الصحة العامة... ومضاعفات الإحماء العالمي

 

د. أكمل عبد الحكيم 

 

 

شهدت الأعوام القليلة الماضية، اهتماماً متزايداً بتأثير التغيرات المناخية وخصوصاً ظاهرة الإحماء العالمي، على الجوانب المختلفة للحياة الإنسانية. حيث يتوقع أن تتسبب هذه التغيرات في تأثيرات فادحة على توازن واستمرار النظم البيئية حول العالم، وعلى حركة وفعالية الاقتصاد الدولي، وأن تصبح سبباً رئيسياً خلف العديد من الاضطرابات الأمنية والصراعات العسكرية. ولكن لسبب أو لآخر، لم تحظَ التأثيرات المتوقعة لتلك التغيرات المناخية على الصحة الدولية العامة، بنفس القدر من التغطية الإعلامية والاهتمام اللذين حظيت بهما المجالات الأخرى. وهو ما حدا بمنظمة الصحة العالمية إلى الإعلان نهاية الأسبوع الماضي، عن عزمها جعل تأثير التغيرات المناخية على الصحة الدولية، القضية المركزية في فعاليات يوم الصحة العالمي لعام 2008، والذي سيكون شعاره هو "حماية الصحة من التغيرات المناخية" (protecting health from climate change).

ولكن ما هي العلاقة بالتحديد بين التغيرات المناخية وبين الصحة؟ إجابة هذا السؤال تقع في ثلاثة أجزاء: الكوارث المناخية، موجات الحرارة الشديدة، وانتشار الأمراض الوبائية. الجزء الأول أو الكوارث المناخية، سيظهر في شكل أمطار غزيرة تسبب سيولاً جارفة وفيضانات مدمرة، أو فترات جفاف وقحط تأتي على الأخضر واليابس، أو عواصف وأعاصير تقتلع الأشجار وتهدم المنازل وتحطم الطرق والجسور. هذه الكوارث المناخية، سوف تشكل تهديداً مباشراً لسلامة وصحة المجتمعات المحلية، بشكل غير معهود سابقاً. فعلى رغم أنه في استطاعة المجتمعات البشرية، التكيف مع الظروف المناخية المحلية عبر الزمن، من خلال استجابات فسيولوجية، وسلوكية، وثقافية، وتكنولوجية. إلا أن تقلبات الجو الشديدة، وتتابع الكوارث المناخية، يفرضان ضغوطاً هائلة تتخطى قدرة تلك المجتمعات على البقاء. ومع تسارع وتيرة التغيرات المناخية حالياً، وما سينتج عنها من كوارث طبيعية، يتوقع أن يفنى العديد من التجمعات البشرية المحلية تحت وقع هذه الضغوط.

التأثير الثاني للتغيرات المناخية المتوقعة، سيتمثل في موجات من الحر القائظ، والتي تتسبب بالتبعية في العديد من الوفيات. فالمعروف أن الارتفاع الشديد في درجات الحرارة، يتلازم مع ارتفاع مماثل في أعداد من يقضون نحبهم لأسباب مختلفة، منها: أن الأشخاص المصابين أساساً بأمراض قلبية، تضطر قلوبهم المريضة لبذل المزيد من الجهد لخفض درجة حرارة أجسادهم من خلال إعادة توزيع الدورة الدموية، وهو المجهود الذي قد يؤدي في النهاية إلى فشل وهبوط القلب، ومن ثم الوفاة. أضف إلى ذلك ارتفاع معدلات الإصابة بالإجهاد الحراري، وزيادة حالات المشاكل التنفسية. وجزء كبير من هذه المشاكل التنفسية، سينتج من جراء كون ارتفاع درجة حرارة الجو، يترافق مع ارتفاع في نسبة غاز الأوزون في الطبقات الجوية السفلى. وهذا التركيز العالي من غاز الأوزون بالقرب من سطح الأرض، يعتبر خطراً صحياً داهماً، نتيجة تسببه في تدمير أنسجة الرئتين، وفي تدهور الحالة الصحية للمصابين بأمراض رئوية من الأساس، مثل الأزمة الشعبية أو الربو. ومثل هذه التأثيرات الصحية لارتفاع درجة الحرارة، وعلاقتها بزيادة معدل الوفيات، ظهرت بشكل جلي في عام 2003، من خلال موجة الحر القائظ التي اجتاحت أوروبا حينها، وتسببت في وفاة أكثر من 35 ألف شخص. وهو السيناريو الذي تكرر مرة أخرى في الولايات المتحدة العام الماضي، حين تسببت موجة حر شديد في وفاة 140 شخصاً في ولاية كاليفورنيا فقط. وعلى رغم أنه لا توجد إحصائيات دقيقة عن العلاقة بين موجات الحر ووفاة قطعان الماشية والأبقار، إلا أن العلماء يعتقدون أن موجات الحر تتسبب في نفوق الكثير منها أيضاً.

الأثر الثالث لظاهرة الإحماء العالمي على الصحة العامة، سيظهر في زيادة النطاق الزمني والجغرافي لانتشار الأمراض التي تنتقل عن طريق الحشرات. فهذا الأثر، سيأخذ شكلين مختلفين، الأول في الدول التي تتواجد فيها هذه الأمراض، والثاني في الدول التي كانت ظروفها المناخية حتى الآن لا تسمح بانتشار تلك الأمراض. الشكل الأول، سيظهر في الدول المستوطنة فيها أمراض مثل الملاريا وحمى الضنك اللذين ينتشران عن طريق لدغات البعوض. فمع ارتفاع درجة الحرارة، ستصبح الظروف المناخية ملائمة خلال فترات أطول من العام لتوالد البعوض وانتشاره، وهو ما يعني فترات أطول من احتمالات الإصابة بمثل هذه الأمراض. والشكل الثاني، سيتمثل في تغير الظروف المناخية في بعض دول الشمال، التي تتميز بمناخ بارد لا يسمح بتكاثر الحشرات، وانتشار الأمراض التي تنتقل عن طريقها. ولكن مع زيادة درجات الحرارة، ستفقد هذه الدول المناعة التي منحها إياها المناخ سابقاً، لتصبح أرضاً خصبة للحشرات وأمراضها. ومن هذه الأمراض التي يتوقع أن تصل إلى حدود الشمال عن قريب، الأمراض التي تنتقل عن طريق البعوض مثل الملاريا وحمى الضنك وفيروس النيل الغربي، والأمراض التي تنتقل عن طريق حشرة القُراد مثل التهاب المخ الحاد، ومرض "اللايم" (Lyme Disease) ، وتلك التي تنتقل عن طريق ذباب الرمل مثل الليشمانيا البطنية. وبالفعل، بدأت التقارير تتواتر مؤخراً من الدول الأوروبية، عن حدوث إصابات بين شعوبها بمجموعة من الأمراض كانت تعرف حتى وقت قريب بالأمراض الاستوائية، بسبب تواجدها في المناطق الحارة الرطبة فقط.

هذه الآثار الصحية المتوقعة للتغيرات المناخية، تظهر بشكل جلي تبعات عبث واستهتار الجنس البشري بالبيئة التي يعيش فيها ويقتات منها، وهو العبث الذي يتوقع أن يدفع ثمنه الكثير من أفراده، بشكل شخصي وعن قريب.

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:الإتحاد الإماراتية-5-11-2007