الاستبداد السياسي وجذر العطالة الفكرية

 

نبيل علي صالح

 

 

تعاني مجتمعاتنا العربية حالياً من مجموعة أزمات وملفات سياسية واقتصادية واجتماعية عالقة، تنتقل من عام إلى آخر من دون البحث الجدي عن حلول جدية ودائمة لها.. وإذا ما أردنا أن نكون أكثر دقة وتحديداً في توصيف المأزق الفعلي الراهن الذي نعانيه، فإنه يمكننا محورته في الأمور التالية:

- غياب (أو تغييب) الثقافة النقدية الحقيقية التي يمكن بمقدورها خلق مجال سياسي وفضاء اجتماعي عام مضاد للاستبداد بكل أشكاله وصوره.

- ضمور الوعي الاجتماعي العام في مجتمعاتنا العربية والإسلامية بصور ومفاهيم وحقائق الاستبداد.

- انعدام (أو تلاشي) القدرة على تمييز الاستبداد، والتنبه لمختلف أشكال حضوره المخفية على الساحة الاجتماعية.

- فقدان الإرادة السياسية والكتلة الجماعية (البشرية النوعية) المؤثرة التي لا تهدف بالدرجة الأولى إلى قلب نظام الحكم أو استلام السلطة، بل إلى إصلاح وتغيير أرضية وقواعد العمل السياسي نفسه، وإلى تكوين تاريخ سياسي وثقافي جديد تتفتح فيه كل ألوان الحياة، وتجف فيه كل منابع الاستبداد. كل ذلك أدى ـ كتشخيص نهائي لأزمتنا المقيمة - إلى مسخ هوية الإنسان، ووجوده، وتدمير الأخلاق والفضيلة، وقتل العلم، وخنق الإبداع من خلال ذلك نجد أن الضرورة العملية تتطلب البحث المعمق عن أسباب حدوث تلك الأزمات المفضية إلى حالة الحطام والخراب المجتمعي العربي الراهن.. وهذا ما يقودنا دوماً إلى الوقوف المتأمل والمحلل مجدداً أمام محنة "الاستبداد السياسي" العربي الذي أثبت بجدارة وكفاءة لا نظير لها قدرته على الثبات في وجه كل التحولات والتغيرات العالمية.

إن هذا التقصي المعرفي عن أسس الاستبداد وعوامل ضعف وانحطاط رموزه ونخبته الحاكمة القابضة على ثلاثية القوة (المعرفة ـ السلطة ـ الثروة) في مجتمعاتنا وأوطاننا، يقتضي منا بدايةً العودة إلى فهم معنى الكلمة في معاجم اللغة التي استفاضت في الحديث عن هذا المفهوم الخطير فقد جاء في المعجم الوسيط أن الاستبداد لغةً، هو اسم لفعل (استبدّ) يقوم به فاعل (مستبد)، ليتحكم في موضوعه (المستبد)، فلا بد أن يتجسد الاستبداد في شخص أو فئة، يقال: استبد به، انفرد به..واستبدّ: ذهب.. واستبد الأمر بفلان: غلبه فلم يقدر على ضبطه، واستبد بأميره: غلب على رأيه، فهو لا يسمع إلا منه. (راجع المعجم الوسيط ج 1، ص 42) أما في لسان العرب: استبد فلان بكذا، أي انفرد به، فيقال استبد بالأمر، يستبد به استبداداً إذا انفرد به دون غيره. (لسان العرب، ج 3، ص 81). وفي شرح نهج البلاغة: الاستبداد بالشيء، التفرّد به. (راجع: شرح النهج لابن أبي الحديد، ج 9، ص 243) وإلى ذلك ذهب الجوهري في الصحاح، حيث قال: استأثر فلان بالشيء استبد به.(راجع الصحاح، ج2،ص444، مادة بدد). كما أشار الفيروز آبادي في القاموس المحيط إلى المعنى ذاته عندما قال: استأثر بالشيء استبد به، وخص به نفسه.(ص 341، مادة بدد).. إذاً الاستبداد هو الاستئثار المطلق بالسلطة والتشبث العنيف بالحكم.. أي سلب الحكم الصالح من أهله وأصحابه الحقيقيين.. وهو يكون عادة مترافقاً مع تجاوز شبه كلي للقانون والنظام الذي يرعى الصالح العام في الدولة، وحرمان الناس من ممارسة حقوقهم الطبيعية في القول والتعبير والانتخاب والمشاركة السياسية الفعالة، بعد أن تتم عملية السيطرة الكاملة على مقدرات الآخرين المادية، وتدمير قيمهم المعنوية والإنسانية، وإلغاء شخصياتهم المستقلة والمتميزة، وتقزيمهم ومسخهم، ليتم تحويلهم إلى مجرد أتباع أو عبيد لدى الحاكم المستبد، وذلك بفعل القوة المادية القاهرة، والمعنوية المضللة التي تلغي القوانين وتعطل التشريعات، وتجعل من إرادة المتسلطين قانوناً ونظاماً وسبيلاً أوحد يجب أن يُعمل به، إذ ليس هناك من حد أو معيار أو ضابط أو رادع ما للطاغية.. فهو يسخّر كل شيء لإرادته ورغباته ونزعاته، لا بل إنه يعتبر نفسه القانون الفصل والمعيار الحقيقي، "فهو الدولة والدولة هو". وقد لاحظنا أن المفكر خلدون النقيب استخدم مصطلح الاستبداد للتفرقة بين الحاكم الذي يلتزم بالقانون قولاً وفعلاً، والحاكم الذي يكون قوله وفعله هو القانون فإذا وجد القانون، ولكن الحاكم يحتكر سلطة تعديل وتغيير القانون فهو إذن حكم مطلق، وإذا قيدت سلطة الحكم بقانون أساسي "فهو حكم دستوري" وقد يكون الحكم الاستبدادي فردياً أو حكم جماعة، كما أن هناك أهمية لتوجيه النظر نحو نوعية "الاستبداد" الذي ينبع من اختراق الدولة للمجتمع، وهيمنتها عليه بصورة كبيرة يجمعها خلدون في عبارة "الاحتكار الفعال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع" كذلك نجد تعريفاً آخر للاستبداد ينقله حسن حنفي في عرضه القيم لفكر عبد الرحمن الكواكبي في "طبائع الاستبداد ومصارع الاستبعاد"، وذلك باعتبار "الاستبداد هو الحكم الذي لا توجد بينه وبين الأمة رابطة معينة معلومة مصونة بقانون ناقد الحكم. ولا عبرة فيه بيمين أو عهد أو دين أو تقوى أو حق وشرف أو عدالة ومقتضيات المصلحة العامة". ولأن الأشياء تُعرَفُ بعكسها، فإننا هنا نرى ضرورة الإشارة إلى معنى قيمة "العدل" لاستيضاح الصورة العكسية لمعاني ومرادفات الاستبداد.

