الدين والصراعات الإجتماعية والغرب

 

 

د. علي فياض

 

الإسلام المقاوم نموذجاً

الإسلام والمسألة الإجتماعية، قضية شديدة العمومية والإتساع، من حيث صلتها بالأسئلة الحضارية والسياسية التي لا تزال تهيمن على الخطاب الفكري العربي منذ ما يزيد عن مائة عام، قبيل إنهيار الدولة العثمانية وبعدها، وإخفاق البديل السياسي في إحداث النهضة المنشودة، وإستمرار حالة الإنحلال في الإجتماع السياسي التي أف ضت إلى تكريس التجزئة وإخفاق محاولات التحديث والتنمية وغياب القدرة على الفعل والتأثير في الساحة الدولية.

في غمرة ذلك، دفعت السيرورات السياسية والإجتماعية الحركات الإسلامية إلى الواجهة، بوصفها الإتجاهات الأكثر تعبيراً عما يعتمل في قاع المجتمعات العربية، إلا أن ذلك لم يلغ من الناحية النظرية الأسئلة التي كان يظن أنها تأسيسية في حين ظهر أنها راهنة بإمتياز، ومن الناحية العملية أفضى ذلك إلى إنكشاف حجم الشقة القائمة بين ما يمثله النظام السياسي العربي في مقابل ما يتطلع إليه الواقع المجتمعي العربي.

والإسلام المقاوم أو الإسلام المحرر، بحسب العنوان الفرعي لهذه الندوة، هو أحد تعبيرات هذا الإنكشاف، ففي حالة عجز النظام السياسي عن القيام بدوره، سيلجأ المجتمع إلى ممارسة دوره في التصدي للتحديات والمخاطر، وسيكون ذلك طبيعياً تماماً، في حالة الإسلام، الذي ينطوي من الناحية النظرية*. على كل المقوِّمات والأسس التي تجعل ذلك ممكناً بل ومحتوماً. (1)

بيد أن هذا الدور، عند الحركات الإسلامية المعاصرة، هو نتاج سيرورة تطور ونمو في أفكار وبرامج وتجارب هذه الحركات، فهو أحد أدوار هذه الحركات وليس كل أدوارها، إلا أنها قد تختلف في تعيين موقع هذا الدور وفهمه ومقاربته ومقدار الأولوية التي يمثلها، ذلك أن فهم الإسلام ليس واحداً، بل قد يختلف رواده فيما بينهم إختلافاً شاسعاً، شأنه في ذلك، بحدود ما، شأن الديانات والأيديولوجيات الأخرى. (2)

أولاً: تطور الإتجاهات الإسلامية

في عالم عربي يعاني من مشاكل متراكمة شديدة التداخل والخطورة، بدءاً من  إستمرار حال التجزئة والتعثر الحضاري، مروراً بالإحتلال الإسرائيلي لفلسطين وأراضي عربية أخرى، وتعرض الدول العربية في شؤونها الداخلية للتدخلات الأميركية المستمرة، وصولاً إلى أزمة الإنقسام العميقة بين السلطة والمجتمع والتردي المريع في الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية، وإنكشاف العالم العربي أمام تداعيات العولمة الجارفة، دون كوابح حماية فاعلة وإجراءات تكييف إيجابية. في ظل كل ذلك يؤدي الإسلام دوراً فاعلاً في التعبيرعن الهوية وتوليد ديناميات نشطة للدفاع عن الذات ضد الإستهدافات المختلفة. فالإسلام في العالم العربي هو مكوِّن أساسي من مكونات الهوية، حتى وإن جرى تكييفه وفق الخصوصيات الوطنية أو إدماجه بها. بيد أن ما يستدعي الإستدراك أن ذاك الدور يتجلى متفاوتاً تبعاً لإختلاف الرؤية الفكرية- السياسية من ناحية، وإختلاف البيئة الإجتماعية والسياسية من ناحية أخرى.

