المسلمون والمستقبل ... التربية والمستقبل : هل تـزداد الهـوّة ؟!

 

 

د. محمد بن شحات الخطيب

 

المسلمون والمستقبل 

ظهر تحول واضح في استقراء المستقبل منذ بداية العقد السادس من القرن العشرين الميلادي بظهور كتاب « فن الحدس » عام 1964 م،  ونشأة الجمعيات المتخصصة في دراسة المستقبل مثل جمعية المستقبل العالمية عام 1966م واتحاد دراسة مستقبليات العالم عام 1967م ونادي روما عام 1968م . وانتشرت الدراسات المستقبلية في شتى ميادين المعرفة والثقافة. غير أن هذا المدّ من الدراسات المستقبلية انحسر عن المنطقة العربية ومعظم الدول النامية، ولم تظهر العناية بهذا النوع من الدراسات إلا مؤخراً، وظلت دراسات جزئية غير قادرة على تحقيق الطموحات. وتركز الدراسة الحالية في التعرف على توجهات الدراسات العالمية المستقبلية العامة سعياً للوصول إلى مغازيها التربوية. قام الباحث بتحليل 408 دراسات مستقبلية منها في مجال السياسة (2.14%) من الدراسات، والاقتصاد (3.11%) والاجتماع (12%) والاتصال والإعلام (6،6)، والعلوم والتقنية (2،3%) والتربية (7،52%). وتجدر الإشارة إلى أن 90% من تلك الدراسات المستقبلية (367 دراسة من 408 دراسات) نشرت في التسعينيات من القرن العشرين. وفيما يلي عرض لأهم التوجهات التي استنبطت من تحليل الدراسات المستقبلية في مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع والإعلام والتقنية والتربية على التوالي. جاءت التوجهات المستقبلية في مجال السياسة لتبرز ملامح النظام العالمي الجديد، والاستقرار السياسي، والأمن العربي والعمل العربي المشترك، وتأكيد أهمية ثقافة السلام وتحقيق أعلى درجة من التكامل بين دول مجلس التعاون، لتقريب القوانين والتشريعات والأنظمة بين الدول باعتباره نموذجاً فريداً من الوحدة الخليجية المشتركة. وتلك التوجهات تؤكد ضرورة تعلم الديموقراطية من أجل فهم أفضل للمواطنة، وتقويم مستقبل النظام العالمي الجديد والانتقادات الموجهة إليه ودوره في عرقلة كثير من المشروعات السياسية الوطنية، وتفعيل دور مجلس التعاون لدول الخليج العربية في كافة الميادين، وأهمية الوعي بدروس الماضي في بناء المستقبل. وتبرز تلك التوجهات السياسية الأزمة السياسية العربية وتدعو إلى توفير تصور سياسي لمستقبل العالم العربي للخروج من أزمته الراهنة، وأن ممارسة الديموقراطية مسألة اجتماعية شاملة تتطلب غرس القيم والسلوكيات في نفوس شباب المجتمع وصغاره ويتم ذلك من خلال التربية والتعليم. وجاءت التوجهات المستقبلية في مجال الاقتصاد لتؤكد أهمية التوصل إلى صيغ واستراتيجيات طويلة المدى في الحقل الصناعي لمواكبة التطورات العالمية واستخدام التكنولوجيا وتنمية الصناعات التحويلية والتعدينية، وأهمية التحول من مجتمع كثير الاستهلاك إلى مجتمع كثير الاستثمار، مع تأكيد دور القطاع الخاص في الاقتصاد العربي وتحقيق الاستقلالية الاقتصادية العربية والنهوض بالقطاع الزراعي، وتطوير التدريب وتوفير استراتيجيات اقتصادية طويلة المدى، تهتم بقضايا التسويق والعلاقات التجارية، والارتفاع بمستوى الإنتاج وكميته، والاستثمار في مجال تنمية الموارد البشرية بالتعليم والتدريب من أجل إصلاح الجوانب الإدارية والتنفيذية والتشريعات الاقتصادية وتأهيل وتدريب العمالة الوطنية، وربط الاقتصاد بالبحث العلمي، ومراجعة التطورات المالية ومبادئ اتفاقية تحرير التجارة العالمية. ومن المتوقع أن تزداد الحاجة إلى إحداث تناسب بين العملية التعليمية ومتطلبات الإنتاج، وانهيار حواجز التجارة والاتجاه إلى نظام تجاري حر مستقل تتكامل فيه الهياكل التجارية والصناعية، وتتحول فيه الشركات الوطنية الكبرى إلى مؤسسات اقتصادية دولية، وتنتقل فيه رؤوس الأموال وتبادل السلع والخدمات وحرية المواطنين في العمل ومشاركة آسيوية كبيرة في الإنتاج العالمي، وحدوث