مفهوم العدل:

ولتأسيس المعنى المراد توضيحه بخصوص قيمة العدل نقول إن القوانين والتشريعات التي يتم سنها وكذلك الأشكال التنظيمية، في بلد ما، تعكس أو تعبر عن تصور السلطة لقيمة ومفهوم العدل. بناءً على ذلك وبوجه عام، فإنه في الأنظمة الحاكمة المستبدة تسير الأمور دوماً من أعلى إلى أسفل. بينما في الأنظمة الديمقراطية تسير الأمور من أسفل إلى أعلى وبالتبادل. وتبدو أهمية قيمة العدل في الحياة السياسة والاجتماعية إلى حد أنه يبدو طبيعياً أن نعتبرها الشرط الأساسي لوجود "دولة" بتنظيمها السياسي والقانوني والاجتماعي، فإذا غاب العدل فنحن أمام أي شكل اجتماعي آخر غير الدولة فالنظام السياسي العادل هو الذي يعمل لصالح المجتمع، ويحترم حقوق المواطنة ويقيم "دولة القانون". ومن المعروف أن الاستبداد يستند أساساً ـ في المعطى الثقافي ـ على الموروثات التقليدية السائدة حتى اللحظة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، كما أنه يتغذى دائماً من ينابيع الثقافة العربية "القديمة-الحديثة" القائمة بمجملها (إلا ما رحم ربي) على قاعدة القهر والتغلب والملك العضوض، حيث أثبتت التجربة السياسية العربية والإسلامية عموماً ـ منذ حروب الأخوة الأعداء في بواكير الإسلام، وحتى عهود الاستقلال الشكلي ـ أن مجتمعاتنا وأوطاننا لا تزال مرتهنة قسرياً لتنظيمات أخرى داخل المجتمع كالجيش، أو العائلة/العشيرة، أو الحزب، أو الطائفة، أو مركب من بعض هذه التنظيمات أو كلها ويمكننا أن نلاحظ في المثال والحالة السياسية لكثير من الدول العربية والإسلامية المعاصرة اجتماع كل تلك العناصر تحت قيادة حزب أو فئة أو فرد مستبد واحد، ينبغي تقديسه وتقديم فروض الولاء والطاعة له في كل الأوقات، بما يوحي وكأننا أمام عقلية وصائية بدائية لم يغادر فيها الإنسان لحظة وجوده الأول على سطح هذه الأرض.

إذاً نحن نقف حقيقةً في مواجهة أزمة مفصلية ومصيرية، رهانُ التخلص منها وجوديٌ بامتياز .. إذ هل يعقل ـ ونحن نعيش في عصور الحداثة والتطور والمعرفة والانفتاح الكامل ـ أن تبقى الشعوب العربية والإسلامية (دون باقي شعوب العالم) عرضة على مدار تاريخها السياسي الحديث لأزمة وجود الأنظمة الشمولية التي وصلت إلى السلطة بقوة العنف وزخم الدعم الخارجي، وتسلطت على رقاب العباد والبلاد، وحافظت على طغيانها الشامل بالسيف والعسف والقمع والاستبداد..الأمر الذي جعل هذه الشعوب تفضل الركون والسلامة والرضى السلبي بواقع الحال، والتزام أقصى حدود الانضباط الإكراهي القسري في مواجهة جحافل قوى الأمر الواقع اليومي من أمن وجيوش وغيرها.

من هنا وفي مواجهة ما يحدث من تراجعات كبرى (على مستوى معالجة الأزمات المتلاحقة المتصلة بملفات منطقتنا العربية والناجمة أساساً عن العجز والفشل الكامل في إصلاح طبيعة النظم التسلطية الأمنية والبيروقراطية المهيمنة) يمكن أن نعتبر أن حالة شبه الصمت العربي من المحيط إلى الخليج (على كل تلك الهزائم والمآسي السياسية والاجتماعية المتزايدة والمتوالية بانتظام) ما هو إلا نتيجة (طبيعية ومنطقية!؟) لكل تلك الأعمال الشنيعة الظالمة التي ارتكبت ولا تزال ترتكب يومياً بحقه، ولذلك ينبغي علينا ألا نتوقع من مواطن جائع خائف محبط مستضعف، عاطل عن العمل، وفاقد للأمل، أن يخرج معارضاً أو مناصراً لقضية معينة، إذ أن لديه ما يكفيه من الهموم والمخاوف والأزمات والابتلاءات والضغوطات اليومية على الصعيد المعيشي والشخصي والاجتماعي، وحين يفرغ منها قد يفكر بالشأن العام الذي تتوزع الاهتمامات حوله بين قوى الأمر الواقع الداخلي (النظم المستبدة) وقوى الأمر الواقع الخارجي (القوى الدولية الكبرى) التي لا تزال تعتبر بلادنا المتميزة بطاقاتها وثرواتها هدفاً لمعظم سياساتها واستراتيجياتها ومصالحها وللوصول إلى الأساليب التي يمكن من خلالها تعرية وكشف أسس وركائز الاستبداد العربي القائم، لا بد من معرفة عوامل بقائه ومظاهر استمراريته التي يتم اللجوء إليها بهدف إعادة إنتاجها في مجتمعاتنا.. وهذه العوامل هي:

