إستراتيجية إعادة النظر: وضع حد للإخفاقات الأمريكية
في نهاية عام 2006، كانت الإدارة الأمريكية قد انتهت من وضع المبادئ الأساسية لإستراتيجيتها الجديدة التي أطلق عليها وصف "إعادة النظر" في الأهداف الأمريكية، والتي يُنتظر منها الكثير من التعديلات. ولعل من أهم مبادئ تلك الإستراتيجية، وضع اصطفاف إستراتيجي جديد في الشرق الأوسط، يفصل بين "الإصلاحيين المعتدلين" - الذين يمثلون حسب توصيف وزارة الخارجية الأمريكية الدول السُنية - وبين "المتطرفين الراديكاليين" الذين يمثلون (حسب الوزارة ذاتها) إيران وحزب الله وسوريا. وإذا كانت هناك "إعادة نظر" في الأهداف الأمريكية، نتيجةً لبروز خطر جديد مُتمثل في إيران، ومن ثم رجوع "خطر تنظيم القاعدة" إلى الوراء قليلاً، فهناك سمات وأبعاد أخرى لإستراتيجية "إعادة النظر"، تتعلق بقضايا أخرى: مثل "إعادة النظر" في إستراتيجية المعونة تجاه باكستان؛ ومثل "إعادة النظر" في حروب اليوم؛ وأخيراً مثل "إعادة النظر" في المخططات الإقصائية للإسلام، ولاسيما بعد امتداده في المعنى أكثر من امتداده في الحركة. ومن ثم، فقد ارتأت كاتبة هذا المقال، تسليط الضوء على تلك القضايا الثلاث؛ ربما لعدم التركيز الإعلام عليها بقدر ارتكازه على القضية الإيرانية. إعادة النظر تجاه باكستان أصدر "المركز الأمريكي للدراسات الإستراتيجية والدولية" CSIS دراسةً في مطلع عام 2007، تحت عنوان "حينما لا تكفي 10 بليون دولار: إعادة التفكير في الإستراتيجية الأمريكية تجاه باكستان". تقول الدراسة في مُجملها إن المساعدات الأمريكية إلى دولة باكستان لا تعكس إستراتيجية أمريكية مُتسقة. فعلى الرغم من العلاقات التاريخية والاقتصادية التي تجمع بين البلدين، إلا أن الإدارة الأمريكية فشلت في تفعيل قوتها الرخوة في باكستان، كما ينبغي. يوضح الباحثان اللذان قاما بهذه الدراسة، وهما "كريج كوهين" و"ديريك شوليت"، أن المعونة الأمريكية الهائلة للجيش الباكستاني لم تُعن واشنطن - حتى الآن - على التأثير في الأحداث الجارية بباكستان. فعلى الرغم من ازدياد تلك المعونة، وبلوغها - منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 - إلى أكثر من 10 بليون دولار (بمعدل حوالي 2 بليون دولار سنوياً)، وعلى الرغم من تحول الأراضي الباكستانية إلى الساحة الأولى والأكبر لقتلى تنظيم "القاعدة"، إلا أن الإدارة الأمريكية لم تفلح أو لم تفعل ما يكفي لترسيخ علاقتها مع باكستان على المدى البعيد. إعادة النظر في حروب اليوم وفي 29 يناير 2007، أصدر "مركز واشنطن لسياسات الشرق الأدنى" Washington Institute مقالاً تحت عنوان "هل تُعد الأكاديميات العسكرية الأمريكية الخريجين لحروب اليوم؟". وهو مقال يُنادي فيه كاتبه، وهو "أندرو إكسوم"، الأكاديميات العسكرية الأمريكية إلى إعادة النظر في طريقة إعداد الجنود على دخول حروب العصر التي تستلزم إمكانات ومواهب جديدة. ومن ثم، كانت إشادة الكاتب بمبادرة الجنرال الأمريكي "بيتر شوميكر"، رئيس أركان حرب، الذي دعا إلى إعداد قائد عسكري جديد، ذي "مهارة في الحكم والإدارة والدبلوماسية وفهم الأطر الثقافية المختلفة". هذا بالإضافة إلى قدرته على التعامل بفعالية مع حالة "التذبذب" التي تسود العالم المتغير. ويخلص "إكسوم" قائلاً: إن الجندي الأمريكي اليوم بحاجة ماسة إلى التمكن من ستة مجالات، لا يُستغنى عنها في حروب