نص رسـالة الذهبي إلى ابن تيمية

 

 

فؤاد عباس

 

 

تكـّفـرُ الفرقة الوهابية التي أقدمت على هدم البقيع الغرقد مرتين المسلمين قاطبة ، و تزعمُ إنتسابها الى مدرسة ابن تيمية الذي خرق الإجماع في مسائل كثيرة قيل تبلغ ستين مسألة ، بعضها في الأصول وبعضها في الفروع ، وتوسع في مسائل التكفير والتفسيق والتبديع الى حد كبير وذلك في الوقت الذي كانت الأخطار تتهدد الأمة من كل صوب وحدب ، فكفر أفكار وطوائف وعلماء ومذاهب متسبباً في تمزيق الأمة فتصدى لنصحه اوالرد عليه او تكفيره جمع كبير من العلماء  من مختلف المذاهب والفرق والأفكار ، ومنهم وللمثال لا الحصر :

الحافظ العلائي ، الحافظ ولي الدين العراقي ، الحافظ تقي الدين السبكي ، ابن حجر ، السبكي ، والذهبي ، و... الخ ، وألفت الكتب في الرد عليه من العامة والخاصة في زمانه وبعد زمانه ، حتى أفرد أبو محمد صدر الدين العاملي كتابا في ذلك ذكر فيه شهادة علماء الإسلام من الفريقين .

من كبار معاصريه الذين ردوا على ابن تيمية هو الذهبي ، وذلك في موارد عديدة منها في رسالة مستقلة وجهها اليه ، وقبل إيراد الرسالة نتعرض الى الفقرات التالية :

- منْ هو ابن تيمية ؟

- مجيئه الى دمشق

- بدايات ابن تيمية

- منْ هو الذهبي ؟

- توثيق الرسالة

- نص الرسالة

- منْ هو ابن تيمية ؟

هو أحمد بن الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر ابن تيمية ، ولد سنة 661 هـ‍ لأبوين كرديين في حران على الحدود التركية السورية والتي يسكنها العرب والاكراد و توفي سنة 728 هـ‍ في دمشق بعد أن عاشَ 67 سنة ، ولم يتزوج ، وترك كتباً في العقائد والفقه وغيرهما ، وتزعم الفرقة الوهابية التي قامت بتجديد بعض عقائده وأفكاره الإنتساب إليه ( 1 ) .

2- مجيئه الى دمشق

أتى به طفلا والده الشيخ عبد الحليم مع ذويه من حران إلى الشام هرباً من المغول ، وكان أبوه من الحنابلة  فأكرمه علماء الشام ، ورجال الحكومة حتى ولوه عدة وظائف علمية مساعدة له ، وبعد أن مات عبد الحليم ولوا ابنه المعروف بابن تيمية وظائف والده ، بل حضروا درسه تشجيعاً له على المضي في وظائف والده ، وأثنوا عليه خيراً كما هو شأنهم مع كل ناشئ حقيق بالرعاية . وعطفهم هذا كان ناشئاً من مهاجرة ذويه من وجه المغول يصحبهم أحد بني العباس - وهو الذي تولى الخلافة بمصرالقاهرة فيما بعد - ومن وفاة والده بدون مال ولا تراث بحيث لو عين الآخرون في وظائفه للقي عياله البؤس والشقاء ، و كان في جملة المثنين عليه : التاج الفزاري المعروف بالفركاح ، وابنه البرهان ، والجلال القزيني ، والكمال الزملكاني ، ومحمد بن الجريري الأنصاري ، والعلا القونوي وغيرهم ، لكن ثناء هؤلاء غرَّ ابن تيمية - ولم ينتبه إلى الباعث على ثنائهم - فبعد أن جلس على كرسي الفتوى وعمره يناهز العشرين بدأ يذيع بدعاً بين حين وآخر ، وأهل العلم يتسامحون معه في الأوائل باعتبار أن تلك الكلمات ربما تكون فلتات لا ينطوي هو عليها ، لكن خابَ ظنهم ، وعلموا أنه فاتن بالمعنى الصحيح ، فتخلوا عنه واحدا إثر واحد على توالي فتنه .