1- عدم قناعة النخب الحاكمة في مجتمعاتنا أصلاً بفكرة التغيير السلمي والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وأن الأصل في الدولة أن تكون محايدة ومستقلة كرابطة مدنية تحترم استقلالية الفرد الحر المتساوي القادر على تسيير أموره، وتحديد أهدافه العليا وأن الحكومات يجب أن تخضع للمراقبة والمساءلة، وأن الحكام بدورهم يجب أن يخضعوا للقانون والمحاسبة المستمرة، وأن الأمة هي مصدر السلطات (وهي ولية على نفسها) وليس الفرد الحاكم بمزاجه وجشعه وتكالبه على الكرسي والسلطة والثروة. حيث نراه يتخذ (كحاكم مستبد وسلطان مطلق الصلاحيات) كل الوسائل الممكنة وحتى غير المتصورة للبقاء في الحكم ومواجهة أي أفكار أو ممارسات غير طبيعية يمكن أن يشتم منها رائحة انفتاح ديمقراطي لأنه يهدد "بإنهاء سلطانه الاستبدادي" حتى لو كان ذلك سيؤدى إلى انهيار الدولة ورمي المجتمع في أتون صراعات وحروب أهلية مدمرة لا تبقي ولا تذر، فهو كحاكم أصل والباقي كله ـ على ضخامته وعظمته ـ مجرد فرع.

2- العمل على تفتيت وإذابة ما تبقى من علاقات اجتماعية إيجابية قائمة بين الناس، كالعلاقات الأسريّة، وعلاقات التآلف والتعاضد والتعاون والتكافل الاجتماعي التي قدمتها الأديان للإنسان، وحضته على تعزيزها وترسيخها في مختلف أنظمة سلوكه الفردي والاجتماعي. وهذا التفتيت يتم إما عن طريق شراء الولاء أو استخدام العنف والقمع العاري الذي يتجسد ويتمثل في النمو السرطاني لأجهزة الحماية (الأمن)، والتي تحولت وظيفتها من واجب حماية الإنسان والأوطان والحدود، إلى حماية من هم في سدة الحكم، حتى لو أدى الأمر إلى "ترويع المجتمع" وإذابته وتغيير أسس عيشه الطبيعية القائمة على الحرية والمسؤولية والأخلاق والفضائل الإنسانية الحميدة. أي أنه أصبحت مؤسستا الجيش والشرطة من أهم دعائم نسق الحكم الفاسد المستبد وكما قال أحدهم أن صورة دولة المخابرات هي حالة عربية شائعة وهي تجسد حالة "مخلوق ضخم" يقوم على القوة والعنف والاستبداد، ويستمد أسباب استمراره من الخوف وليس من الشرعية أما الفرد عندنا ـ وهو أساس نشوء وبناء وتطور الوطن ـ فيظهر مطموس الشخصية، ضامر الضمير، مفتقراً لوعي ذاتي واضح ونوعي ومباشر، أو إرادة مستقلة حية، إذ تراه ميالاً إلى تفضيل الاستسلام والرضى السلبي بحياته على مغامرة التمرد والاستقلال. وأما الجماعة عندنا فقد أعادوها إلى معناها القديم القائم على العصبية والقرابة الروحية أو العقيدية أو الدموية، أي أنها أضحت بعيدة جداً عن أن تتحول إلى جماعة مدنية حرة، متوحدة من حول خيارات إرادية طوعية. والمشكلة هنا تكمن على المستوى السياسي وتتمثل في أن المنظومات الاجتماعية الصغرى المنتمية لمرحلة ما قبل الدولة لا تستطيع القيام بدور سياسي وطني، بل إن السماح بإقحامها في الحياة السياسية يحولها ـ بالضرورة ـ إلى وسيلة فصل لأعضائها عن بقية مواطنيهم، ومن المؤسف أن هذا ما يحصل في أكثر من دولة عربية كما رأينا في حالة العراق أخيراً.

3- وجود إعلام رسمي (وحالياً غير رسمي إذ أصبحت كثير من وسائل إعلامنا العربية مرتبطة بهذه الجهة أو تلك) موالٍ هو جزء من جهاز سلطوي أعم وأشمل يعضده ويسانده، وهو في حقيقته ابن السلطة وربيبها، وأداة رئيسية للتعبئة، والشحن العاطفي من خلال آليات تزييف الوعي وإفساده إن أمكن. فالقضايا التي يتم طرحها تكون بما يتفق وتوجهات الحكم والنخبة والحكومة، والقضايا التي يتم حجبها، وتجاهلها تكون مما لا يحسن فتح ملفاتها "توخياً للصالح العام!؟"، وهي مقولة تعني حصراً الحفاظ على الولاء والمصالح الخاصة لعلية القوم.

4- إلغاء أو التضييق على الأحزاب وباقي مؤسسات وبنى المجتمع الأهلي والمدني (وأحياناً إلغاؤها بالكامل) التي يُفترَضُ أن تكونَ شبهَ مستقلةٍ عن الدولة. والعملُ على استبدالِها بعلاقاتٍ مصلحية انتهازية لا يمكن أن تقود إلا إلى تعميق النوازع الفردية الأنانية على حساب مصلحة الجماعة والمجتمع.. أي هدم ركائز الأخلاق والقيم السامية العليا التي تحرك القيادات وباقي أفراد المجتمع، وتؤهلهم للتضحية في سبيل فكرة ما وطنية أو قومية أو إنسانية من حرية و مساواة وعدالة اجتماعية، وتدفعهم للتنافس الشريف في الفضيلة وخدمة الصالح العام.

5- تمييع وتغييب (أو إلغاء) القوانين والمؤسسات السياسية والاقتصادية كلها، وتبديلها عملياً بقانون واحد هو قانون الطوارئ الذي يقوم على قاعدة أنه "يجب أن يفسد من لم يفسد بعد ليكون الجميع مداناً تحت الطلب"، وبخاصة إفساد الجهاز القضائي والتعليمي التربوي.