لذا يمكن كما ذكرنا، فهم الإتجاهات الراهنة بوصفها تطوراً في سيرورة الإسلام غير التقليدي التي برزت مع الرواد الإصلاحيين في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين أو مع الحركات الإسلامية التغييرية التي بدأت في الظهور في النصف الأول من القرن العشرين. وفق التطور التالي:

1- الموجة الأولى من الإسلام التغييري، عبَّر عنها رواد الإصلاح، مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد رشيد وضا، منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى بداية القرن العشرين، وقد إتسمت هذه الموجة بغلبة الخطاب الحضاري والإجابة على التحديات التي يمثلها الغرب والتفكير بالكيفية التي تضمن إعادة النهوض وإحياء الأمة ومقاومة الإستبداد وإعادة الإعتبار للعقل والعلم. لذا يمكن القول أن هذه الموجة حضارية الطابع أكثر منها سياسية أو ثورية.

2- الموجة الثانية، وقد عبرت عنها أحزاب وإتجاهات ذات ميل عقائدي دعوتي، يهدف إلى إحياء الإسلام في نفوس الأمة، والسعي إلى تطبيق الشريعة عبر أسلمة المجتمع وتغيير النظام السياسي وإستبداله بنظام سياسي إسلامي (حركة الإخوان المسلمين السنية، حزب الدعوة الشيعي) ومن السهولة أن نلاحظ أن السمة الغالبة على هذه الموجة هي الإهتمام العقائدي التغييري الجذري، الذي يفضي إلى نتائج سياسية.

3- الموجة الثالثة، وهي التي شكلت تعبيراً عن بروز حركات إسلامية مقاتلة ذات إهتمام تحريري نضالي، أي أن دورها المقاتل لم يكن في مواجهة النظام السياسي بل في وجه العدو المحتل، ومنذ ثمانينات القرن الماضي دخلت هذه الحركات في عملية تطور في بناها وأفكارها، لتبدو أقرب إلى صيغة حركات التحرر الوطني لكن بمضمون عقائدي- إسلامي، (على سبيل المثال حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان). وتبدو المقاومة والدور التحريري هما السمة الغالبة على حركات الموجة الثالثة.

وفي موازاة ذلك، برز إتجاه آخر، سلفي، وهو أقل تسيُّساً. حدد وجهته في النضال على أساس ديني بحت، وأقام قسمته في المواجهة على أساس معسكري الإيمان والكفر، ونحا منحى تعميمياً في تحديد الأعداء الذين بدوا كجبهة شديدة الإتساع وهي تتمثل على نحو أساس بالغرب وكل المتواطئين معه في العالم الإسلامي، أو الذين أرتضوا موقف الحياد أو الذين ينتمون إلى تيارات أو ربما طوائف أو ديانات مغايرة وتشكل إتجاهات الموجة الثالثة، التيارات الأساسية الراهنة في العالم العربي، وهي مرشحة للإستمرار في تبوء سدة الريادة بين الإتجاهات الإسلامية، لأسباب موضوعية تتصل أساساً بطبيعة مهامها في مواجهة تحديات ذات سمة تاريخية مستديمة، على الرغم مما بينها من إختلافات عميقة.

4- إلى جانب سيادة إتجاهات الموجة الثالثة على واقع الحركات الإسلامية راهناً، ثمة تلوينات تطفو على سطح المشهد الإسلامي تارة او تعتمل في قاعة تارة أخرى، وهي توشك أن تتمثل في إتجاهات محددة ومتمايزة أو تعبر عن نفسها بخطاب فكري وسياسي حيوي، أو تتجلى بنخب متفاوتة في حجم إنتشارها وتاثيرها.

على سبيل المثال تشكل ظاهرة "الدعاة المصريين الجدد" بحكم فاعليتها وحجم تأثيرها، إتجاهاً إسلامياً صاعداً في التعبير عن إسلام أخلاقي غير سياسي وغير مؤسساتي، يسعى لفتح فضاءه الديني الخاص خارج "مؤسسات الإسلام السياسي" وخارج مؤسسة الأزهر في آن واحد.