والذهبي كان من متابعيه إلا في مسائل ، لكنه لما وجد أن فتنه تأخذ كل مآخذ ، ولم يبق معه سوى مقلدة الحشوية والمنخدعين به ، وهم شباب بدأ يسعى في تهدئة الفتنة ، مرة يكتب إلى أضداده لأجل أن يخففوا لهجتهم معه كما فعل مع السبكي الكبير المتوفى سنة 756 هـ  صاحب كتاب : السيف الصقيل رد ابن زفيل على رواية ابن رجب ، و مرة يكتب إلى ابن تيمية نفسه كما في الرسالة التي سنوردها نصاً ( 2 ).

3- بدايات ابن تيمية

في البداية كان ابن تيمية مستتراً بتبعية الكتاب والسنة ، مظهراً أنه داع إلى الحق هاد إلى الجنة ، فخرج عن الاتباع المشروع إلى الابتداع المحظور ، و خرق الإجماع في مسائل كثيرة قيل تبلغ ستين مسألة ، بعضها في الأصول وبعضها في الفروع ، وتوسع في مسائل التكفير والتفسيق والتبديع الى حد كبير حيث كفر الكثيرين في الوقت الذي كانت الأخطار تتهدد الأمة من كل صوب وحدب ، فكفر أفكار وطوائف وعلماء ومذاهب فتسبب في تمزيق الأمة الى حد كبير فتصدى لنصحه اوالرد عليه او تكفيره جمع كبير من العلماء  من مختلف المذاهب والفرق والأفكار ، ومنهم وللمثال لا الحصر :

الحافظ العلائي ، الحافظ ولي الدين العراقي ( 3 ) ، الحافظ تقي الدين السبكي ( 4 ) ، وابن حجر ( 5 )  والسبكي الذي قال في ابن تيمية :

ثم جاء في أواخر المائة السابعة رجل له فضل ذكاء واطلاع ولم يجد شيخاً يهديه وهو على مذهبهم وهو جسور متجرد لتقرير مذهبه ويجد أمورا بعيدة فبجسارته يلتزمها فقال بقيام الحوادث بذات الرب سبحانه وتعالى ، وأن الله  سبحانه ما زال فاعلا ، وأن التسلسل ليس بمحال فيما مضى كما هو فيما سيأتي وشق العصا ، وشوش عقائد المسلمين ، وأغرى بينهم ، ولم يقتصر ضرره على العقائد في علم الكلام حتى تعدى وقال :

إن السفر لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم معصية ( 6 ) .

والصفدي الشافعي المتوفى سنة 764 الذي قال في ابن تيمية :

( انفرد - أي ابن تيمية - بمسائل غريبة ، ورجّح فيها أقوالاً ضعيفة ، عند الجمهور معيبة ... وما دمر عليه شىء كمسئلة الزيارة ) ( 7 )   

اما الذهبيّ وهو من معاصري ابن تيمية فكان ممن مدحه في أول الأمر ثم لما انكشف له حاله قال الذهبي في رسالته بيان زغل العلم والطلب ما نصه :

(وقد تعبت في وزنه وفتشه حتى مللت في سنين متطاولة ، فما وجدت أخّره بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفروه إلا الكبرُ والعجب وفرط الغرام في رئاسة المشيخة ، والازدراء بالكبار، فانظر كيف وبال الدعاوى ومحبة الظهور).

وقال السقاف محقق كتاب دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي ( 8 ) ومما يجدر التنبيه إليه أو عليه هنا أن الذهبي لما صنف كتاب " العلو " كان في أول الطلب وريعان الشباب وكان قد تأثر بالشيخ الحراني ! ! ابن تيمية وفتن به ! !

ولم يكن بعد متمكنا في علم الحديث لأنه ينسب فيه أحاديث لكتب مثل الصحيحين وهي غير موجودة فيها ثم لما مرت عليه السنون أدرك خطر الشيخ الحراني ، فانتقده كما في عدة من مؤلفاته منها : رسالته " زغل العلم " ومنها كتابه " سير أعلام النبلاء " ومنها الرسالة المشهورة الثابتة في نصيحته لابن تيمية المسماة : " بالنصيحة الذهبية " ، ورجع عما كان يعتقده سابقا فتجده في " سير أعلام النبلاء " يفوض أحيانا ، ويؤول أحيانا أخرى ، ويقول : إن الدعاء يستجاب عند قبور الصالحين في عدة مواضع منها عند ترجمة السيدة نفيسة رحمها الله تعالى وينزه الله عن الحد في ترجمة " ابن حبان " ويزيد على ما قاله في " الميزان " من أن نفي الحد وإثباته من فضول الكلام فيقول متراجعا زائدا : " وتعالى الله أن يحد أو يوصف إلا بما وصف به نفسه أو علمه رسله بالمعنى الذي أراد بلا مثل ولا كيف ( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ) " ( 9 )