6- إن نظام الاستبداد ينصّب من نفسه وصياً على مصالح الناس والأوطان، ويقدم لهم نموذجه الفريد في الوطنية وخدمة المجتمع وهذا النموذج هو الولاء الأعمى والطاعة الكاملة للحاكم الفرد، بحيث يتمكن دائماً من سحق وتفتيت بذور الحرية والتعددية السياسية، بدعوى أنها تهدد أمن المجتمع وتضعفه في مواجهة قوى الخارج التي تريد نهب أوطاننا وغزو بلداننا وانتهاك كراماتنا ومقدساتنا..والمؤلم أنّ نخب وسلطات الاستبداد العربي ـ في نظرتها تلك إلى مفهوم الوطنية ـ لم تألُ جهداً في قتل المواطن والوطن، وبناء السجون والمعتقلات وسحق المعارضين، واستغلال موارد البلدان في طريق وطنيتها الفريدة ( نهب منظم ـ لصوصية حضارية ـ تهريب الثروات للخارج ـ التنازل عن الأراضي ـ...الخ )، ولم تراكم أمام شعوبها وشعوب العالم سوى المحن، ولم تنتج سوى الأزمات، ما قاد إلى ما نحن عليه اليوم من انسداد كل أفق ممكن لإيجاد حلول ومعالجات ناجعة للأزمات المتوالدة باستمرار في أوساط مجتمعاتنا العربية والإسلامية..

هذا ولا تزال نظمُنا الحاكمةُ بعيدةً كلّ البعد في فكرها وسلوكها عن المعنى الحقيقي لفكرة الوطن والمواطن والمواطنة والمتمثلة في الاشتغال على بناء الحكم المدني الصالح من خلال وجود المواطن السليم المعافى القادر على العمل والإنتاج واستخدام طاقاته النفسية والمعنوية في بناء وطنه الحر وإنشاء المؤسسات المدنية الفاعلة، وربط المواطنة الحقيقية للفرد بحقوق وواجبات ومصالح ومسؤوليات والتزامات تخص الجميع بما فيها النخب الحاكمة وبمعنى آخر تتأسس الوطنيةُ الحقيقيةُ على بنيةٍ مجتمعيةٍ مدنيةٍ تعاقديةٍ يترتب عليها منظوماتٌ حقوقيةٌ وثقافيةٌ ومؤسساتيةٌ ديمقراطيةٌ وتمثيليةٌ قادرةٌ على الانتقال بالأمة من مجرد سديم بشري هائم وغائم وعائم إلى مستوى كتلة تاريخية منسجمة مندمجة وموحدة الرؤية في وعيها لذاتها ودورها الحضاري الرائد المناط بها حاضراً ومستقبلاً.

وقد أفضت كل تلك الأسباب مجتمعةً إلى جعل إنساننا العربي المعاصر ـ طبعاً بعد مرور عقود طويلة صعبة ومريرة من السيطرة والهيمنة والسحق والإلغاء المتواصل ـ إنساناً مشلول التفكير والإرادة، وعاجزاً عن الحركة الذاتية بأي اتجاه.. كما أنه لا غرابة في ظل تلك الأجواء التناقضية المتوترة على الدوام أن يعيش الإنسان العربي مغرّباً ومغترباً عن ذاته، مستباحاً ومعرضاً لمختلف المخاطر. فهو على الهامش تشغلُهُ لقمةُ العيش، لا يجد مخرجاً سوى "الخضوع أو الامتثال القسري"، يجتر هزائمه الخاصة والعامة وهو مغلوب على أمره، عاجز عن التغيير أو تحدي قوى الاستبداد.. إذ أنه (كما نراه حالياً) يعاني من الأمراض والتشوهات الاجتماعية والنفسية بشكل يجعله غير قادر على التفكير المنطقي السليم، والحركة العقلانية النوعية الهادفة والخالية من الشطط.. وبالنتيجة فقد أصبحنا أمام إنسان مقصي مهمش، وغير متفاهم مع ذاته ومحيطه، الأمر الذي انعكس تناقضاً واضحاً في سلوكه اليومي، وفي وعيه لحياته وطريقة تعامله مع همومه الخاصة والعامة..

وقد رأينا كيف أن المواطن العربي كثيراً ما يتصرف بشكل مضاد لمصالحه ومصالح وطنه وأمته، وهو يفعل هذا بدافع شحنة التشوهات والمتناقضات والعاهات النفسية والاجتماعية التي يعاني منها، والقصور الذاتي الذي هو واقع فيه نتيجة سيطرة مفاهيم وثقافة الاستبداد على حركته الوجودية ككل، كالضبط والردع والأمر والنهي وووالخ.. من هنا يأتي تأكيدنا على ضرورة تغير الطبائع والنفوس، كأساس لتغيير الواقع الخارجي، أي تغيير الواقع الثقافي والمعرفي السائد حيث أن جذر العطالة وعلة الأزمة كامن هنا.. لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وفاقد الإرادة والحيوية والتضحية ـ وكل قيم الفاعلية والحركية والنشاط والاندفاع العقلاني باتجاه العمل المنتج والمبدع ـ لا يمكن أن ينطلق مبدعاً ومنتجاً في أي موقع أو مجال من المجالات، بل يبقى في موقع المتلقي والمتأثر والمستهلك لمنجزات وإبداعات الآخرين .. ومجتمعاتنا العربية حالياً تقدّم لنا أفضل مثال ونموذج حي على ذلك الارتكاس الحضاري والتقهقر المعرفي الإبداعي على الرغم من بعض النقاط المضيئة هنا وهناك، وهي على كلٍ بسيطة وقليلة لا تشكل حالة فريدة متميزة يمكن الاعتماد عليها.. حيث أنها حضارة لا تنتج شيئاً على الإطلاق تقريباً، وتستهلك كل شيء مما ينتجه ويصنعه الآخرون.. حتى سياساتها الداخلية المحلية، لا يرسمها أو يخططها قادة وزعماء تلك الدول إلا بما يتناسب مع مصالح الدول والقوى الكبرى.. إنها مجرد مجتمعات خاملة مستهلكة تعبة لا تقدم شيئاً للحضارة ولا لنفسها، يتحكم فيها مجموعة حكام يفكرون بعقليات بدائية، ويحكمون بلدانهم من زمن بعيد على أسس عشائرية عائلية عاطفية هوجاء، بعيدة كل البعد عن أي منطق أو مبرر عقلي صحيح، سوى تكريس مكاسبهم ومصالحهم، والبقاء الدائم في الحكم واستمرار الوجود على رأس النظام والدولة.