وهو بحسب تعبير "بتريك هايني"، إتجاه حداثوي دون أن يكون لديه مشروع حداثة، لأنه لا ينطوي على أي سعي لإصلاح أو تجديد في العقيدة، فالحداثة هنا تمارس دون أن يفكر فيها، مع التشديد على التدين لذاته والأخلاق والفردانية والتوازن الداخلي والإنفعال والمصالحة بين المتعة الدنيوية والروحانية وتسويغ الثروة.

من ناحية اخرى، ثمة نزوع متزايد لدى القواعد الشعبية لدفع الحركات الإسلامية إلى بلورة وإنضاج برامجها في التغيير السياسي والتنمية الإجتماعية والإصلاح الإقتصادي، بهدف الإستفادة من الثقل الشعبي والسياسي لهذه الحركات في إصلاح وتحديث البنى المجتمعية والسياسية والحؤول دون تفاقم الأزمات المتراكمة التي بلغت حداً خطيراً….

إن هذا البعد الإصلاحي بوصفه نضالاً إجتماعياً تحديثياً في حال بلوغه وإنضاجه، قد يشكل السمة الغالبة للموجه الرابعة من الحركات الإسلامية، أو قد يندرج في عملية مواءمة صعبة إلى جانب السمة التحريرية للموجة الثالثة: لكونهما يتداخلان ويشكلان أرضية مشتركة في مواجهة الواقع العربي المأزوم.

بناءً على ما سبق، يظهر معنا، كيف أن فهماً معيارياً للحركات الإسلامية الراهنة يقتضي دراسة مجموعة من العناصر الأساسية التي تسمح بإقامة تصنيف منهجي لهذه الحركات والإتجاهات وهي:

1-  علاقة هذه الإتجاهات بالتجديد في الأفكار والمفاهيم.

2-  علاقتها بالمستوى التحريري المقاوم الذي يتصل بالسيادة والإستقلال.

3-   علاقتها بالإصلاح والتحديث السياسي والإقتصادي والمجتمعي.

4-  موقفها من الغرب بوصفه كتلة حضارية مهيمنة ومجموعة سياسات ومصالح.

ثانياً: الدور الإسلامي المقاوم في التجربة اللبنانية

تشكل تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان نموذجاً مثالياً على خوض الحركة الإسلامية المعاصرة ميدان النضال الوطني المسلح في سبيل تحرير الأراضي المحتلة. وفي واقع الأمر لم تكن التجربة على هذا القدر من البساطة، إذ أنها إستدعت إعادة تشكيل كل مستويات التعاطي مع الواقع السياسي والإجتماعي على قاعدة أولوية الدور المقاوم نفسه، كما انها إستدعت إعادة إنتاج الفكر السياسي وفق ضرورات هذا الدور.

إن إخضاع هذه التجربة للمعايير الأربعة المشار إليها سابقاً، يسمح لنا بتعيين موقع هذه التجربة في سلم تصنيف الحركات الإسلامية، ويسمح أيضاً بفهم أعمق للكيفية التي أجابت بها هذه التجربة على الإشكاليات السياسية والإجتماعية التي واجهتها:

1- فيما يخص علاقة المقاومة بتجديد الأفكار والمفاهيم، لم تكترث المقاومة بالتجديد أو الإصلاح في الأفكار الدينية والعقائدية، إنما صرفت إسهامها إلى تجديد الأفكار والمفاهيم السياسية، فجعلت من الأمة إطار لمشروعها السياسي عوضاً عن الجماعة أو الطائفة، وأقرت بالديموقراطية بوصفها آليات ضرورية لصيانة الإستقرار داخل المجتمع وتنظيم سلمي لعلاقات الإختلاف بين الأحزاب والإتجاهات والطوائف في مجتمع تسوده الإنقسامات والإختلافات. كما أنها أقامت مصالحة بين الفكر الديني ومفهوم الوطن رغم الحساسيات الكثيرة التي تثيرها فكرة التجزئة في الفكر السياسي الإسلامي.

2- حول العلاقة مع الدور التحريري، فقد جعلت المقاومة من هذا الدور مقوِّماً جوهرياً لوجودها وربطت شرعيتها به، وإعتبرت أن إسترجاع الأراضي المحتلة والدفاع عن الوطن والأمة والشعب، مهمة تاريخية مقدسة تفوق كل المهمات الملحة الأخرى.

وهذه المهمة التاريخية تحتاج إلى كتلة تاريخية للنهوض بها، والكتلة التاريخية هي مفهوم تآلفي تكاملي، يتشكل من مختلف إتجاهات الأمة أو الوطن كافة (دينيين وعلمانيين، مسيحيين ومسلمين)، وهي تتجاوز الفروقات الأيديولوجية التي تحدد المنطلقات في سبيل لحمة سياسية تلتقي في الوظيفة، ومن شأن هذا المفهوم أن لا يقتصر في تحديد المقاومة على كونها إطاراً للتحرير، بل يحيلها إلى إطار للوحدة الوطنية، وهذا أفضى إلى تآلف مساري التحرير والتوحيد داخل المجتمع اللبناني، وهكذا ولَّدت تجربة المقاومة في لبنان إجماعاً وطنياً غير مسبوق وتمكنت من إستعادة القسم الأكبر من الأراضي اللبنانية المحتلة وكرَّست معادلة التوازن الرادع في وجه الإستهدافات المستقبلية المحتملة.

3- حول علاقة المقاومة بالتغيير السياسي والإصلاح الإجتماعي والإقتصادي: ما يستدعي الإنتباه والتقدير في تجربة المقاومة، أنها فصلت فصلاً تاماً بين مشروع التحرير ومشروع تغيير السلطة أو إصلاحها، ذلك أن مشروع التحرير توحيدي فيما أن نشدان السلطة مشروع خلافي وإنقسامي.

بيد أن نجاح المقاومة في مسارها النضالي وصولاً إلى التحرير في آيار من العام 2000م  قد أنتج مجالاً سلطوياً خاصاً، هو مزيج من سلطة معنوية وأخلاقية وسياسية فائقة السطوة والتأثير، يمكن أن نسميها بأنها سلطة من دون سلطة، وهي أمتلكت مشروعيتها الأخلاقية عبر المصداقية والنجاح، وعبر ما يمكن أن نسميه بطهرانية نضالية.

وقد كان لذلك تأثيره على مجمل المسار السياسي العام للبلاد، فبات الموقف من المقاومة إحدى السمات الجوهرية للوطنية اللبنانية في مفهومها الرهن، كما انها تحولت إلى قيمة محددة وضابطة للسياسات الرسمية المعتمدة.

كل ذلك لا يتناقض مع حقيقة أن هذه المقاومة أطلقت خطاباً سياسياً سعى إلى تحديث السلطة من خلال الدعوة إلى إلغاء طائفية النظام السياسي، وحاولت أن تحد من فساد الطبقة السياسية وتصدت للسياسات النيوليبرالية في المجال الإقتصادي، ودعت إلى تدعيم السياسات الإجتماعية في رسم التوجهات الإقتصادية وتقييد سياسات الخصخصة وترشيدها، وتحديث النظام الإنتخابي والتركيز على الإنماء المتوازن وتنمية الأرياف وبناء إقتصاد إنتاجي يستند إلى الزراعة والصناعة دون الإقتصار على إقتصاد الخدمات.

والى جانب كل ذلك فقد أسست المقاومة عدداً كبيراً من المؤسسات الخدماتية والإجتماعية والإنمائية والصحية، للإهتمام بالجرحى والمعوقين وأبناء الشهداء، وبناء المستشفيات ومساعدة الفقراء، وبناء البيوت التي يهدمها الإحتلال وتعبيد الطرقات وإيصال المياه إلى المناطق المحرومة والفقيرة وترشيد المزارعين ومساعدتهم على تحسين إنتاجهم وتصريفه. وقد شكل ذلك نوعاً من إقتصاد إنمائي موازن في ظل تلكوء السلطة وفشل سياساتها التنموية.

4-حول الموقف من الغرب: لم تتعاط المقاومة مع الغرب بوصفه واحداً، أي بما هو كتلة متراصة صماء لا تباينات فيها ولا إختلاف، بل رأت إليه بما هو متعدد ومختلف، لأنه لا ينضوي في إطار قسمة سياسية واحدة, ولأن هذه القسمة بنظر المقاومة لا تتأسس على قاعدة دينية.

