كسل الغدة الدرقية والاكتئاب النفسي

 

د. أكمل عبد الحكيم 

 

 

أدرك الأطباء منذ عقود مدى قوة العلاقة التي تربط بين العقل وبين الجسد على صعيد الصحة والمرض، وهي العلاقة التي أصبحت تمثل في مجموعة من الأمراض تعرف بالأمراض النفسجسمانية (Psychosomatic Diseases) وتتصف هذه الطائفة في مفهومها التقليدي، بأن الأعراض التي تترافق مع المرض، هي في الحقيقة نتيجة اختلال في العمليات العقلية، وليست نتيجة اختلال وظيفي أو تشريحي في الجسم. أي أن الجسم لا يعاني في الواقع من اضطراب أو اختلال، وما يشكو منه المريض هو نتاج اضطراب أو اختلال في العقل ذاته. وهذا لا يعني ببساطة أن المريض (مجنون)، وإنما يعني أنه ربما يتعرض لضغوط نفسية هائلة في حياته اليومية، يعبر عنها بشكل لا إدراكي، من خلال الأعراض التي يشكو منها، دون أن يكون مدعياً أو متمارضاً.

فمرضى الأمراض النفسجسمانية، يعانون بالفعل من أعراض شديدة، مثل الغثيان والقيء، والآلام المبرحة، والتشنجات العضلية، والإغماء، وغيرها وكما يؤثر العقل والصحة النفسية على صحة الجسم، تؤثر الحالة الصحية للجسم على العقل، وعلى الصحة النفسية برمتها كذلك وأبسط مثال على ذلك، هو الاكتئاب الذي يصيب مرضى السرطان أو مرضى الإيدز، أو غيرهما من الأمراض العضال. ففي هذه الحالات، يدرك المريض طبيعة مرضه ومدى خطورته، مما يدفع به إلى حافة الاكتئاب وإن كان هناك قسم آخر من الاضطرابات العضوية، التي تدفع أيضاً بالمريض إلى الاكتئاب، دون أن يكون الشخص مدركاً لإصابته بأي مرض أو اضطراب من الأساس. بل في بعض الحالات، تكون حالة الاكتئاب التي يعيشها المريض، هي السبب في إثارة شكوك الطبيب في إصابة المريض بمرض، يشكل الاكتئاب أحد أعراضه وأفضل مثال على ذلك، هو انخفاض مستوى هرمونات الغدة الدرقية وتقع هذه الغدة في مقدمة العنق، حول القصبة الهوائية وتحت الحنجرة، حيث تفرز مجموعة من الهرمونات، تلعب دوراً حيوياً ورئيسياً في جميع العمليات الحيوية داخل الجسم تقريباً وتتعرض هذه الغدة مثلها مثل غالبية أعضاء الجسم، إلى حزمة واسعة من الأمراض والاضطرابات، بداية بفرط النشاط (Hyperthyroidism)، مروراً بأمراض المناعة الذاتية والسرطان، ونهاية بانخفاض النشاط أو كسل الغدة الدرقية (Hypothyroidism).

ويحدث كسل الغدة الدرقية نتيجة أسباب متنوعة ومختلفة، مثل النقص المزمن لعنصر "اليود" في بعض المناطق الداخلية البعيدة عن السواحل البحرية، أو في حالة استئصالها جراحياً، وغير ذلك من الأسباب. وتتوقف مضاعفات وأعراض كسل الغدة الدرقية إلى حد كبير على السن التي يظهر فيها. ففي حالة حدوثه في سن صغيرة، كما هو الحال مع بعض الأطفال حديثي الولادة، يؤدي حينها إلى تأخر النمو الجسدي، وإلى تدهور القدرات الذهنية، أو التخلف العقلي. وفداحة هذه المضاعفات، أدت بالعديد من الدول إلى تطبيق فحص هرمونات الغدة الدرقية على الأطفال حديثي الولادة، حيث يمكن في حالة اكتشاف تعرض الطفل لكسل الغدة الدرقية علاج الحالة بسهولة أما عند الكبار، والذين اكتمل نموهم الجسدي والعقلي، فيظهر كسل الغدة الدرقية في شكل انخفاض عام في طاقة وحيوية الجسم، نتيجة اعتماد معظم خلايا الجسم على هرمونات الغدة الدرقية في توليد الطاقة التي تحتاجها. ويمكن تشبيه وضع الجسم حينها، بلعبة الأطفال التي تعمل ببطاريات قاربت على الانتهاء ويظهر كسل الغدة الدرقية أيضاً في شكل مجموعة متنوعة من الأعراض، بعضها جسماني، والبعض الآخر نفساني ومن الأعراض الجسمانية نذكر: الإحساس الدائم بالإرهاق، وزيادة الوزن، وجفاف وتشقق الجلد، وعدم القدرة على تحمل البرد، وخشونة الصوت، وغزارة الطمث أما الأعراض النفسية فتتمثل في كثرة النسيان، وسرعة التهيج والعصبية، واضطرابات النوم، مثل النوم لفترات طويلة مع الإحساس بالتعب عند الاستيقاظ، والمظاهر المختلفة لانخفاض الروح المعنوية والاكتئاب وفي ظل الانتشار الواسع لأمراض الغدة الدرقية، حيث تصيب مثلًا أكثر من 20 مليون شخص في الولايات المتحدة فقط، وبسبب علاقتها القوية بالاكتئاب النفسي، أصبح من الممارسات الطبية الاعتيادية فحص مستوى هرمونات الغدة الدرقية، عند التعامل مع أي مريض يشكو من أعراض الاكتئاب، لاستبعاد كسل الغدة الدرقية ولكن تكمن المشكلة في أن الكثير من مرضى الاكتئاب، يلقون باللوم خلف حالتهم النفسية، على مصاعب العمل، أو مشاكل الزوجية، أو غيرها من الأسباب، دون أن يخطر على بالهم أن السبب خلف انخفاض طاقتهم البدنية والنفسية، وتدهور إنتاجيتهم المهنية والاجتماعية، ربما يكون سببه هو إصابتهم بكسل الغدة الدرقية ومما يزيد الموقف تعقيداً، أن الفحوصات المعملية، لا يمكنها أحياناً الكشف عن الانخفاض الطفيف في مستويات الغدة الدرقية، على رغم تسببه في ظهور الأعراض سابقة الذكر وبخلاف الاكتئاب، تعتبر زيادة الوزن غير المفهومة، من الأعراض الأخرى التي تثير الشكوك في حدوث كسل في الغدة الدرقية. بل إن بعض الدراسات الحديثة، تشير إلى أن الغدة الدرقية التي تعمل بشكل طبيعي، ولكن عند الحد الأدنى من الطبيعي، تسبب أيضاً زيادة ملحوظة في الوزن. وهو ما يظهر حساسية الدور الذي تلعبه الغدة الدرقية في الحفاظ على التوازن الدقيق داخل الجسم، وبين الصحة والمرض، وخصوصاً في ظل أن اضطراباتها لا تؤدي إلى اعتلال الجسد فقط، وإنما النفس والعقل أيضاً.

وكل ذلك حسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً ودون تعليق .

المصدر :alittihad.ae