اليوم، وهي: الهندسة، الرياضيات والعلوم، تكنولوجيا المعلومات، التاريخ، الثقافة، السلوك الإنساني. بل إن معرفة الجندي الأمريكي باللغة العربية تعتبر اليوم أهم من معرفته بشبكات الكومبيوتر. إعادة النظر في إقصاء الإسلام أدركت الإدارة الأمريكية - في ظل السنوات الثلاث الأخيرة - أن الخيار الإسلامي صار خياراً ومطلباً إستراتيجياً لدى الشعوب العربية المسلمة. وقد ظهر ذلك جلياً من خلال الانتخابات التشريعية المصرية نوفمبر 2005؛ ومن خلال الانتخابات الفلسطينية يناير 2006. ومن ثم، لم يعد من الذكاء أن تقف الإدارة الأمريكية - صاحبة المصالح الإستراتيجية في المنطقة العربية - في وجه ذلك الخيار الإستراتيجي الجماهيري. ولم يعد من الحكمة أن تناهض الإدارة الأمريكية الإسلام، وقد انتشر معناه وتمدد في أنحاء العالم، ولاسيما بعد دخولنا في عصر الثورة التكنولوجية والفضائيات. بل صار من الحنكة والدهاء، استمالة تلك الجماهير، خاصةً في إطار سياسة "الدبلوماسية الشعبية" التي باتت تُصوبها واشنطن نحو القاعدة الجماهيرية، استهدافاً للمواطن العادي وليس المواطن النُخبة؛ وهو استهداف إن دل على شيء فإنما يدل على تحول نوعي في الإستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة العربية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001؛ وهو تحول يوحي بتدخل أمريكي غير مسبوق في تكوين الشخصية العربية والمسلمة باعتباره حق شرعي. إلا أن تلك "الاستمالة" ليست استمالةً لجميع المسلمين، وإنما فقط لأولئك المسلمين "المعتدلين" أو الذين تُصنفهم واشنطن كـ"معتدلين". وقد تضع واشنطن معايير "الاعتدال" من وجهة نظرها، بغض النظر عن المعايير التي يضعها التراث الإسلامي لصفة "المسلم المعتدل" أو "المسلم الوسط". وفي النهاية، تكون واشنطن قد ضربت عصفورين بحجر: فهي لم تقف "ظاهرياً" ضد المطلب الإستراتيجي للشعوب العربية، ومن ثم واكبت "الموجة"، وفي نفس الوقت أيدت التيار الإسلامي "المعتدل" الذي لا يقف ضد مصالحها في المنطقة. إعادة النظر بعد سلسلة من الإخفاقات عادةً ما تكون عملية إعادة النظر نتيجةً لسلسلة من الإخفاقات التي توالت واحدةً بعد الأخرى. حينئذٍ يدرك الفاعل الدولي - وهو الإدارة الأمريكية هنا - أن ثمة خطأ قد ارتكب. وقد تناولت العديد من المراكز البحثية الأمريكية تلك الإخفاقات، لتُعرضها أمام الإدارة الأمريكية، فتوقظها قبل فوات الأوان. في دراسة تحت عنوان "الأمم المتحدة وبناء الدولة"، والتي أعدها مركز "راند" في فبراير 2005، تم تناول أزمة المصداقية الأمريكية في عمليات بناء الدول بعد نهاية الحرب الباردة. وهي أزمة تتلخص في عدم قدرة واشنطن على تنفيذ السلام الذي تعد به كلما تدخل بلداً، تحت شعار تحريره من بطش واستبداد حكومته. ولعل أقرب دليل إلينا، ما تمخض عن العراق بعد قدوم القوات الأمريكية في 19 مارس 2003. فقد وعدت واشنطن بتحرير العراق من حكم "صدام" الغاشم، وبناء دولة ديمقراطية، تمهيداً لبدء مشروع المقرطة في الشرق الأوسط؛ وكان دخولها أو احتلالها للعراق رغماً عن المجتمع الدولي. إلا أن واشنطن لم تبل بلاءً حسناً في تنفيذ كل ذلك؛ وأدركت أن التحديات كانت أكبر منها، وأكبر من دخولها وحدها في المُستنقع العراقي. وفي كتاب "البقعة العمياء: التاريخ السري للمناهضة الأمريكية للإرهاب"، الصادر عام 2005، تحدث "تيموثي نافتالي" (أستاذ التاريخ الأمريكي) عن فشل الإدارة الأمريكية في تنمية إستراتيجية فعالة مناهضة للإرهاب. فقد فشلت الإدارة الأمريكية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في وضع السياسات الملائمة لمواجهة الإرهاب، كما أوضح "نافتالي". وعلى الرغم من النجاح الذي أبدته أجهزة الاستخبارات الأمريكية في جمع المعلومات، فإن ذلك النجاح لم ينسحب على السياسات الأمريكية المنوطة بمكافحة الإرهاب. وعلى الرغم من جبال المعلومات والمؤسسات الأمريكية الضخمة، إلا أن ذلك لم يواكبه تنسيق عال وإدارة فعالة؛ بل واكبه نزاع فتاك بين المؤسسات، أدى إلى إتلاف فعاليتها. وفي كتاب "عاصفة من الشرق: الحرب بين العالم العربي والغرب المسيحي"، الصادر عن مركز "كارنيجي للأخلاق والعلاقات الدولية" في عام 2006، سلط "ميلتون فيورست" الضوء على إخفاق الإدارة الأمريكية في استيعاب الذاكرة التاريخية العربية، وعدم اعتبارها من خبرة الاحتلال البريطاني والفرنسي للمنطقة العربية على امتداد النصف الأول من القرن العشرين. لقد أخطأ "جورج دبليو بوش"- كما يقول "فيورست"- حينما ظن أن فشل العرب عسكرياً إنما يقتصر فقط على الحروب النظامية. لكنه لم يدرك عدم نفاد قدرتهم في الحروب غير المنظمة. وهي تلك الحروب ذات الإرث الطويل المُترسخ في الذاكرة التاريخية العربية، منذ عهد النبي محمد. وقد استدعى الجزائريون ذلك الإرث "الصحراوي" – كما يصفه الكاتب، في محاربتهم للفرنسيين؛ وظلوا يقاومونهم عقوداً طويلة. كذلك، فإن كتاب "عاصفة من الشرق: الحرب بين العالم العربي والغرب المسيحي" - كما يقول "جوان مايرز" بمركز "كارنيجي للأخلاق والعلاقات الدولية" - يُلفت انتباه الرئيس الأمريكي الحالي "جورج دبليو بوش" إلى الخطأ الإستراتيجي الذي ارتكبه بحق العلاقة بين العالم العربي والغرب المسيحي؛ إذ كان احتلاله للعراق سبباً مباشراً في تأجيج نيران القومية العربية من جديد، الأمر الذي أدى تلقائياً إلى توسيع الفجوة بين العالمين. مُلخص القول، إن إخفاقات الإدارة الأمريكية في سياستها الخارجية – على الرغم من هيمنها العسكرية – يعكس تحولاً في منظور القوة التي لم تعد حكراً على عدد الذخائر والجنود؛ والتي لم تعد تُحسب بالكم، بل بكيفية توظيف هذا الكم....وهو ما يبدو أن استوعبته واشنطن أخيراً. المشكلة ليست في القوة الأمريكية من قراءتنا للقضايا المُثارة أعلاه، نجد أن مشكلة الإدارة الأمريكية لا تكمن في كم ما تمتلكه من قوة، وإنما تكمن في كيفية استخدامها لما تملك. فهي تملك بلايين الدولارات التي ترسلها إلى باكستان سنوياً؛ وهي تملك أحدث المُعدات العسكرية التي يمكن أن يتسلح بها أي جندي على وجه الأرض؛ وهي تملك أكبر وأضخم وسائل الإعلام لشن حملات ضارية على الإسلام. هي تملك كل ذلك، لكنها لا تملك كيفية استخدامه وتطويعه لخدمة مصالحها؛ وهو ما صرح به "روبرت ساتلوف" (مدير "مركز واشنطن")، في مؤتمر "هيرتسيليا" السنوي السابع المُنعقد في إسرائيل، 22 يناير 2007، حيث قال: "إن المشكلة ليست في القوة الأمريكية، وإنما في كيفية استخدامها". وهو ما يثير نقطةً في منتهى الأهمية، ألا وهي: أن الإدارة الأمريكية بكل ما تمتلك من قوةٍ صلبة، تفوق جميع الدول الأخرى، عاجزة على الهيمنة والتأثير. و كل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا و دون تعليق. المصدر: تقرير واشنطن-العدد114
|