لقد رفضت المقاومة بإستمرار مقولة صدام الحضارات، كما انها رفضت أن يُقدم الصراع الدولي بوصفه صراعاً بين المسيحية والإسلام، فالمطابقة بين الغرب والمسيحية تبسيط ساذج للتشكيلات الحضارية المعاصرة فضلاً عن كونه لا يقدم تفسيراً لديناميات إنتاج السياسات التي يبدو انها وليدة كل معقد من المكوِّنات، وليست نتاجاً وحيد البعد.

هكذا جرى التمييز بين ما هو سياسات أميركية وما هو سياسات أوروبية، وبين ما هو حكومات من ناحية وما هو إتجاهات في الرأي العام ومؤسسات مجتمع مدني من ناحية ثانية.

في الواقع، إن الموقف العدائي من أميركا يكاد يكون عاماً وسائداً في المجتمعات العربية والإسلامية، ومرد ذلك إلى الدعم غير المحدود الذي تقدمه أميركا لإسرائيل والى تماهي موقفيهما والى تغطية ممارساتها العدوانية وحمايتها دبلوماسياً، بالإضافة إلى ذلك إن لدى شعوب المنطقة إنطباعاً عن صورة أميركا، هو وليد ستين عاماً من التحالف بينها وبين الدكتاتوريات العربية (على حد تعبير بوش نفسه)، لذلك أميركا هي المسؤولة عن الحؤول دون التطور الديموقراطي في العالم العربي وعن عدم الإستقرار في آن.

فضلاً عن كونها رمز سياسة الهيمنة في العالم والسعي للقطبية الواحدة، والتدخل في شؤون المجتمعات الأخرى والإستخدام المفرط للقوة وإعتماد سياسة الحروب المتنقلة وصوغ السياسات بناء على إزدواجية المعايير.

في المقابل، لقد بدا الموقف الأوروبي تجاه قضايا المنطقة العربية، أكثر تمايزاً وإن يكن لا يزال دون ما تتطلع إليه شعوب المنطقة، إذ أن تطوير الموقف الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية والقضايا الأخرى وجعله أكثر فاعلية وعدالة سيشكل عنصر توازن مع الإنحياز الأميركي، وكانت تجربة تفاهم نيسان في 1996 التي أدت فيها فرنسا دوراً حيوياً في الوصول إلى التفاهم الذي أفضى إلى تقييد الإستهدافات الإسرائيلية للمدنيين اللبنانيين، قد كشفت إلى أي مدى يمكن أن يؤدي الأوروبيون دوراً إيجابياً في مساعدة شعوب المنطقة، كما أن التمايز النسبي للموقف الأوروبي عن الموقف الأميركي تجاه القضية الفلسطينية ورفضه الحرب الأميركية على العراق، فضلاً عن التحولات ذات الدلالة التي بلغت ذروتها في المظاهرات المليونية في أنحاء مختلفة من اوروبا للتعاطف مع الفلسطينيين تارة ولرفض السياسات الأميركية تجاه العراق تارة أخرى، كان محل مراقبة وتقدير من شعوب المنطقة الأمر الذي دفع بقائد المقاومة السيد حسن نصر الله إلى الدعوة للإهتمام بهذه التحولات، والعمل على إستراتيجية حوار مع الرأي العام الأوروبي.

إن كل ذلك يسلط الضوء على أهمية بناء قاعدة حوار أهلي بالدرجة الأولى، بين إتجاهات وقوى ونخب ومنظمات المجتمع المدني في كلا العالمين الأوروبي والإسلامي، تمتد من تقريب المفاهيم والرؤى والقراءات للكيفيات التي يبنى عليها الإستقرار العالمي، وصولاً إلى توسيع قاعدة المصالح المشتركة بينهما (ثمة مبادرات في هذا الإتجاه يجري التحضير لها عملياً من قبل مؤسسات إسلامية وأوروبية). الأمر الذي يجعل من العمل على إستراتيجية حوار بناء وجدي وفاعل، مهمة ملحة ومشتركة أوروبياً وإسلامياً.

