دراسة
تثبت أن الأتراك يعصون على الاندماج ... المهاجرون في ألمانيا يواجهون
خلافات الأحزاب حول سياسة الاستيعاب
اسكندر
الديك
الدراسة التي أعدها «معهد
برلين للسكان والنمو» أخيراً عن مدى اندماج الجاليات الأجنبية، خصوصاً
التركية، في المجتمع الألماني، خلصت إلى «وجود ثغرات كبيرة» في مسألة
الاندماج بصورة عامة، و«فشل ذريع في اندماج الأتراك» بصورة خاصة على
رغم كونهم «من أقدم الفئات المهاجرة» وثاني أكبر مجموعة أجنبية قدّرت
في آخر إحصاء بـ2.8 مليون شخص وقسَّم واضعو
الدراسة «المهاجرين» إلى أربع مجموعات: الأوروبيون الشرقيون من أصل
ألماني الذين هجروا ألمانيا قبل قرون عدة لأسباب مختلفة واستوطنوا
روسيا وغيرها، ويبلغ عدد العائدين منهم إلى ألمانيا حالياً أربعة
ملايين نسمة والمهاجرون من جنوب أوروبا مثل
إيطاليا واليونان ودول البلقان، والأتراك بمن فيهم أكراد تركيا
وعلويوها الذين يقدرون بنحو 800 ألف نسمة، وأخيراً القادمون من أفريقيا
والشرقين الأوسط والأقصى. واعتمد واضعو الدراسة عشرين معياراً لقياس
مدى تحقق الاندماج في المجتمع الألماني مثل اكتساب الجنسية الألمانية،
والزواج من ألمان، ومستوى التعليم، والبطالة، ومعدل ربات البيوت
والنساء العاملات، ونسبة العمال والموظفين من أصول أجنبية في المؤسسات
العامة وللمرة الأولى تُجرى مقارنة بين
المجموعات المهاجرة اعتمدت النتائج التي ظهرت عام 2005 بعد استطلاع
آراء 800 ألف أجنبي، وأظهرت أن لـ 20 في المئة من السكان في ألمانيا
جذوراً أجنبية، أي ما يقدَّر بـ 15 مليون نسمة من أصل 82 مليوناً.
وتبيَّن أيضاً أن لكل ثالث طفل تحت سن السادسة في ألمانيا حالياً أصول
أجنبية وأظهرت الدراسة أن المهاجرين من أصل
ألماني «هم الأفضل اندماجاً» يليهم المهاجرون من جنوب أوروبا ثم من
الشرقين الأقصى والأوسط وأفريقيا، فيما احتل الأتراك المرتبة الأخيرة.
والواقع أن مجرد المقاربة بين الفئتين الأولى والثانية من جهة، وبين
الفئات الأخرى من جهة أخرى أمر غير معقول أو مقبول لأن أوجه الشبه بين
الألمان وبقية الأوروبيين كثيرة ويحصل
المهاجرون من أصل ألماني على الجنسية فور تقديمهم أوراقاً ثبوتية أو
وصولهم إلى ألمانيا حيث يلقون على الفور الرعاية والمساندة من مؤسسات
حكومية ومدنية وكنسية. ويتمتع الأوروبيون الآخرون كالإيطاليين
واليونانيين والإسبان واليوغوسلافيين بتسهيلات غير قليلة كما يحصلون
على الجنسية بصورة أسرع إن رغبوا فيها. والكثيرون منهم لا يشعرون
باضطرارهم إلى ذلك باستثناء الفترات التي كانت فيها اليونان وإسبانيا
تحت الحكم العسكري الديكتاتوري، ويوغوسلافيا تحت الحكم الشيوعي، فمن
يعلم مثلاً أن وزير الخارجية السابق يوشكا فيشر هو ابن عائلة رومانية
من أصل ألماني عاد معها وهو صغير إلى بلد أجداده؟ وما يهم أن يعلم
المرء ذلك بالمقارنة مثلاً مع وصول تركي أو عربي أو أفريقي أو آسيوي
الأصل إلى منصب رفيع في ألمانيا كما بدأ يحصل في السنوات الأخيرة؟
وإذا كان كثير من
«النتائج السلبية» المعلنة في الدراسة صحيح، فان «الأسباب» التي أوصلت
إليها مغيَّبة عن الدراسة. وأولى الملاحظات التي يمكن سوقها هنا أن
