في كتابه «تشرشل واميركا»، يوظف علاقة تشرشل مع الولايات المتحدة الاميركية على اساس رومانتيكي شبيه بمعالجة كتاب بست عن موضوع الحرب. كتاب مارتين يخبرنا عن «قصة حب تشرشل الحقيقي» للولايات المتحدة الاميركية، وهي «قصة حب» كان تشرشل قد عززها بداية بزيارته الى نيويورك عام 1895، ثم تعاقبت زياراته حتى زيارته الأخيرة عام 1961.

بعد ذلك اخذ تشـــرشل يفصـــح عن نسبه المحتد، حتى انه زعم في عمر متأخر (رغم عدم وجود أدلة يقينية) بأن من ضمن أسلافه القدامى كانت امرأة هندية وكان تشرشل، في الفترات التي تقع ما بين الحروب، يتمتع بحياة مترفة ومكلفة، فاتجه لجمع مقادير كبيرة من المال من خلال رحلاته الاميركية لالقاء المحاضرات ومن عمله الصحافي. ففي عام 1929 دفع اليه مبلغ (65) الف باوند استرليني (حسب قيمة الباوند اليوم) لقاء إلقاء محاضرة واحدة فقط في نيويورك وحوالي (80) الف باوند لكل مقال من المقالات الاثنين والعشرين لحساب إحدى المجلات. ويخبرنا الكاتب مارتين جلبرت ايضا عن تصميم تشرشل في منتصف الثلاثينات «للحفاظ على السلام الشامل في اوروبا»، ويشير المؤلف إلى ان تشرشل حينما كان يذهب إلى الولايات المتحدة الاميركية كان يلمَع ويصقل كل عبارة من عباراته حول الرباط الدموي الخالد للشعوب المتحدثة بالانجليزية.

ورغم دمه الاميركي «المراوغ» فإن التراث الاطلنطي العام الذي كان تشرشل يدافع عنه هو في جملته يتألف من البيض والانجلو - سكسوني. «إنه» - اي هذا التراث - «هو نتاج لساننا المشترك وقانوننا الاساسي المشترك ومفصل تراثنا الادبي ومثلنا، انه رباط نسبنا الاحمر» هذا ما اخبر به تشرشل مستمعيه في اطلنطا، التابعة لولاية جورجيا عام 1932.

ليس كل الاميركيين بالطبع مقتنعين بمبالغات تشرشل عن العلاقة الانجلو - اميركية. فصحيفة «الواشنطن بوست» تعتقد بأن تشرشل كان «يحاول ان يتملق الولايات المتحدة الاميركية حتى تتولى بعض مسؤوليات بريطانيا» وفي الحقيقة كان ذلك بالضبط ما فعله تشرشل، وبشكل خاص خلال الحرب العالمية الثانية.

بعد سقوط فرنسا عام 1940 اخذ تشرشل يتوسل روزفلت، في رسالة تلغرافية في الرابع من مايو (أيار) 1941 لإعلان الحرب. لكن الرئيس الاميركي لم يرد على هذه «الاستغاثة المنكدة» وبعد لقائه الأول، في يوليو (تموز) 1945، بخليفة روزفلت، قال عنه هذا الأخير، الذي يبدو أنه استوعب شخصية تشرشل: «تكلم بكثير من الهراء حول عظمة بلدي وكم يحب روزفلت وكم سيحبني...إلخ...إلخ...».

لقد شعر ترومان بأنه يمكن ان يستمر مع «هذا الرجل الانجليزي» ما دام «لا يحاول ان يتملقني كثيراً» لكن عند هذه المرحلة، ربما كان التملق هو كل ما يستطيع ان يقدمه تشرشل كانت جهود بريطانيا الاستثنائية خلال الحرب قد تركت البلاد في حالة استنزاف وفقر.

إن حقيقة «العلاقة الخاصة» التي أُسست خلال الحرب العالمية الثانية، التي عمل تشرشل كثيرا على توطيدها، قد ساهمت في تثبيت دعائم سلطة بريطانيا في النصف الثاني من القرن العشرين.

وكل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:alitihad-22-12-2007