وبالنتيجة نؤكد أن الاستبداد والتسلط (القهر القائم على العنف العاري) ـ وهو ركن الحكم العربي على وجه العموم بمختلف ألوانه وأشكاله ـ هو شيء أعمى يسير عكس حركة التاريخ والحضارة والحياة الإنسانية الطبيعية.. وهو قانون قسري ظالم، والقسر استثناء لا يدوم، لأنه يقف على طرفيْ نقيض من فطرة الإنسان، ومن حريته، ومن قدرته على تحقيق الاختيار السليم، بل إنه يشل طاقة التفكير واستخدام العقل والفطرة الصافية عند الإنسان، ويرهن مصائره للمجهول، ويجعله أسيراً بيد الجهل والتخلف..وهنا تقع الكارثة الكبرى عندما يفقد هذا الإنسان حريته.. لأنه يفقد معها كل شيء جميل في الحياة.. إنه يفقد العزة والكرامة والأخلاق والعلم، وبالتالي يكون مصيره الموت المحتم أو العيش على هامش الحياة والوجود كأي كائن آخر، وقديماً قالوا إن الإنسان حيوان سياسي.

أي أنه يختلف عن الحيوان في عقله الذي أكرمه الله تعالى به بما يجعله قادراً على التخطيط والتفكير وتنظيم حياته وحاضره ومستقبله، وعندما يفقد هذا الإنسان حريته ومشاركته في تدبير سياساته وشؤونه المختلفة يصبح مجرد حيوان يأكل ويشرب وينكح، هذا إن استطاع إلى ذلك سبيلاً وهنا نطرح سؤالنا الدائم: هل من حل أو علاج لهذا لمرض المستشري، وهو مرض الاستبداد واحتكار السلطة الذي يعد هو نفسه السبب الرئيسي في عرقلة وتعثر نمو "الدولة" في الواقع العربي، لأنه حرمها (ويحرمها) حيوية التجدد ويمنع عنها أسباب التطور والنمو والارتقاء إلى مراحل أعلى؟!..

في الواقع لا يوجد لدى أحد ـ فرداً كان أم حزباً أم دولة ـ أي حل سحري لأزمة الاستبداد الشاملة التي تلف بظلالها السوداء الفضاء الأوسع من عالم الإسلام والمسلمين حالياًً.. ولا شك بأن للثقافة النقدية أهمية قصوى في تسليط الضوء على مكامن الخراب والدمار التي أنتجتها استراتيجيات الاستبداد في عالمنا العربي، في محاولةٍ منها لتقديم رؤية حقيقية عن الأوضاع المتخلفة السائدة عندنا مرتبطةً بتصور "سيا ـ ثقافي" ما للخروج من الأزمة المقيمة كما أن للتربية العائلية والاجتماعية دوراً أساسياً في بناء الإنسان الحر السليم في بنيته التفكيرية والسلوكية.. ولكنَّ عمقَ الأزمة وضخامةَ سلبياتها، وأسسَ معالجتها لا ينطلق فقط من العائلة والثقافة والفرد والمجتمع ومؤسسات الدولة في عملية تثقيف وتربية ونهضة متوازية، وإنما أيضاً من خلال وجود نخبة سياسية عقلانية واعية تقود عمل وجهد كل أفراد المجتمع والأمة، بحيث يتوقف على نوعية وأخلاقية وعدالة وتوازن تلك النخب (وطبيعة معرفتها وخبرتها بواقع مجتمعاتها والبيئة الإقليمية والدولية التي تعمل فيها، وتقدمها في تطوير الصيغ وقواعد العمل التي تساعد على حل النزاعات المحتملة أو القائمة فيما بينها للحفاظ على أكبر قدر من التعاون والتفاهم) مستقبل الأمة وقيمة وجودها الحضاري وتطورها الدائم وحضورها الفاعل بين الأمم والشعوب الأخرى، وذلك على مستوى نجاح تلك النخب القيادية في استثمار موارد البلاد وقدراتها الهائلة مادياً وبشرياً، والارتقاء بمستوى تنظيم المجتمع والناس، والسهر على تنظيم شؤونهم وأحوالهم المختلفة، وتحقيق التراكم والتقدم في أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية.

كما أننا يجب ألا نغض النظر عن وجود رابط بين قوى الاستبداد الداخلي وقوى التحكم والهيمنة الخارجية التي تعمل على الدوام ـ وفق قاعدة المصالح والمنافع التي هي أساس العلاقات الدولية في كل مكان وزمان ـ على تمكين وجودها ورعاية مصالحها بقطع النظر عن طبيعة النخب والحكومات القائمة في مجتمعاتنا.. ولكن على الرغم من وجود مثل تلك التدخلات الخارجية والمخططات الكبرى التي تحيكها مختلف القوى والدول للحفاظ على وجودها ومصالحها في منطقتنا العربية، فلم يعد عامل التدخل الخارجي كافياً لتفسير رعايتنا وقابليتنا للفكرة الاستبدادية ذاتها ومن ثم خضوعنا لها، حتى لو كانت مسؤولية الدول الغربية رئيسية فيما نحن فيه من مآسٍ ونكبات متوالدة باستمرار، وما نواجهه من تحديات ومخاطر مصيرية. وباعتقادي أن نغمة توجيه الاتهامات الجاهزة للآخرين وحتى وجود استسهال كبير لدى القوى الأجنبية في التدخل في العالم العربي وعدم قدرة مجتمعاته على وضع حد له يحتاجان هما نفساهما إلى تفسير، يصعب من دونه الخروج من حلقة المحاكمة المفرغة التي تضعنا أمام منطق البيضة والدجاجة، كما يقول برهان غليون.