ويضيف السقاف :

فرجوع الذهبي عن عقيدة الشيخ الحراني المخالفة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة وتركه لترهات الحراني وتعدل مزاجه وطبعه وعلو منزلته هو الواقع وهو الذي ندعيه ونستطيع أن نبرهن عليه ، فالحمد لله الذي منَّ على الحافظ الذهبي بذلك ، فنحن لا نرضى كل ما يقول لأنه قال سابقاً ما رجع عنه لاحقاً ونورد كلامه وأقواله في " سير أعلام النبلاء " لأنها آخر كلامه واختياره الأخير ورجوعه للحق ، وخصوصا بعد تأملي في " سير أعلام النبلاء " ومطالعتي له كاملا ، ولا سيما أن الجزء الأخير منه الذي لم يطبع ويقال إنه مفقود فيه ذم الشيخ الحراني كما نتوقع وكما يفيده كلام ابن الوزير المنحرف المجسم الذي ينقل عنه ، فتدبروا ذلك وتأملوا فهذا الذي نعتقده هنا ( 10 ).

4- من هو الذهبي  ؟

هو شمس الدين (673 – 748 ) هـ ، أبو عبد الله ، محمد بن أحمد ابن عثمان بن قايماز بن عبد الله الذهبي التركماني الفارقي ثم الدمشقي، الشافعي، المقرئ. فهو من أسرة تركمانية الأصل ، سكنت مدينة ديار بكر. وكان مولده في مدينة دمشق .

عاصر الذهبي كل من :

أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ( 661 - 728 ) هـ

جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن المزي ( 654 - 742 ) هـ

علي الدين القاسم بن محمد البرزالي ( 665 - 739 ) هـ  

وكانت للذهبي مع هؤلاء صحبة وملازمة ، وكان الذهبي أصغر الجميع سناً ، وكان أبو الحجاج المزي أكبرهم ، وكان بعضهم يقرأ على بعض ، فهم شيوخ وأقران في الوقت ذاته ، وقال السيوطي في مدح الذهبي :

« إن المحدثين الآن عيال في الرجال وغيرها من فنون الحديث على أربعة : المزي، والذهبي، والعراقي، وابن حجر ».

ومدح الذهبي ابن كثير في البداية والنهاية , وابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات ، وابن السبكي في طبقات الشافعية ، و الشوكاني في البدر الطالع ، وابن حجر في الدرر الكامنة ، والبدر النابلسي ، والسيوطي في ذيل تذكرة الحفاظ  ، وأبو المحاسن الحسيني ، وترجم له :

- ابن حجر في الدرر الكامنة - 3 - 336

- ابن كثير في البداية والنهاية - 14 - 225

- ابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات - 2 - 370

- ابن العماد في شذرات الذهب - 6 - 153

- ابن السبكي في طبقات الشافعية - 5 - 216

- ابن تغرى بردى في النجوم الزاهرة - 10 - 182

- صديق خان في التاج المكلل - 411

- السيوطي في : ذيل تذكرة الحفاظ - 347 ، وفي طبقات الحفاظ - 517

- الحسيني في ذيل تذكرة الحفاظ - 34

- عمر رضا كحالة في معجم المؤلفين - 8 - 289( 11 ).

