حديث في الدبلوماسية

 

 

للكتابة عن الدبلوماسية من الضروري في نظري ان ندخل من الباب، أي أن نعرِّف الدبلوماسية: ماهى الدبلوماسية؟ وذلك في نظري هو المدخل الطبيعي للولوج الى هذا المنعطف.

عندما التحقت بوزارة الخارجية في العام 1970 وانا اتخطى البوابة التي كانت تفتح على شاطئ النيل الازرق فيما سمى بعد ذلك بالاسكان كان يلح علىَّ نفس هذا السؤال. ماهى الدبلوماسية؟

ولم اجد من يحدثني متطوعاً او يجيب على السؤال الذي كنت اكتمه في دواخلي، ثم تهيأت الظروف واعتدل المناخ وتلقيت الاجابة من احدهم وكأنه قد اخرجها من جيبه حين قال لي ( الدبلوماسية هى فن إدارة العلاقات الدولية ).

سبحان الله! وما هى العلاقات الدولية؟ وماهو ذلك الفن؟ علماً بأن الاخ الكريم قد اكتفى بما قذف به في مسمعي عن الكلام المباح وشعرت حينها بأن ما قاله الرجل ليس إلا واحدة من المحفوظات عند الدبلوماسيين بالوزارة وبالطبع لم يكن الرد مقنعاً.

وفي صدفة نادرة في ذلك الوقت عثرت في القاموس الانجليزي عن تعريف للدبلوماسية يقول: Diplomacy is the skill of con ducting International Relations.

يا الله: هى نفس الترجمة لما قاله لي ذلك الاخ اي انها فن إدارة العلاقات الدولية، وتأملت كثيراً في العبارتين اللتين تحملان نفس المعنى وايقنت بأن العبارة العربية المعتمدة من ذلك الاخ ماهى إلا ترجمة حرفية للعبارة الانجليزية المتوفرة في القاموس، ولكن هل نعتمد على تعريف القاموس الذي يغلب عليه الطابع اللغوي؟

اي ان القاموس يأخذ التعريف من منظور لغوى وليس من منظور عملي أو تطبيقي، سمعت فيما بعد من قال بأن الدبلوماسية هى ( فن الممكن ) وارتد الىَّ المعنى خاسئاً، إذ ان كل شئ في هذه الدنيا هو فن الممكن فالتجارة هى فن الممكن والسياسة هى فن الممكن والعلاقاتالعامة هى فن الممكن وليس هناك إلا مخبول من يريد ان يحقق غاياته بغير ماهو ممكن. ذلك اذا استثنينا بالطبع القوة الغاشمة التي تفرض ارادتها بالحديد والنار، وعليه فقد كان التعريف بذلك المعنى فضفاضاً يشمل كل شئ بما في ذلك الدبلوماسية وقد كنت ابحث عن تعريف ينطبق مقاساً على معنى الدبلوماسية.

لعل ما اثار اهتمامى بصفة خاصة تعريف رزين يقول بأن الدبلوماسية هى فن التفاوض وقد وجدت تلك العبارة مكانها المقيم داخل نفسي خاصة وكنت قد شاهدت الممثلين الدبلوماسيين لا شغل لهم إلاالتفاوض سواء من خلال المقابلات اليومية التي يجرونها هنا وهناك او المؤتمرات الثنائية او المتعددة الاطراف والتفاوض الذي صار علماً يدرس في مراكز التدريس الدبلوماسي ليس قاصراً على الكوادر الدبلوماسية في وزارات الخارجية وإنما هو اشمل عند قطاعات عديدة في المجتمع كرجال الاعمال الذي ييدرون اعمالاً في التجارة أو الصناعة او الخدمات خاصة على المستوى الدولي او الاقليمي او رؤساء الشركات أو الهيئات او المؤسسات العاملة في نفس المجالات او السياسيين عموماً خاصة رؤساء الدول او الوزراء وعلى وجه الخصوص وزير الخارجية ولعلي استطرد هنا واقول بأني قد شاهدت مفاوضاً بارعاً لم اشاهد مثله براعة في فن التفاوض وهو رجل الاعمال الشهير محمود صالح عثمان صالح وكانت تلك الجلسة التفاوضية في نيجيريا اشبه بحفلة موسيقية يقودها مايسترو مبدع. والتفاوض غير كونه علماً فهو صنعة تصقلها الخبرة وتراكم التجربة، ذلك بالطبع غير الموهبة في امتلاك ناصية البيان والحديث واللغة.

لعلي اشيرالى فرصة نادرة اعطتني تعريفاً متكاملاً للدبلوماسية وهو ما سمعته في تلك الفرصة من بابا روما السابق جون بول السادس اي يوحنا بولس السادس حيث جمعتنا معه ظروف العمل الدبلوماسي وكنا لفيف من الدبلولوماسيين من مختلف بقاع العالم.

قال البابا يوحنا وهو يعرف الدبلوماسية وكان يتحدث بالانجليزية: Diplomacy is partenrship and dialogue وتعني العبارة بالمعنى الحرفي ان الدبلوماسية هى المشاركة والحوار واسميها انا بالمعنى العام هى الصداقة والحوار اى والتفاوض، ونكون قد قطعنا مع البابا نصف الطريق نحو تعريف الدبلوماسية ( التفاوض ) اما ما جاءنا به جديداً البابا هو ما سماه بعبارة المشاركة او الصداقة ويكون البابا بذلك قد اصاب كبد الحقيقة فالتفاوض قلما يكلل بالنجاح المبتغى في ظل التباغض والتنافر والخصام إذ ان الارضية التي يقوم عليها التفاوض هى الثقة تكون منعدمة تماماً والدبلوماسي الناجح هو الذي يمهد للتفاوض بتأمين الصداقات وتحسين العلاقات وهكذا نرى ان تحسين العلاقات مع دول الجوار هو ركن اساسي من اركان السياسة الخارجية في السودان كذلك نرى الدبلوماسيين يسعون ليلهم ونهارهم في عقد الصداقات ويبتدعون في ذلك اساليب شتى من دعوات وحفلات ومآدب هى موضع تندر من الآخرين الذين لا يرونها من منظورها المستهدف وعليه اذا ما دارت الدوائر وجاءالناس الى طاولة التفاوض كان الطريق ممهداً ليناً رطباً بحفليات الصداقة وحسن العلاقة التي وضع اساسها الطرفان ولنا اسوة في المثل السوداني العام الذي يقول (البريدك يبلع ليك الزلط والبكرهك يكوس ليك الغلط).

وكذلك جاء في الشعر العربي:

عين الرضا عن كل عيب كليلة

وعين السخط تدبي المساويء

اخيراً اود ان اقول بأني لم اسعد برؤية تعريف للدبلوماسية من قدامى الدبلوماسيين السودانيين ومن واقع تجربتهم الثرة في العمل الدبلوماسي خاصة وهم من اسسوا للعمل الدبلوماسي في السودان وبالطبع ذلك لا يعفيني انا من هذا الواجب حيث خضت تجربة العمل الدبلوماسي لمدة اثنين وعشرين عاماً فأنا اتفق تماماً مع البابا في ان الدبلوماسية هى فن الحوار والصداقة ولكني اضيف اليها ثالثاً وهو فن التمثيل Repre sentation وعليه فيمكن ان اقول بأن الدبلوماسية هى: ( فن التمثيل والصداقة والحوار).

ويجئ التمثيل دائماً في اول المهام الاربعة التي يضطلع بها السفير وهى بجانب التمثيل التفاوض (الحوار) والمعلومات (التقارير) ورعاية الجالية، والتمثيل في نظري هو أعسر المهام الاربع لأنه يعتمد في جزء كبير منه على مواهب طبيعية (ربانية) لا دخل للاجتهاد فيها فإن حباك الله بهذه المواهب، لا عذر لك وانت سفير في ان يكون تمثيلك قاصراً وان افتقدت هذه المواهب فعليك بمزيد من الاجتهاد ولكل مجتهد نصيب. ولعل اول هذه المواهب التي نتحدث عنها هى تكوينك الخلقي الذي يضفي عليك مزيداً من الهيبة الضرورية والشخصية اللازمة ويفتح لك كثيراً من المغالق.

* سفير متقاعد واستاذ متعاون بمركز الدراسات الدبلوماسية - جامعة الخرطوم

www.alsahafa.info