من هنا - وطالما أن المحن والمصائب لا تزال تتدافع وتتوارد علينا من هنا وهناك (تدافع الأكلة على القصعة)، وقد عجز الجميع عن مواجهتها بأضعف الإيمان- فإن الواجب يقتضي منا أن نجعل منها وسيلة فعالة لتعرية الإستراتيجيات الحقيقية والمصالح المتبادلة لكل من الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي.. حيث أن:

- كل دعوة وطنية مفصولة عن الحرية خداع.

- وكل دعوة للتعددية السياسية الحقيقية مفصولة عن التضامن الإنساني بين الجماعات والبشر كذب قراح.. فلا وطنية من دون مواطنين أحرار، ولا ديمقراطية (وتعددية حقيقية مضمونة) من دون علاقات دولية متكافئة وبالنظر إلى ذلك يمكننا أن نقرر هنا بأن المستقبل الثقافي والسياسي للعرب والمسلمين في هذا العصر (بما فيه مستقبل الصراع الوجودي مع العدو) سيتحدد من خلال طبيعة الشروط النفسية والعملية التي ستتمتع بها الكتلة الشعبية الحيوية المغيّرة داخل عالمنا العربي والإسلامي، وبخاصة ما يتعلق منها بالإرادة المستقبلية الحركية لشعوب هذه المنطقة القادرة على مواجهة عوامل تخلفها الداخلية أولاً التي أنتجت مناخات الاستبداد المقيت.. حيث أنه من المعروف للجميع أن الاستبداد لا يسود في أي مجتمع إلا في حالة تخلف البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوقية لهذا المجتمع ( التي تعتبر أساس استعداد الناس لتقبل واقع الاستبداد، واتخاذ موقف سلبي من مقاومته) والتي تتمظهر من خلال ما يلي:

1- سيادة العلاقات والأنماط السلوكية الأهلية شبه البدائية بين الناس (كالعلاقات القرابية القبلية والعشائرية والطائفية التي حاربتها بقوة الأديان السماوية ومنها ديننا الإسلامي الحنيف)، ما يؤثر سلباً على طبيعة العلاقة السليمة والتعامل العقلاني الذي ينبغي أن ينشأ عنده عن فكرة الدولة. وهذا يعود إلى وجود نوع من التناقض الذهني بين الدولة الواقعية والمتخيلة كما يصورها الأب والإمام في المسجد مثلاً وبين الدولة كما هي في حقيقتها الواقعة التي يتعامل مع مختلف مفرداتها اليومية هنا وهناك. ويتأثر هذا التصوير بالمؤلفات الشرعية التي تتخيل دولة نموذجية يصفها الدكتور العروي بـ"الطوباويات". وهو يعرف هذه الطوباوية بتخيل نظام أفضل خارج الدولة القائمة وضداً عليها. (راجع: عبد الله العروي، مفهوم الدولة، بيروت: 1998/ ص: 90).

2- قابلية الناس للخضوع لإرادة النخب والقادة والزعماء. والقابلية الاجتماعية للاستبداد (structural limitations) هي استعارة من المفكر مالك بن نبي الذي طرح فكرة "القابلية للاستعمار" كأداة لتفسير تغلغل الاستعمار في البلدان الإسلامية. حيث أن كل نظام اجتماعي (بما هو منظومات قيم، وتوازنات، ونمط إنتاج) يسمح بخيارات محددة ويمنع أخرى. هذه المفاضلة وتجلياتها الواقعية ليس قراراً واعياً ونهائياً، بل هي محصّلة موضوعية للتفاعل بين مجموع العناصر التي تشارك في تكوين الحياة الاجتماعية إضافة إلى تأثير العوامل الخارجية.

القابلية للاستبداد ضمن هذا المنظور ليست ردة فعل مؤقتة على أزمة اقتصادية أو سياسية خانقة كما تطرحه نظرية الزعامة الكاريزمية مثلاًً، بل نمط ثقافي ـ اجتماعي يتمتع باستمرارية وعلاقة تفاعلية مع مجموع العناصر المكونة لظروف المعيشة في مجتمع محدد. والثقافة السياسية لمجتمع ما ـ حسب وصف اللموند ـ هي بمثابة خريطة ذهنية تحدد صورة الفرد كفاعل سياسي مقارنة بغيره من الفاعلين، كما تحدد صور العلاقة بينهما ونوعية الأفعال وردود الأفعال المتوقعة من جانبهم.

3- غياب مفهوم الحق المرتبط بالواجب، والحرية المرتبطة بالاختيار والمسؤولية الواعية وهذا ما يفضي لاحقاً إلى انهيار شبه كلي لمفهوم الدولة والمسؤوليات الكبرى المناطة بالفرد والمجتمع والنخبة الحاكمة في بناء وتطوير مجتمعاتها ومؤسساتها. أي أننا نصبح ـ نتيجة ضياع معايير الحق والواجب ووجود القيادات والنخب الفاسدة المستبدة ـ أمام حالة إفلاس مشروع بناء الأمم، وفي مقدمها مسؤولية بناء الدولة نفسها التي ترعى مصالح مواطنيها وتسهر على أمنهم وسلامتهم وحرياتهم وحقوقهم. وهذا الإفلاس لا يعني شيئاً آخر سوى العجز عن تحقيق الأهداف التي لا وجود للتآلف والتعاون الوطني الداخلي من دونها، وخسارة الرهانات التي تمكن البلاد من لعب دورها السليم في إقليمها "الجغرافي ـ السياسي".