وفي توسع ابن تـيمية في التكفير يقول الدكتور عـبدالحكيم الفيتوري تحت عنوان : ( ابن تـيمية وقضايا الـتـكفير ) ( 12 )  :

(( طبعاً التكفير مقدمة والقتل نتيجة حتمية ، فابن تيمية يرى قتل المخالف المقدور عليه من الشيعة أو الحرورية أو الجهمية ونحوها ، فيقول : فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج ، كالحرورية والرافضة ونحوهم ، فهذا فيه قولان للفقهاء هما روايتان عن الإمام أحمد ، والصحيح : أنه يجوز قتل الواحد منهم ، كالداعية إلى مذهبه ، ونحو ذلك ممن فيه فساد( 13 )  وهكذا بالنسبة لإستباحة عرض المخالف ، يقول ابن قدامة قد ثبت عندي أن الآمدي تارك للصلاة . ونقل ابن تيمية : وقد أمرَ الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي  وقال : أخذُها منه ، أفضل من أخذ عكا. أي من الإفرنج أيام احتلالهم لبعض بلاد الشام ومصر في المئة السادسة ).!! ( 14 )

5- توثيق الرسالة :

مما قيل في صحة نسبة هذه الرسالة الى الذهبي :

إن هذه الرسالة ثابتة عن الذهبي الذي كان تلميذاً لابن تيمية ، ولا عبرة بقول من أنكر ثبوتها بحجة أنها مناقضة لعبارات أخرى وردت في كتب الذهبي في ترجمة ابن تيمية وفيها الثناء الكبير عليه ، وبحجة أن النسخة الخطية من هذه الرسالة بخط ابن قاضي شهبة وهو خصم مُلِدٌّ لابن تيمية وشهادة الخصم على خصمه مردودة شرعًا، وأن الحافظ السخاوي شافعي المذهب وله كلام بخس في حق ابن تيمية.

نقول: لا مانع أن يثنى على شخص معين في بادىء الأمر اعتمادا على تحسين الظن ثم بعدما يتبين له حاله يقدحه ويذمه ، وهذا أمر مشاهد ومعروف ، ومن أراد فليراجع كتب التواريخ والطبقات.

ومما يؤكد لنا من أن الذهبي أثنى عليه أول الأمر ثم لما انكشف له حاله أرسل له هذه الرسالة على وجه النصيحة كلام الذهبي نفسه في رسالته "بيان زغل العلم والطلب" فقد قال ما نصه : "فوالله ما رمقت عيني أوسع علمًا ولا أقوى ذكاء من رجل يقال له ابن تيمية مع الزهد في المأكل والملبس والنساء ، ومع القيام في الحق والجهاد بكل ممكن ، وقد تعبت في وزنه وفتشه حتى مللت في سنين متطاولة ، فما وجدت أَخَّرَهُ بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفَّروه إلا الكبر والعجب وفرط الغرام في رياسة المشيخة والازدراء بالكبار ، فانظر كيف وبال الدعاوى ومحبة الظهور ، نسأل الله المسامحة ، فقد قام عليه أناس ليسوا بأورع منه ولا أعلم منه ولا أزهد منه، بل يتجاوزون عن ذنوب أصحابهم وءاثام أصدقائهم ، وما سلَّطهم الله عليه بتقواهم وجلالتهم بل بذنوبه ، وما دفع الله عنه وعن أتباعه أكثر ، وما جرى عليهم إلا بعض ما يستحقّون ، فلا تكن في ريب من ذلك". اهـ.

يقول الحافظ السخاوي في "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ" ما نصه : "وقد رأيت له (أي للذهبي) عقيدة مجيدة ورسالة كتبها لابن تيمية هي لدفع نسبته لمزيد تعصبه مفيدة" اهـ، ثم ساق ما قدمناه.

وقال الذهبي في موضع ءاخر من رسالته "بيان زغل العلم والطلب" ما نصّه: "فإن برعت في الأصول وتوابعها من المنطق والحكمة والفلسفة واراء الأوائل ومحارات العقول، واعتصمت مع ذلك بالكتاب والسُّنّة وأصول السلف، ولفقت بين العقل والنقل، فما أظنك في ذلك تبلغ رتبة ابن تيمية ولا والله تقاربها، وقد رأيتَ ما ءال أمره إليه من الحطّ عليه والهجر والتضليل والتكفير والتكذيب بحقّ وبباطل، فقد كان قبل أن يدخل في هذه الصناعة منوَّرًا مضيئًا على مُحَيَّاه سِيْمَا السلف ، ثم صار مظلما مكسوفا عليه قتمة عند خلائق من الناس ، ودجّالاً أفّاكًا كافرًا عند أعدائه، ومبتدعًا فاضلاً محقّقًا بارعًا عند طوائف من عقلاء الفضلاء". اهـ.