تغيرات جذرية في أسلوب الإدارة وإتاحة فرص العمل، وأهمية العمل التطوعي والعمل على زيادة فرص التعليم المستمر وإجراء تعديلات في نظم حساب الأرباح والضرائب. أما التوجهات المستقبلية في مجال الاجتماع فقد برزت في التحديات السكانية وتوفير التشريعات الخاصة بالحفاظ على الأسرة وهويتها، وتأكيد التنمية بأبعادها المختلفة وتشجيع التعددية الثقافية وتحاور الثقافات، وتعزيز مكانة الإنسان في المجتمع، والقضاء على التمييز العنصري والتعصب، والعناية بصحة المجتمع وعلاج مشكلات البطالــة، وتحقيــق التوازن بين المجتمع والبيئة وبين الثروة والمصلحة، وبين النمو الاقتصادي والاجتماعي، وبين الرجال والنساء والصغار والكبار. وتعكس التوجهات المستقبلية في مجال الاجتماع ما يعرف بثورة القيم التي تتجه إلى التعددية والتفتــت الاجتماعــي وانهيــار المعاييــر التقليدية، ونمو القيم البديلة والانخراط في الجماعات أو التنظيمات ذات الخاصية التطرفية. وتبرز التوجهات المستقبلية في مجال الإعلام والاتصال دور المعلومات في اتخاذ القرار، والأهمية المتجددة للمكتبة الشاملة، وتشجيع التعاون الإقليمي في مجال الإعلام والمعلومات والتدريب، والاستفادة من نظم الشبكات العالمية المتطورة للمعلومات، ومن وسائل الإعلام الحديثة وبخاصة البث المباشر من الأقمار الصناعية مع التغلب على أضرارها، والاستفادة كذلك من النشر الإلكتروني، وتشجيع خدمات التثقيف المعلوماتي والمؤسسات المهنية التي تمارس نشاطها في مجال الإعلام والاتصال على نطاق وطني، وتنمية مهارات الاتصال الفعالة. وتؤكد تلك التوجهات أن الفائدة المترتبة على ثورة المعلومات سواء للأفراد أو للمجتمعات لن تتحقق إلا من خلال توفير القوانين والتسهيلات القانونية التي تجعل الاطلاع على المعلومات أمراً حراً في مقابل دفع الرسوم المناسبة لاستعمال مصادر المعلومات. أما التوجهات التي تبرزها الدراسات المستقبلية في مجال العلوم والتقنية فتتمثل في توفير استراتيجيات للبحث العلمي تعزز الاهتمام بالجوانب التطبيقية وتركز على العناية بالتربية البيئية والمعارف العلمية بالنظام الإيكولوجي والتركيز على المحميات الطبيعية، وصون القيم الطبيعية والثقافية وتعزيزها في الممارسات المختلفة.أما التوجهات التي أبرزتها الدراسات المستقبلية في التربية فتركز على ضرورة تهيئة النظم التعليمية لمواجهة تحديات التكتلات الكبرى والقوى العظمى، واتباع سياسات التعليم الإلزامي وتطوير الهياكل والبنى التعليمية ومراجعة فلسفة التعليم وأهدافه، وتحقيق مبادئ التربية من أجل ثقافة عالمية، والعناية بتطبيق مبادئ تكافؤ الفرص التعليمية، وصياغة النظرية التربوية الإسلامية صياغة عصرية، وزيادة الارتباط بين التربية والتنمية وتطوير خدمات تكنولوجيا التعليم، توسيع دعم البحث العلمي لمواجهة مشكلات التطوير التربوي، وتقويم النظم التعليمية وتطوير المناهج الدراسية، والبحث عن مصادر جديدة لتمويل التعليم، وتجريب صيغ متنوعة من التعليم المستمر النظامي وغير النظامي، والتوسع في تنويع فرص التعليم ما فوق الثانوي ونماذجه، وتحسين اختيار المعلمين وإعدادهم وتدريبهم. كما تبرز تلك التوجهات الحاجة إلى تطوير الإدارة المدرسية بما يتمشى مع التطورات التكنولوجية والتوجه إلى اللامركزية، وزيادة العلاقة بين المدرسة والمجتمع، وتعقد الوظائف والأدوار التربوية للمدرسة المعاصرة. هذا بالإضافة إلى ضرورة القضاء على الثنائية بين الجامعة وكليات التعليم العالي الأخرى، وتطوير دور الأستاذ الجامعي بالتركيز على الممارسة الحقيقية للبحث العلمي وإنتاج المعرفة، واتجاه التعليم إلى الحفاظ على الهوية الثقافية للمجتمع وبناء الوعي العالمي، والتعايش السلمي وتحقيق مستوى مرتفع من الكفاءة الخارجية والداخلية للنظام التعليمي.

المصدر : نقلا عن مجلة (المعرفة) عدد (35) - bab.com