باريس       

(1) ثمة مرتكزات نظرية أساسية لما يسميه الغرب بالإسلام السياسي، ولما يسمى في العالم الإسلامي بـ"الإسلاميين" أو الحركات الإسلامية أو لما يجري تداوله بكثير من الإلتباس في المصطلح، بعبارة "الحركات الإسلامية الأصولية"، وهذه المرتكزات- المفاهيم، بنسب متباينة، وفي أحيان بإختلاف شديد، تشكل خلفية نظرية لهذه الحركات.

ومنها:

(2) 1- إعتبار الجهاد سنة واجبة وفريضة إلهية، وهو يجب في حالة الدفاع عن الأمة أو النفس، في مواجهة الإعتداء على أراضي المسلمين أو تهديد مصالحهم ومصالح شعوبهم، وثمة ضوابط وتقييدات فقهية وشرعية لهذا المفهوم، لا مجال لذكرها، لكن تذهب أغلب التفسيرات إلى تلازمه مع حالة الدفاع.

2-  إعتبار الإسلام أطروحة شاملة، لا تقتصر على العبادات وحدها، إنما هو أطروحة حضارية شاملة تتضمن منظومة معرفية خاصة، ونسق سياسي متمايز.

3-  في الإسلام تأخذ فكرة العدالة موقعاً جوهرياً، فهي من أصول الدين ومن صفات الله الأساسية، كما أن الإنسان أُمِرَ بالعدل (قل أمر ربي بالقسط). والعدالة هنا مسألة مفهومية وعملية في آن. ترتبط بالقيم وتتجلى بالممارسة. وهي غيرمحدودة، أي أنها لا تختص بجانب دون آخر، أي أنها لا تختص بالجانب الإجتماعي دون السياسي، أو بالجانب الفردي دون الجانب الجمعي، إنها مفهوم كلي ذو تطبيقات شاملة. وكذلك هي لا تختص بإنسان دون آخر أو بجماعة دون أخرى.

فالعدالة كمفهوم وكفعل، لا تختص بما يجب أن يمارسه المسلم تجاه المسلم فقط. بل بما يجب أن يمارسه المسلم تجاه البشرية جمعاء. مسلمين وغير ومسلمين، مؤمنين وغير مؤمنين. وقد نهى القرآن الكريم المسلمين عن أن لا يتعاطوا بعدالة مع غير المؤمنين أو غير المسلمين. "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا أعدلوا هو أقرب إلى التقوى" وكذلك في القرآن الكريم : "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين".

4-  رفض الظلم هو المفهوم التوأم للعدالة، فهو قرينه ووجه الآخر وفي واقع الحال، يمتلىء القرآن بحشد كبير من الآيات التي تنهى عن الظلم وتدعو للتصدي له. فالظلم يتلازم مع عدم الإيمان. والظلم إما أن يكون ذاتياً أي ظلماً للذات أو أن يكون ظلماً للآخرين. وكلاهما مرفوضان.

5-  في المفهوم الإسلامي، وربما أيضاً وبحدود ما، في الإسلام التاريخي، إن ترسيخ الصراعات الدينية، أي صراع الإسلام مع الديانات التوحيدية، مسألة مرفوضة، وبالتالي إن صياغة السياسة الدولية على أساس الصراعات الدينية وإقامة الإصطفاف الدولي على أساس ديني.

هي خروج عما أراده الإسلام، بل إن الإنقسام العالمي هو إنقسام بين مستكبر ومستضعف، أي بين من يمتلك القوة ويسعى لتوظيفها في سياق الهيمنة والإستباحة والإستعمار وإستغلال ثروات الآخرين وإلحاقهم وجعلهم في موقع التبع من ناحية وبين من لا حول ولا قوة له، الذي تمارس عليه الإستباحة والهيمنة والظلم والمصادرة. وجوهر هذا الإنقسام العالمي، سياسي- أخلاقي، لكنه بالتأكيد ليس دينياً- حضارياً.

*ورقة قُدِّمت في المنتدى الإجتماعي الأوروبي- باريس (12-16 تشرين ثاني 2003م)

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر: المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق