سماحة السيد محمد رضا الشيرازي:

           هدم مراقد البقيع تناقض مع كل القيم، وجريمة بكلّ المقاييس

 

 

قال سماحة آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي نجل الإمام الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي إنّ عملية هدم المراقد المطهّرة في البقيع تتناقض مع كلّ القيم؛ فهي تحمل طابع التناقض مع ذاتها أولاً، ومع القيم الدينية ثانياً، ومع الحالة الحضارية ثالثاً، ومع واقع الأمّة الإسلامية وتاريخها رابعاً.

جاء حديثة ذلك بمناسبة الذكرى الأليمة لهدم مراقد أهل البيت سلام الله عليهم في جنّة البقيع بيد الفرقة الوهابية عام 1343 للهجرة المباركة، وفيما يلي نص المحاضرة:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

تمرّ علينا في الثامن من شوال ذكرى أليمة على قلوبنا وقلوب كلّ المؤمنين، وهي ذكرى هدم مراقد أئمة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم الذين ثووا في البقيع.

ولم تقتصر عملية الهدم على مراقد أئمة أهل البيت سلام الله عليهم وهم:

1. الإمام الحسن المجتبى سلام الله عليه، السبط الأكبر لرسول الله صلى الله عليه وآله.

2. الإمام السجاد عليّ بن الحسين بن علي سلام الله عليهم.

3. الإمام الباقر محمد بن عليّ بن الحسين سلام الله عليهم.

4. الإمام الصادق جعفر بن محمد بن علي سلام الله عليهم.

بل شملت مجموعة أخرى من الأولياء ـ في مكة والمدينة ـ لعلّ من أبرزهم:

1. عبد المطّلب؛ جدّ النبي الأعظم صلى الله عليه وآله.

2. أبو طالب؛ عمّ النبي صلى الله عليه وآله.

3. أم المؤمنين؛ السيدة خديجة الكبرى رضوان الله عليها. 

فلقد هدمت مراقدهم والقباب التي كانت عليها.

ولعلّ من الجفاء للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل بيته سلام الله عليهم أن تمرّ علينا هذه الذكرى الأليمة دون أن:

• نتوقّف عندها قليلاً ونذكّر بها.

• وبالمسؤولية الملقاة على عاتق المسلمين في هذا المجال.

هدم المراقد في البقيع جريمة بكلّ المقاييس

إنّ عملية هدم المراقد المطهّرة في البقيع تتناقض مع كلّ القيم؛ فهي تحمل طابع التناقض مع ذاتها أولاً، ومع القيم الدينية ثانياً، ومع الحالة الحضارية ثالثاً، ومع واقع الأمّة الإسلامية وتاريخها رابعاً.

1. التناقض الذاتي في جريمة هدم المراقد في البقيع:

إننا نخاطب اولئك الذين أقدموا ـ وما زالوا مصرّين ـ على هذه الجريمة بالقول:

إذا كان هدم القبور واجباً شرعياً، فلماذا هدمت بعضها دون بعضها الآخر؟

وإذا كانت الأبنية عليها بدعة وحراماً شرعاً، فلماذا نرى مرقد النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله ما يزال مشيداً ولم يؤمر بهدمه إلى الآن؟

ولا نظنّ القوم يعملون بالتقية في هذا المجال؛ لأنهم ينكرونها ويقولون إنه لا تقيّة إلا مع الكفار؟

أم تراهم يكفّرون كلّ المسلمين؛ وليس ذلك ببعيد عنهم!

ولكنهم غير قادرين على حلّ التناقض الكامن في هذه العملية على كلّ حال.

2. التناقض مع القيم الدينية

إنّ هذه البيوت التي هدموها هي من البيوت التي أمر الله تعالى أن ترفع ويذكر فيها اسمه؛ قال السيوطي ـ وهو من كبار علمائهم ـ في كتابه (الدر المنثور): عندما نزل قوله تعالى: «في بيوت أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدوّ والآصال رجال لا تلهيهم تجارة أو بيع عن ذكر الله و....» قام رجل وقال: يا رسول الله ما هي هذه البيوت؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله: إنها بيوت الأنبياء. فقام ابو بكر وأشار إلى بيت عليّ وفاطمة سلام الله عليهما وقال: هل هذه منها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: نعم، من أفاضلها.

وإننا نسأل القوم: هل يكون رفع هذه البيوت ـ التي أمر الله برفعها ـ بهدمها وتحويلها إلى يباب؟ وهل يعتبر هدم قبور هذه الصفوة تعبيراً عن المودّة التي أمر الله تعالى المسلمين لأصحابها حيث قال: «قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى»؟! أم هو التعظيم الذي أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: «ومن يعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب».

إنه من الواضح جداً أنّ هذه العملية تتناقض مع القيم الدينية والثوابت القرآنية أيضاً.

3. التناقض مع الحالة الحضارية.

إذا لاحظنا الأممم المتقدمة وكذا الحضارات الحاكمة اليوم، لرأيناهم يهتمّون بتاريخهم اهتماماً كبيراً ويحاولون الاحتفاظ بأيّ أثر من عظمائهم.

يقول الذهبي ـ وهو من كبار علمائهم ـ: قيل لأحد التابعين، لو خيّرت بين أن تُعطى شعرة من رسول الله صلى الله عليه وآله وبين أن تُعطى ذهب الدنيا كلّها فأيّهما تختار؟ فقال: أختار شعرة من رسول الله صلى الله عليه وآله.

ويعلّق الذهبي على هذه القصّة بقوله: إنّ هذا الكلام ـ من التابعيّ ـ يدلّ على كمال محبّته للرسول صلى الله عليه وآله.

أقول: لا شكّ في ذلك، ونحن أيضاً ينبغي أن نكون كذلك؛ لأن ذهب الدنيا وفضّتها يزول، ولكن شعرة لامست بدن الرسول

صلى الله عليه وآله، ما أعظم ما فيها من البركة.

وهذا ديدن الأمم المتحضّرة كلّها، في الغابر والحاضر، فهي تهتمّ بآثار عظمائها وتحاول تخليدها والاحتفاء بها. فمما ينقل في هذا المجال أن المسيحيين بنوا كنيسة وسمّوها كنيسة الحاضر فوق أرض يزعمون أن حافر دابّة عيسى لامستها.

لاشك أنّ التعامل مع أحفاد رسول الله صلى الله عليه وآله بهذا النحو وهدم مراقدهم والمنع من زيارتها، يعبّر عن حالة غير حضارية.

4. التناقض مع واقع الأمّة وتاريخها

لقد كانت المراقد موجودة في مكّة المكرمة والمدينة المنوّرة حتى في أيّام حكم الرسول صلى الله عليه وآله ولم نسمع أنه أمر بهدمها أو نهى عن زيارتها، بل عدّت جزءاً من الشعائر المهمّة، ففي مكة قبر لهاجر زوجة النبي ابراهيم سلام الله عليهما وكذلك قبر ابنه اسماعيل سلام الله عليه، وفوقه بناء وهو المسمى اليوم بحجر اسماعيل، وهكذا قبور كثير من الأنبياء سلام الله عليهم.

أجل لم يأمر النبي صلى الله عليه وآله ولا الذين جاءوا من بعده بهدم أيّ من تلك القبور.

ولا يقتصر وجود المراقد المطهّرة عند المسلمين على الحجاز بل هي موجودة في أكثر أقطارهم ومنها:

• في الأردن مجموعة من مراقد الأنبياء عليهم السلام وعليها القباب المشيدة.

• وفي الأراضي المحتلّة قبور أنبياء الله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف عليهم السلام.

• وفي إيران قبر النبي دانيال عليه السلام.

• وفي العراق قبور ذي الكفل وهود وصالح عليهم السلام.

فهذا هو واقع الأمّة وتاريخها الممتدّ لأكثر من ألف عام، أم يقول المدّعي إنّ هؤلاء المسلمين كلّهم كانوا ضالّين ومشركين وهو وحده الموحّد الذي لم يرقَ لمستوى توحيده حتى سيّد الموحّدين! (نستغفر الله تعالى ونعوذ به من هذه الأباطيل).

يقول ابن تيمية ـ وهو أيضاً من كبرائهم ـ في كتابه «الصراط المستقيم»:

(عندما تمّ فتح القدس كانت لقبور الأنبياء هناك أبنية، ولكن ـ يدّعي أنّ ـ أبوابها كانت مغلقة حتى القرن الرابع الهجري).