تعبير «هجرة» و «مهاجرون» المستخدم فيها لا ينطبق أبداً على تاريخ حقل
الموضوع المعالج وواقعه، لأنه يفترض أن ألمانيا كانت بلد هجرة، إلا أن
هذا غير صحيح على الإطلاق. فالطبقة السياسية المسيحية التي سيطرت على
البلد في غالب الأحيان منذ عهد المستشار المسيحي الأول كونراد أديناور
وحتى عهد المستشار المسيحي هلموت كول الذي حكم 16 سنة كاملة حتى عام
1998، بقيت تصرّ على أن ألمانيا ليست بلد هجرة وأن المقيمين غير
الألمان أجانب سيتحتم عليهم العودة إلى بلدانهم الأصلية عاجلاً أم
آجلاً. من هنا لم تلجأ الحكومات المسيحية أو المسيحية - الليبرالية أو
المسيحية - الاشتراكية أو الاشتراكية - الليبرالية بقيادة فيلي براندت
وهلموت شميدت إلى أقامة هيئات ومؤسسات وبرامج تشجَّع على الاندماج أو
تسهِّله، مثل دورات تعليم اللغة وتاريخ البلد والتعريف بدستوره
ومؤسساته كما يحصل في دول الهجرة المعروفة.أكثر من ذلك، كانت كلمة
اندماج تنغِّص حياة المسؤولين الذين تشبثوا حتى آخر لحظة بقانون التجنس
القديم الذي يشترط «العرق والدم» للسماح بالتجنس قبل أن يطوى بضغط من
القوى المعارضة ثم يعتمد لاحقاً قانون عصري مع خفض شرط الإقامة من 16
سنة إلى 7 من ضمن شروط أخرى، ما فتح الباب فجأة أمام ملايين الأجانب
المقيمين للتجنس. ولم يحصل هذا التغيير إلا بعد وصول الاشتراكيين
والخضر إلى الحكم عام 1998 بقيادة المستشار غيرهارد شرودر وتمكنهم من
حشد أكثرية مريحة بعد استقطاب قسم كبير من الليبراليين، لكنهم خسروا
بعد ذلك بقوة معركة سن قانون الجنسية المزدوجة، وفقدوا الحكم في ولاية
هسّّن بسبب الحملة العشواء التي شنها المسيحيون. وقانون للهجرة الذي
أقر عام 2003 لم يطبق الى الآن لأسباب مختلفة، بينها معارضة المسيحيين
وتكبيله بشروط عدة. ولجأت الحكومة الاشتراكية - الخضراء إلى حملة تجنيس
واسعة في البلاد حصل مئات الآلاف من الأجانب على إثرها على الجنسية
الألمانية، لكن خيبة الأمل من الأتراك والمسلمين عموماً كانت كبيرة
لأنهم لم يقدموا على هذه الخطوة بالحجم المتوقع
وعندما وصلت المستشارة المسيحية أنغيلا مركل إلى الحكم عام 2005
وعقدت ائتلافاً حكومياً مع الحزب الاشتراكي الديموقراطي فاضطرت بموجبه
الى الموافقة على برنامج حكومي مشترك تضمَّن معظم ما أقرَّ في مجال
الهجرة والاندماج. وأبرز التطورات مع المسيحيين مذ ذاك أنهم «اكتشفوا»
فجأة وجود هجرة وعملية اندماج واسعة في البلاد «لم يعد في الإمكان
تجاهلها أو وقفها»، فخرجوا بمطلب اعتبروه أساس نجاح أي اندماج، وهو فرض
تعلم اللغة الألمانية إلى حد أنهم اختصروا كل عملية الاندماج في
المجتمع باللغة على رغم أهميتها الكبيرة ولا شك، إنما من دون النظر إلى
الأطر الاجتماعية والنفسية والتعليمية والسياسية والدينية التي على
الدولة واجب تأمينها لـ «المهاجرين» وتجدر
الإشارة هنا إلى أن قسماً كبيراً من «المهاجرين» بمن فيهم الأتراك
يتحدثون الألمانية جيداً، ومع ذلك لم يندمجوا في المجتمع بحسب الدراسة،
الأمر الذي يشبه إلى حد كبير وضع المهاجرين المتجنسين في فرنسا الذين
يتحدثون الفرنسية بطلاقة، لكن قسماً كبيراً منهم خارج المجتمع الفرنسي.