4- سيطرة نموذج الدولة الريعية على كافة سلوكيات وأنماط حركة المجتمع العربي الذي يقوم على بنية إنتاجية "تجارية ـ زراعية" متمركزة حول النواة العائلية الأولى، يرافقها نظام ريعي في البلدان المنتجة للنفط كما يؤكد حليم بركات وفي ظل هذه الريعية تكون العلاقة بين الدولة والمجتمع هي علاقة من طرف واحد، فالدولة الريعية القائمة هي التي تعطي كل شيء، (إنها كالأم الحنون!؟) وتوفّر كل شيء، وبالتالي فإن خط العلاقة بين المواطن والدولة يتحدد ويتمحور فقط حول مقدار ما يحصل عليه من مال أو خدمات توفر مالاً، ولم تعد الحقوق السياسية موضوعاً للنقاش أو المطالبة. وفي ظل هذا النموذج أيضاً تتحول الثروة إلى وسيلة لتثبيت النموذج السياسي الخاص للمجموعة الحاكمة التي تستعيض عن القمع المباشر والعنيف بشراء الولاء.

5- فشل مشروعات التنمية وتعثُّر تحديث الدولة العربية، وتفاقم المشكلة الاقتصادية وإخفاق خطط الخصخصة وإعادة التكيف، وتواضع نتائجها، واقتران التحول إلى الانفتاح واقتصاد السوق بظواهر مرضية منها: الرشوة والمحسوبية والمضاربة والاختلاس، وإهدار الأموال العامة، حيث ظهر للعلن أن كل ما قامت به معظم نخب الحكم العربي من مشاريع وأعمال اقتصادية أدى إلى خلق طبقة اجتماعية طفيلية غنية ومترفة "قديمة-جديدة" تمثل مجموعة إقطاعيات ومراكز نفوذ موزعة بين الأقرباء والحاشية والزبائن الذين يستعملهم الحاكم في إستراتيجية عامة هدفها المحافظة على السلطة ومراكمة الثروات والامتيازات المرتبطة بها وكنتيجة للفشل الذريع في تطوير وتحديث الدولة (حيث استبداد حكامها وجشعهم وانحطاط تكويناتهم الأخلاقية السلوكية هو علة ذلك حتماً وبالدرجة الأولى)، فقد هيمن الفقر وانتشر التخلف في مجتمعاتنا. والرابط هنا بين الفقر والاستبداد (موضوع حديثنا) أن الفقر يعني التهميش والحرمان من التمثيل السياسي الصحيح وعدم القدرة على تفويض الآخرين للتعبير عن المصالح، وبوجه عام الخروج من دائرة النظام السياسي وليس من قبيل المبالغة القول بأن جماعات الفقراء المتزايدين في المجتمعات العربية تعيش مغيّبةَ الوعي، تقوم أو تنخرط في أنشطة تقليدية وهامشية خارج نطاق العمل الاجتماعي المنتج والمؤثر. وهؤلاء يفرض عليهم نوع من "الحجر" عن المشاركة السياسية نتيجة تركز واستئثار السلطة. وهنا تنمو اتجاهات السلبية واللامبالاة لدى المواطنين تجاه الشأن العام ما يضطرهم إلى قبول أوضاع شاذة غير متكافئة، يخضعون فيها للقوة المسيطرة حتى مع الحرمان من حقوقهم ومكتسباتهم الأساسية وهذا الخلل في معادلة التنافس والصراع المجتمعي وهيكل القوة القائمة بين مختلف مواقع المجتمع، تكون من أهم نتائجه أن يظل الفقراء مهمشين صامتين لا يشاركون في أي إستراتيجية تنموية. وطالما ظل المهمشون منفعلين ومفعولاً بهم في تلك المعادلة المختلة لصالح طرف السلطة، فلن يجدي كثيراً الحديث عن التمكين أو الأحقية أو المشاركة أو الفاعلية.

6- غياب الإجماع الوطني، أي منظومة القيم والمعايير المتفق عليها من قبل الجميع كقاعدة للعلاقة بين المواطنين من جهة وبينهم وبين الدولة من جهة أخرى. وغياب هذا الإجماع هو مظهر لغياب الهوية الوطنية الجامعة.

7- طغيان سلوكيات خاطئة عن مفاهيم التوكل والانتظار والقناعة والرضى، وو.. الخ، يلجأ إليها الناس لرفع الظلم والتسلط الواقع عليهم، عندما تشتد مظالم المستبدين والطغاة، بدلاً من الفهم الصحيح للقول المأثور "إعقلها وتوكل" أو الفهم الصحيح لمدلول الآية الكريمة "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" أي الاعتماد الفاعل على الله تعالى، المتجسد من خلال قيام الإنسان بالحركة والعمل الأساسي الأولي وهو فعل وحركة مقاومة الاستبداد نفسه وبالمحصلة نقول إن النتيجة النهائية الطبيعية التي سيفضي إليها الاستبداد المزمن وإعادة إنتاجه هي وجود مجتمعات عربية تعاني الركود والأزمات الاقتصادية والاجتماعية المستمرة، وتعميق التفاوت الخطير في توزيع الثروة الوطنية، وتوسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتنامي الفقر، ومزيد من تهميش الجماهير (المستبعدة أصلاً عن دائرة المشاركة والقرار) التي تفقد تدريجياً ويوماً بعد يوم حسها الوطني والسياسي. وفي إطار ذلك كله، فإن السمة الوحيدة الباقية للمجتمع العربي القابع في حضن وحش الاستبداد وغول الدولة التسلطية هي أنه مجتمع يفقد تدريجياً السيطرة على شروط بقائه واستمراره في الحاضر والمستقبل ولكننا بالمقابل نعتقد أنه إذا ما استطاعت تلك الكتلة الشعبية الحيوية أن تخوض معركة التحرير في الداخل على مستوى إنتاج سلطة ديمقراطية شرعية (طوعاً لا كرهاً، وانتخاباً لا فرضاً) قادرة على امتلاك زمام ذاتها، والتصرف بحرية واختيار دون وجود موانع قمع واستبداد، بالاستناد على آلية العمل التعددي السياسي، والاعتراف بالآخر، ومن ثم العمل على بناء علاقات عربية وإسلامية تكاملية في كل المجالات، فإن الأمة عند ذلك ستكون قد وضعت نفسها على بداية الطريق الصحيح المؤدي إلى أن تتحرك بإرادتها هي على طريق النهوض والشهود الحضاري من خلال ما تمتلكه من قوى وإمكانات منظورة وغير منظورة..