ونحن نسأل: إذا كانت هذه الأبنية ـ كما تزعمون ـ بدعة وضلالة فلماذا لم يهدمها المسلمون؟ وماذا لم يأمر عمر مثلاً بهدمها؟

وهل هذا إلا تناقض مع الواقع التاريخي لهذه الأمّة طيلة ألف عام؟

إذاً هذه الجريمة لا يمكن أن تبرّر، لا من الناحية القرآنية ولا من الناحية الحضارية ولا من ناحية واقع الأمّة وتاريخها ولا من الناحية المنطقية.

مسؤوليتنا في هذا المجال

بعدما تقدم حقّ لنا أن نتساءل: هل تقع علينا مسؤولية إزاء هذا الحدث الجلل، أو كلّ يمشي في دربه ويقول: لا شأن لي بالأمر، وما الذي يمكن أن أفعله في هذا المجال؟

ونقول في الجواب: لا شكّ في وجود مسؤولية في هذا المجال، فإذا كان هتك حرمة مؤمن عادي من المحرمات العظيمة، فكيف بهتك حرمة هؤلاء الأولياء العظماء ومنهم أم المؤمنين وسبط النبي؟

أو ليس هذا منكراً وهتكاً لأعظم الحرمات فيجب النهي عنه؟

يقول الفقهاء ـ ومنهم السيد الوالد في موسوعة الفقه ـ:

لا يشترط في النهي عن المنكر أن يكون مؤثراً على نحو الفور، فإذا كان القول مرّة لا يؤثر، ولكن القول مرات كثيرة وخلال، مدة طويلة مؤثراً، فإنه يجب.

كما لا يشترط أن يكون النهي علّة تامّة للتأثير.

ففي هذا المجال يمكن أن يكون عملكم جزءاً من ألف جزء تجتمع كلها فتؤثّر.

فمثلاً: أحدكم يؤلّف كتاباً حول البقيع، فهذه خطوة في هذا المجال.

والآخر يطبع كتاباً أو يلقي محاضرة أو يوزّع كتباً أو محاضرات أو يكلّم مسئولا من المسئولين ويعلمه أن هذا العمل مضرّ لدنياهم أيضاً لأنه يجعل ملايين المسلمين ضدّهم.

وهذه القطرات تتجمّع فتؤلّف سيلاً عظيماً سيؤثر حتماً في النهاية.

قال أحد العلماء في النجف: كان في أحد الأيام مشروع ضخم فجاء رجل إلى القائم على ذلك المشروع وقال له: ما هي قيمة اللبنة الواحدة! فقال: كذا ـ وكانت متواضعة ـ . قال: أنا أتبرّع بثمن لبنة واحدة.

أليس البناء يتكوّن من مجموع اللبنات؟!

لا يقال: ما قيمة هذه اللبنة أو الكلمة: فإنّ الله بنى الكون كلّه على أساس عنصر التراكم، أليس هو مجموع ذرات؟

ونحن نرجو أن تجتمع هذه اللبنات وتجتمع إلى أن يحين وقت اكتمالها ويكون عندها لكلّ من ساهم، الفخر والأجر والمثوبة عند الله في الآخرة.

إنكم إذا شاركتم في رفع هذه الظلامة عن أهل البيت سلام الله عليهم فلعلّ هذه المشاركة تكون وثيقة من وثائق شفاعتكم عند النبي صلى الله عليه وآله وأهل البيت سلام الله عليهم أجمعين في يوم القيامة.

يقال: عندما أشعل النمرود تلك النار العظيمة رئي طير يحمل بمنقاره قطرة من الماء ويأتي ليرميها على النار، فقيل له: ما أثر هذه القطرة؟ فقال: أنا أعمل بمقدار قدرتي.

إنني أظنّ أن القدرات التي منحنا الله تعالى قدرات عظيمة، وأنّ كلّ منّا يمكن أن يكون له ـ بنحو أو آخر ـ دورٌ في هذه القضيّة، نسأل الله تعالى أن يوفّقنا لذلك وأن يتقبّل منّا ومنكم هذه الطاعات والعبادات وأن يشفّع فينا كريمة أهل البيت السيدة فاطمة المعصومة والإمام الرضا وأئمة البقيع سلام الله عليهم أجمعين .

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.