بكلمة أخرى فان تحول
ألمانيا إلى بلد هجرة لم يصبح رسمياً ألا قبل سنوات قليلة، علماً أن
التصورات حول الواجبات والحقوق غير موحدة، وتبقى مرهونة بالواقع
السياسي المعرَّض للتغيّر في الانتخابات النيابية التي ستجرى في خريف
العام الحالي. ويعتقد غير مراقب أن في حال وصول المسيحيين والليبراليين
إلى الحكم سيحصل تراجع عملي في هذا المجال، إلا إذا تمكَّن الحزب
الليبرالي الصغير من مواجهة حليفه الكبير. صحيح أن المستشارة مركل كانت
المبادرة قبل ثلاث سنوات إلى عقد «قمة الاندماج» مرة كل سنة ولحقها
وزير داخليتها المسيحي أيضاً فولفغانغ شويبله بمبادرة «مؤتمر الإسلام»
السنوية أيضاً بهدف الاتفاق على اتحاد عام أو مجلس يتحدث باسم جميع
المسلمين. ونتج من القمة والمؤتمر إقرار برنامجي عمل موسعين لتحسين
شروط إندماج الأجانب عموماً، والمسلمين منهم خصوصاً، بعد التداعيات
التي أعقبت اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية وما تبعها من
تطورات وضعت المسلمين موضع اتهام. ومع ذلك فان أطرافاً عدة مشاركة في
المؤتمر وفي القمة غير راضية عن الطريقة الشكلية والسطحية المتبعة
لمعالجة المسألتين، على رغم الإقرار بأن المبادرتين بحد ذاتهما انعكسا
إيجاباً على تسويق الاندماج وفضلاً عن نواقص
الدراسة في موضوعي الهجرة والاندماج لا بد من ملاحظة النواقص الموجودة
لدى المجموعات الأجنبية الرافضة مبدأ الاندماج من منطلقات متزمتة.
وينطبق هذا الأمر أكثر ما ينطبق على المسلمين عموماً، والأتراك خصوصاً،
لأسباب أهمها الشعور القومي والمجال الديني المتشدد.
صحيح أن العمال الأتراك
الذين استقدمهم الألمان ابتداء من أواخر الستينات شكلوا نوعاً من
الغيتويات أينما حلوا، لكن التعبير السياسي الرسمي الذي أطلق عليهم منذ
البداية كان «غاست أربايتر» (عمال ضيوف). وغالبية هؤلاء الساحقة لم تكن
متعلمة أو مدربة مهنياً ولا تتحدث الألمانية، وتفضل بالطبع العيش بصورة
مشتركة، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على عمال من دول أخرى استقدموا إلى
المانيا ولم تبدأ المشكلة إلا عندما قررت
أعداد متزايدة من العمال البقاء في ألمانيا أطول فترة ممكنة لكسب عيشهم
مع رفض التجنس والاندماج الذي كان يمثل في رأيهم الذوبان في المجتمع
الألماني. بل أن غالبية الجيل الأول كانت على اقتناع بالعودة إلى تركيا
في سن التقاعد على أبعد تقدير، لكن نظرة الكثيرين منهم بدأت تتغير
عندما سمح لهم لأسباب إنسانية باستقدام زوجاتهم وأفراد عائلاتهم، فأصبح
عامل الاستقرار والحياة الرغيدة مقارنة بتركيا أمراً أساسياً لهم. ولم
يطلب أحد منهم رسمياً تعلم اللغة الألمانية، ولم يبحث أحد مسألة
اندماجهم، وبالتالي فضلوا إرسال أطفالهم إلى تركيا للتعلم، خصوصاً
البنات لتزويجهن هناك ومع فرار الإسلاميين
المتشددين من تركيا، بسبب الملاحقات التي تعرضوا لها، أخذ تأثيرهم في
جماعتهم في ألمانيا يزداد دينياً وسياسياً. ورفع هؤلاء ولا يزالون لواء
«عدم اعتراف المسلم بسلطة المسيحي» ويواصلون التحذير من الاندماج
ويشددون على القومية التركية مع السعي إلى تحرير بلدهم من النظام
العلماني. ووقع رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان الإسلامي المعتدل
في المطب القومي المتشدد خلال الجولة التي قام بها قبل سنة ونصف السنة
على الجالية التركية في ألمانيا، حين طالب أفرادها علناً برفض التجنس
والحفاظ على قوميتهم وعدم الاندماج في مقابل
ذلك أظهر الأكراد والعلويون الأتراك انفتاحاً وتقبلاً للحياة الألمانية
واستعداداً للاندماج، ولم تؤثر فيهم حملات المتشددين القوميين
والدينيين، فأقبل عدد كبير منهم على الحصول على الجنسية الألمانية،
خصوصاً الأكراد الذين يعانون من التمييز العرقي والقومي في تركيا. وقسم
كبير من هذه الفئة ينشط منذ سنوات سياسياً واجتماعياً وينتسب إلى
الأحزاب الألمانية.