فتبيّن أن الذهبي ذمّه لأنه خاض بالفلسفة والكلام المذموم أي كلام المبتدعة في العقيدة كالمعتزلة والمشبّهة ، وهذا القدح في ابن تيمية من الذهبي يضعف الثناء الذي أثنى عليه في تذكرة الحفّاظ بقوله: "ما رأت عيناي مثله وكأن السُّنّة نصب عينيه".

ومن جملة ما يقوله الذهبي في حق ابن تيمية ما نقله الحافظ ابن حجر العسقلاني في الدرر الكامنةعنه ونصه : "وأنا (أي الذهبي) لا أعتقد فيه عصمة بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية" اهـ.

وكان في جملة المثنين عليه التاج الفزاري المعروف بالفركاح وابنه البرهان والجلال القزويني والكمال الزملكاني ومحمَّد بن الحريري الأنصاري والعلاء القونوي وغيرهم، لكن ثناء هؤلاء غرّ ابن تيمية ولم ينتبه إلى الباعث على ثنائهم، فبدأ يذيع بدعًا بين حين وءاخر، وأهل العلم يتسامحون معه في الأوائل باعتبار أن تلك الكلمات ربما تكون فلتات لا ينطوي هو عليها، لكن خاب ظنهم وعلموا أنه فاتن بالمعنى الصحيح، فتخلَّوا عنه واحدًا إثر واحد على توالي فتنه.

أما الادعاء الثاني وهو أن النسخة الخطية من هذه الرسالة بخط ابن قاضي شهبة وهو خصم مُلِدٌّ لابن تيمية فهو كلام مردود فإن ابن قاضي شهبة لم يفتر على ابن تيمية ولم يلفق له أقوالا إنما طعن فيه لما ثبت له من زيغه وفساد عقيدته ، ومن راجع كتب ابن تيمية وجد فيها ذلك .

ثم إن ابن قاضي شهبة لم ينفرد بالطعن بابن تيمية فقد سبقه العديد من العلماء والفقهاء والمحدثين والحفاظ من المذاهب الأربعة المعاصرين له وتبعهم على ذلك خلق كثير ، وأمره كما قال الحافظ الفقيه المجتهد تقي الدين السبكي : "وحبس بإجماع العلماء وولاة الأمور".

أما الادعاء الثالث وهو أن الحافظ السخاوي شافعي المذهب وله كلام بخس في حق ابن تيمية ، فلا يستغرب صدور مثل هذا الكلام الساقط ممن يدعو إلى نبذ المذاهب الأربعة، لكن من طمس الله عينيه بالتعصب الأعمى وأعمى قلبه بالجهل فلا هادي له.

إن هذه النسخة مصورة عن نسخة خطية محفوظة في دار الكتب المصرية  ـ القاهرة ـ تحت رقم /18823 ب، وهي مكتوبة بخط الفقيه ابن قاضي شهبة، نقلًا عن خط قاضي القضاة برهان الدين المعروف بابن جماعة، عن خط الحافظ أبي سعيد العلائي المنسوخ عن خط الذهبي نفسه.

هو الفقيه المؤرخ أبو بكر بن أحمد بن محمد بن عمر الأسدي الدمشقي الشافعي المعروف بابن قاضي شهبة، ولد بدمشق سنة 779هـ، وأخذ عن جماعة كالسراج البلقيني وابن حجى والغزي وغيرهم، وتصدَّى للإفتاء والتدريس، وحدَّث ببلده وبيت المقدس وسمع منه الفضلاء ، وناب في القضاء بدمشق ، توفي بها سنة 851هـ.

له من الآثار: طبقات الفقهاء الشافعية، ذيل على تاريخ الإسلام للذهبي ، تفسير القرءان الكريم ، طبقات النحاة واللغويين ، شرح منهاج الطالبين للنووي في فروع الفقه الشافعي ، وغيرها.