ونعود هنا مجدداً للتأكيد على أن امتلاك الأمة لقوى وقدرات كامنة في داخلها تؤهلها للعب أدوار حضارية وإنسانية قوية متعددة في عالم اليوم والغد (دور الأمة الوسط الشاهدة على نفسها وعلى غيرها من الأمم والحضارات) هو أمر غير كاف على الإطلاق، حيث أن كل الأمم تمتلك قوى كامنة غير منظورة في داخل جسمها الحضاري، بل إنه يحتاج إلى إعادة بناء ومن ثم تفعيل وتنشيط عمل ودور الكتلة البشرية النوعية والحيوية الجديدة التي ذكرناها آنفاً.. وهي كتلة تستطيع تحويل القوى الكامنة الهائلة التي تمتلكها الأمة (والتي بدأت تخبو شيئاً فشيئاً نتيجة لسوء استخدامها وإدارتها من قبل النخب الحاكمة المستبدة) إلى قوة حقيقية على أرض الواقع.. وهذا هو برأيي سر وجود وقوة وامتداد أية حضارة على وجه الأرض منذ فجر الخليقة وحتى نهاية الوجود.. وأنا أريد أن أضرب هنا مثلاً بسيطاً على المستوى السياسي النظري، وهو أن الأمة التي تريد أن تكون فاعلة ومؤثرة في العالم المعاصر لا بد أن تكون بحوزتها أوراق رابحة دوماً تستثمرها أثناء حدوث الأزمات ووقوع التحولات الخطيرة التي قد تمر بها (وهي أوراق كثيرة ولاشك على صعيدنا العربي والإسلامي).. هذه الأوراق هي التمثلات الواقعية والأدوات العملية لتلك القوى الكامنة التي يجب تحريكها هنا وهناك لدرء المخاطر، ومواجهة التحديات بعقل هادئ، ورؤية واضحة، وشفافية كاملة (بين قوى الكتلة ذاتها) وإن الإقامة على أي صورةٍ من صور الانحراف عن هذا السبيل لاستنهاض الأمة (بحيث تخرج بهذا الانحراف عن العرضية العابرة إلى الوصف اللازم المستقر) فإن احتمال تعرضنا جميعاً إلى خطر الاستبدال سيصبح كبيراً، كما هو واضح في نصوص القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾(المائدة: من الآية 54).. ﴿..وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾(محمد: من الآية 38).. وهي نصوص صريحة، تتحدث بلغة التهديد والوعيد (وإنزال غضب الله) عن سنة "الاستبدال التاريخي" التي يمكن أن تطال كل متكاسل أو متقاعس عن نصرة الحق والخير والعدل.

والوقت ـ كما نعلم جميعاً ـ يمضي مسرعاًَ، ولا يرحم ولا ينتظر أحداً، وهو ليس في مصلحة القاعدين والمتقاعسين والمنهمكين في حرتقات وهلوسات داخلية هنا وهناك تشتت القوى وتبعثر الطاقات وتبددها عن الهدف الكبير.. وحتى الآن ليس معلوماً متى سينطلق العرب والمسلمون بجدية شاملة نحو الإصلاح الكلي الشامل المرتكز على مشروع نهضوي حقيقي قبل فوات الأوان، وقبل أن يواجهوا أوضاعاً أكثر سوءاً من الأوضاع السيئة والمزرية التي يعيشونها حالياً قد يتعرضوا من خلالها ـ كما ذكرنا ـ لخطر تصفية ما تبقى مما يمكن أن نسميه تجاوزاً "أمة عربية" أو "نظاماً عربياًً" على حد تعبير البعض. خصوصاً وأن هناك مهمات ثقيلة بانتظار مجتمعاتنا ونخبنا وأحزابنا وشعوبنا كلها تنوء تحت حملها الجبال كما يقال، وهي:

- ملف بناء الدولة من الداخل قبل الحديث عن الخارج ومخططاته ومؤامراته، أي تفعيل التغيير السياسي المتمحور حول إعادة السياسة وإدارة الشأن العام إلى حضن المجتمع، وتمكين الشعوب من المشاركة المنتجة في صناعة قراراتها وتقرير مصيرها وصناعة وجودها. 

- ملف الانقسامات الداخلية بين الدول العربية.

- النزاعات المتفجرة في الداخل بين الدول والشعوب.

- ملف الأمن الإقليمي وأمن كل شعب من شعوب المنطقة.

- ملف التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية.

ولا شك أن تلك المسؤوليات الكبيرة التي لا تزال تنتقل وتترحّل معنا من عام إلى آخر وتنتظر على طريق الحاضر والمستقبل لهذه الأمة ومصيرها القادم، تتطلب نخباً وقيادات نوعية أخلاقية مضحية ومؤمنة عملاً لا قولاً بمسؤولياتها الكبيرة، تعمل بوحي مبادئ وقيم وغايات إنسانية لا مصلحية نفعية خاصة وهذا التاريخ كله يشهد على أنه لم تنطلق أمة أو شعب من الشعوب من سباته وتخلُّفِه من دون وجود مثل هذه الطبقة القيادية المضحية والمنكرة لذاتها ومصالحها الخاصة في سبيل بناء الصالح العام والحفاظ عليه وتطويره وتفعيله والأمر الذي تنعقد عليه الآمال ـ في هذا المجال ـ يكمن في دفع القوى الحية والجماهير الواسعة (صاحبة المصلحة الحقيقية في الإصلاح والتغيير السلمي الديمقراطي) إلى أن تؤمن بأن الهدف الكبير دونه أثمان وتكاليف وتضحيات جسام.. وما أعنيه هنا هو ثمن الحرية حتماً.

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:alwihda