في هذه الأجواء نشأ الجيل
الثاني من الأتراك في ألمانيا وفي وعيه عدم ترحيب بحصوله على الجنسية
الألمانية سواء من الحكومات الألمانية المتتابعة أو من جانب جماعته
وأهله، ما وضعه خارج أطر التطور الاجتماعي والتربوي والسياسي في
البلاد. وليس صدفة أن تُظهر الدراسة أن 30 في المئة من الأتراك في
ألمانيا، أي الثلث تقريباً، لا يملكون شهادة مدرسية (للمقارنة 3 في
المئة فقط من المهاجرين من أصل ألماني لا يملكونها) فيما حصل 14 في
المئة منهم فقط على الشهادة الثانوية، وهي نسبة متدنية جداً، أما عددهم
في الجامعات الألمانية فقليل جداً. ومع ذلك تمكن عدد غير قليل من أبناء
الجيل الثاني من خرق «المحرمات» والعراقيل واندمج في المجتمع الألماني،
حيث نجد منتسبين إلى مختلف الأحزاب، خصوصاً اليسارية، وبعضهم انتخب في
البرلمان الاتحادي وفي مجالس الولايات كما في النقابات العمالية. ونجد
منهم كتاباً وكاتبات باللغة الألمانية، وممثلين في المسرح والسينما
والتلفزيون ومقدمي برامج ورجال أعمال ناجحين. وقد يكون الوجه الأبرز
حالياً النائب تشيم أوزدمير الذي انتخب قبل أسابيع رئيساً لحزب الخضر،
وفاتح يكين أحد أفضل المخرجين الألمان حالياً، وهما من الجيل الثاني
ومن نواقص الدراسة أيضاً أنها لم تشر بصورة مميزة إلى الجيل
الثالث الذي يعيش اليوم هوية أهله التركية من خلال الهوية الألمانية
الجديدة التي يكتسبها، حيث أن الجزء الأكبر منه لم يعد يتكلم التركية
بطلاقة على عكس الألمانية، كما لم يعد يعرف تركيا إلا في العطلات
الصيفية، هذا إذا سافر. ومن خلال اندماجه في النظام التعليمي
والاجتماعي والسياسي منذ الصغر أصبح لهذا الجيل اهتمامات وطموحات لا
يرى إمكانية لتحقيقها إلا في ألمانيا أو في الدول الغربية عموماً وليس
في تركيا بالضرورة. وهذا تطور طبيعي لم تلحظه الدراسة ولم تقوِّمه في
استنتاجاتها على رغم أنه باد للعيان بصورة واضحة ان قسماً من هذا الجيل
لا يزال مكبلاً بهوية أهله وجماعته وما
أثبتته التجربة في أكثر من بلد أن الاندماج الفعلي لا يبدأ مع الجيل
الأول ولا حتى بالضرورة مع الجيل الثاني، وان توافرت الشروط الموضوعية
والذاتية لذلك. وفي الإمكان الحديث عموماً عن اندماج موضوعي وذاتي
ناجح ابتداء من الجيل الثالث مع شرائح من الجيل الثاني. وهذا ما يحصل
اليوم لدى الأتراك في ألمانيا على رغم كل الموانع والتناقضات الحاصلة
في ما بينهم والاستنتاجات الخاصة بتطور وضعهم.
ورداً على الدراسة
المدوّية حذر مركز إسّن للدراسات التركية «من خفة المقارنات بين
الأرقام من دون الالتفات إلى الأسباب الواقعية لوضع الأتراك المتدني»،
ما يؤدي إلى استنتاجات خاطئة وغير دقيقة على حد تعبير المتحدث باسمه
ديرك هالم. وأخذ رئيس الجماعة التركية في ألمانيا كينان كولات على
واضعي الدراسة «تجاهلهم الوضع الاجتماعي والتعليمي للمهاجرين الأتراك»،
قائلاً إن الاستقطاب «طاول الفئات التركية الدنيا حيث لا تختلف مشاكلهم
كثيراً عن مشاكل الفئات الألمانية الدنيا، مع فارق أن الأخيرة لا تشكل
أكثر من 13 في المئة من مجموع الألمان» ودلت
الدراسة أيضاً الى أن القادمين من دول الشرق الأوسط، وبينهم العرب
والأمازيغيون الذين يشكلون نحو 400 ألف نسمة، في وضع اندماجي متفاوت،
إنما «غير مرض» عموماً، علماً أنهم من أكثر الأجانب تعلماً كما جاء في
الدراسة، لكن نسبة البطالة بينهم عالية. والوجه الأبرز بينهم حالياً هو
طارق الوزير اليمني الأصل رئيس الكتلة النيابية لحزب الخضر في ولاية
هسّن، ودنيا هلالي العراقية الأصل المذيعة التلفزيونية في القناة
الثانية العامة «زد دي أف».
وكل ذلك حسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً ودون
تعليق .
المصدر: daralhayat.com
|