هو قاضي القضاة المفسر برهان الدين إبراهيم بن عبد الرحيم بن محمد بن سعد الله بن جماعة، ولد بمصر سنة 725هـ، وسمع على أبيه وعمه ومن شيوخ مصر كيحيى بن المصري ويوسف الدلاصي والميدومي ومن في طبقتهم، ورحل إلى الشام فلازم المزي والذهبي وأكثر عنهما، وانتهت إليه رئاسة العلماء في زمانه، تولى القضاء بمصر ثم تولى قضاء الشام فباشره إلى أن مات سنة 790هـ. وترجمه الذهبي في المعجم المختص فقال فيه: "الفقيه المحدث المفيد أحد من طلب وعني بتحصيل الأجزاء وقرأ وتميَّز"، جمع تفسيرًا في نحو عشر مجلدات. هوالحافظ الفقيه الأصولي أبو سعيد صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي الدمشقي الشافعي، ولد بدمشق سنة 694هـ، أخذ عن خلق كثير بلغ عددهم بالسماع سبعمائة شيخ جمعهم في فهرس شيوخه، تولى تدريس الحديث بالمدرسة الناصرية ودار الحديث والمدرسة الأسدية وغيرها من المدارس في دمشق والقدس.

سمع الحديث بالشام ومصر والحجاز وأفتى وجمع وصنف، توفي بالقدس سنة 761هـ. له الكثير من المصنفات تزيد على الثلاثين في الحديث وغيره.

فيتبين بهذا صحة نسبة هذه الرسالة عن طريق العلماء الثقات للذهبي ( 15 ).

6- نص رسالة الذهبي الى ابن تيمية :

الحمد لله على ذلتي ، يا رب ارحمني وأقلني عثرتي . واحفظ علي إيماني . واحزناه على قلة حزني ، وا أسفاه على السنة وذهاب أهلها واشوقاه إلى إخوان مؤمنين يعاونونني على البكاء .

واحزناه على فقد أناس كانوا مصابيح العلم وأهل التقوى وكنوز الخيرات . آه على وجود درهم حلال وأخ مؤنس ، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس . وتبا لمن شغله عيوب الناس عن عيبه .

إلى كم ترى القذاة في عين أخيك وتنسى الجذع في عينك ! .

إلى كم تمدح نفسك وشقاشقك وعباراتك وتذم العلماء وتتبع عورات الناس مع علمك بنهي الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا تذكروا موتاكم إلا بخير ، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا ) بلى أعرف أنك تقول لي لتنصر نفسك :

إنما الوقيعة في هؤلاء الذين ما شموا رائحة الإسلام ولا عرفوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو جهاد .

بلى والله عرفوا خيرا كثيرا مما إذا عمل به العبد فقد فاز وجهلوا شيئا كثيرا مما لا يعنيهم ، و من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه .

يا رجل بالله عليك كف عنا فإنك محجاج عليم اللسان لا تقر ولا تنام . إياكم والغلوطات في الدين كره نبيك صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال وقال :

( إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان ) وكثرة الكلام بغير زلل تقسي القلوب إذا كان في الحلال والحرام ، فكيف إذا كان في عبارات اليونسية والفلاسفة وتلك الكفريات التي تعمى القلوب .

والله قد صرنا ضحكة في الوجود فإلى كم تنبش دقائق الكفريات الفلسفية لنرد بعقولنا ، يا رجل قد بلعت ( سموم ) الفلاسفة وتصنيفاتهم مرات . وكثرة استعمال السموم يدمن عليه الجسم وتكمن والله في البدن واشوقاه إلى مجلس فيه تلاوة بتدبر وخشية بتذكر وصمت بتفكر .

وآها لمجلس يذكر فيه الأبرار فعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة . بلى عند ذكر الصالحين يذكرون بالازدراء واللعنة . كان سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقين فواخيتهما بالله خلونا من ذكر بدعة الخميس وأكل .

الحبوب وجدوا في ذكر بدع كنا نعدها من أساس الضلال قد صارت هي محض السنة وأساس التوحيد ومن لم يعرفها فهو كافر أو حمار ، ومن لم يكفر فهو أكثر من فرعون وتعد النصارى مثلنا ، والله في القلوب شكرك إن سلم لك إيمانك بالشهادتين فأنت سعيد .

يا خيبة من اتبعك فإنه معرض للزندقة والانحلال لا سيما إذا كان قليل العلم والدين باطوليا شهوانيا لكنه ينفعك ويجاهد عندك بيده ولسانه وفي الباطن عدو لك بحاله وقلبه فهل معظم أتباعك إلا قعيد مربوط خفيف العقل أو عامي كذاب بليد الذهن أو غريب واجم قوي المكر أو ناشف صالح عديم الفهم ، فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل ، يا مسلم أقدم حمار شهوتك لمدح نفسك .

إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار .

إلى كم تصادقها وتزدري الأبرار .

إلى كم تعظمها وتصغر العباد . إلى متى تخاللها وتمقت الزهاد .

إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح - والله - بها أحاديث الصحيحين .

يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك بل في كل وقت تغير عليها بالتضعيف والاهدار أو بالتأويل والإنكار ، أما آن لك أن ترعوى ؟

أما حان لك أن تتوب وتنيب ؟

أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل .

بلى - والله - ما أذكر أنك تذكر الموت بل تزدري بمن يذكر الموت فما أظنك تقبل على قولي ولا تصغي إلى وعظي بل لك همة كبيرة في نقض هذه الورقة بمجلدات وتقطع لي أذناب الكلام ولا تزال تنتصر حتى أقول : وألبتة سكت .

فإذا كان هذا حالك عندي وأنا الشفوق المحب الواد فكيف حالك عند أعدائك .

وأعداؤك - والله - فيهم صلحاء وعقلاء وفضلاء كما أن أولياءك فيهم فجرة وكذبة وجهلة وبطلة وعور وبقر .

قد رضيت منك بأن تسبني علانية وتنتفع بمقالتي سرا ( فرحم الله امرءا أهدى إلي عيوبي ) فإني كثير العيوب غزير الذنوب .

الويل لي إن أنا لا أتوب ، ووافضيحتي من علام الغيوب ودوائي عفو الله ومسامحته وتوفيقه وهدايته والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين ( 16 ) وهنا انتهت صورة رسالة الذهبي إلى ابن تيمية وفيها عبر بالغة .

................................

المصادر :

( 1 ) : كتاب ابن تيمية في صورته الحقيقية - صائب عبد الحميد و ebarzan.com

( 2 ) : مقدمة كتاب : السيف الصقيل رد ابن زفيل- السبكي (756 هـ  ) - هامش ص 211- 219  - مكتبة زهران - ومعه تكملة الرد على نونية ابن القيم بقلم : محمد زاهد بن الحسن الكوثري - تقديم : لجنة من علماء الأزهر.

( 3 ) : (جوابه عن سؤال الحافظ ابن فهد المسمى بالأجوبة المرضية عن الأسئلة المكية  مخطوط في المكتبة الظاهرية)

( 4 )  : (خطبة كتاب « الدرة المضيئة في الرد على ابن تيمية)

( 5 )   : (الدرر الكامنة ج1 ص 88 .)

( 6 )  : مقدمة السبكي في السيف الصقيل رد ابن زفيل - السبكي - ص 17- 18

( 7 )  : صلاح الدين الصفدي الشافعي المتوفى سنة 764 ه‍ في كتابه " أعيان العصر وأعوان النصر " - مخطوط في مكتبة عاطف أفندي باستانبول

( 8 ) : ص 60 – 61

( 9 ) : أنظر " سير أعلام النبلاء " ( 16 / 97 - 98 ).

( 10 ) : كتاب دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي - 597 -  تحقيق وتقديم : حسن السقاف ط - 3- الثالثة -1413 - دار الإمام النووي - عمان - الأردن - ص 60 - 61

( 11 ) :  ترجمة الذهبي هي من كتاب العرش للذهبي بدراسة و تحقيق الدكتور محمد بن خليفة التميمي ، طبعة الجامعة الإسلامية ، تقديم الشيخ صالح بن عبد الله العبود مدير الجامعة الإسلامية ، راجع : darwa.com  و ahlussunah.org

( 12 )  : libya-watanona.com

( 13 ) : مجموع الفتاوى ( 28/499 )

( 14 ) :  مجموع الفتاوى (18/52-53)

( 15 ) : taimiah.info

( 16 ) : السيف الصقيل رد ابن زفيل- السبكي (756 ) - مكتبة زهران - ومعه تكملة الرد على نونية ابن القيم بقلم : محمد زاهد بن الحسن الكوثري -تقديم : لجنة من علماء الأزهر- ص 211- 218

 

 

مـركـز السـِّراج المـُنـيـر للتراث

Alsseraj  Almoner  center  For  ancient

alsseraj@hotmail.com