بحوث في مؤسسات المجتمع المدني : ثـقـافـة الـهـدم ... الـنـقـابـات الإجتماعية مـثــالاً
المهندس فـؤاد الصـادق
القـسـم الأول
في حياة المسلمين يبدو أن النقابة ظهرت بداية في حالة إجتماعية حيث كانت النقابة تطلق على رئاسة أصحاب النسب الواحد مثلاً ، وكانت بلادهم عامرة بأمثال هذه الـنـقـابـات الإجتماعية التي كانت تقيم إرتباطاً ( متفاوتاً في مستواه وألياته ) مع الدولة فتشكِّل ( من ناحية الموقع ) وسيطاً بين الفرد وبين الدولة أو بعبارة أدق بين المجالين الخاص والعام ، ولما كانت تلك الـنـقـابـات ذات طابع تمثيلي نسبياً من جهة ، وقادرة على التموقع المذكور من جهة أخرى فهي كانت تقوم بدور بعض مؤسسات المجتمع المدني بالمفهوم الحداثي لا الحداثوي لمفهوم المجتمع المدني ، ومع إنتشار الحرف والمهن تأســــست النقابة بوضع مهني وأبعاد اجتماعية واقتصادية ، ومن ثم بأبعاد أخرى منها ثقافية وسياسية , وعليه فالتنظيم النقابي يستند على أسس مختلفة ، والنقابة على أنواع بحسب أشكالها وعلاقاتها وأبعادها , ومن أنواع النقابات تلك المهنية اوالحرفية المتعارفة اليوم والتي تتبادر الى الذهن عند ذكر النقابة لكن بحثنا هو النقابات الإجتماعية وتحديداً النقابة التي كانت تطلق على رئاسة أصحاب النســــــب الواحد ، وكمثال سنتناول نقابة الطالبيين . الـنـقـابـة لغـوياً وتاريخـياً ؟ في لسان العرب : (( كلمة النقابة مشتقة من النقيب ، ويعرف النقيب انه سيد وعريف القوم ، وجمعها نقباء ، ويضيف ان النقيب هو شاهد القوم وضمينهم )) , وهي من نقب ينقب نقابة ، أما عبادة بن الصامت فيقول ان : (( النقيب هو منْ ينقب عن أحوال قومه بمعنى يفتش في شؤونهم ، ويستدل اخبارهم )) , وعن وجه التسمية بحسب أبن منظور : (( قيل للنقيب نقيباً لانه يعرف دخيلة قومه ويستدل على مناقبهم )) ، وفيما تقدم إشارة الى النقابة كتنظيم إجتماعي قديم ، وفي السياق المذكور ورد في عمدة الطالب - ابن عنبة - هامش ص 274 : ))كان الحسين النسابة ( الحسين بن أحمد المحدث بن عمر بن يحيى بن الحسين ذي العبرة ورد العراق من الحجاز سنة إحدى وخمسين ومائتين ) أول من كتب المشجر في النسب وسماه ( الغصون في آل ياسين ) وهو أول من أسس نقابة الطالبيين ، يحدث القاسمي في ( شرف الأسباط ) ص 7 : إنه طلب من المستعين بالله ( الحاكم العباسي الثاني عشر الذي حكم من 248 إلى 252 هـ ) تولية رجل على الطالبيين منهم يتولى شؤونهم ويدفع عنهم سلطة الأتراك ، فعينه المستعين بعد مشاورة الطالبيين ، وإختيارهم له . )) وفي هذا الإتجاه الإجتماعي التنظيمي أوالإجتماعي التنظيمي السياسي لاحقاً كان منحصراً إستعمال لفظ النقابة كما في نقابة الأنساب (ولاية النقابة على ذوي الأنساب ) بحسب عنوان ذلك كتاب الأحكام السلطانية للماوردي (ت: 450 هـ)، طبعاً مع تطور الدولة المسلمة اخذت النقابة أبعاد أخرى ودخلت ضمن التصنيف الحرفي وجرى تعريفها من قبل عدد من الباحثين انها تنظيمات حرفية مثل نقابة البنائيين ونقابة الحداديين والسباكين والسقائين وغيرها والتي تقوم بتعليم وحفظ اسرار المهنة , وتجمع بين العلاقات المهنية مع الحفاظ على مستويات عادلة لأسعار المنتوجات الحرفية , وتنظيم الجوانب الاجتماعية لأصحاب الحرفة والمهنة من خلال عقد تأسيسي يؤدون القسم على حمله وإحترام هذا الدستور وتقاليد وقيم والمهنة , وعليه فالتنظيم النقابي يستند في الغالب على أسس مختلفة ومنها النقابات المهنية أوالحرفية التي تقوم فى الأساس على طبيعة ونوع الإنتاج أوعلى وحدة الإنتاج او تكامل الإنتاج , فالنقابة بدأت إجتماعية كما في العشيرة أوالقبيلة أوالنسب الواحد ثم أخذت أبعاداً أخرى لتشمل وصف أصحاب الحرف والمهن والصناعات ... الخ فتحولت من حالة إجتماعية الى وضع مهني بأبعاد اجتماعية واقتصادية ، ومن ثم ثقافية وسياسية , وتنوعت في أشكالها وعلاقاتها , وشملت الأبعاد المختلفة التربوية والعلمية والتعليمية وعلى سبيل المثال يقول الجاحظ ان : (( هذه النقابات تتمركز في هذه الأسواق , وكانت تقوم بأدوار كبيرة وقد أوجد بعضها نوع من الضمان اوالتأمين ضد النكبات , فاذا تعرض أحد أعضائها لحـادث أولضيق أومرض أو أراد الزواج لجأت النقابة الى مساعدته بطريقة تحفظ له كرامته وتعينه على قضاء حاجته )) ويضيف الجاحظ في وصفه لهذه الحالة : (( ان رجلا من القصابين تلف ما لديه, فينجلي له القصابون سوقهم يوما , ويجعلون له ارباحهم ليربحها منفردا , ويبيع منفردا , وبذلك يقومون على مساعدته وعونه وحفظ كرامته )) , كذلك ظهرت في العصر العباسي مرتبة النقيب في جميع المهن والأصناف والحرف , إضافة الى المراتب المهنية والحرفية الأخرى مثل شيخ الحرفة والأستاذ والصانع , والصبي ، وبلغت النقابات ذروتها في العصر الفاطمي , عندما لعبت دوراً هاماً في النشاط التجاري , وجرى الإعتراف بها من قبل الدولة , وتفرعت الى مجالات أخرى غير المهنية عندما انشأت نقابة طلاب وأساتذة جامعة الأزهر ، وقد أشار بعض المؤرخين كالمقريزي الى نقابة المعلمين أيام الدولة الفاطمية , ويصنف البعض المراتب التنظيمية بدقة متناهية عندما أتخذوا من التربية الاخلاقية أساساً لرفع مكانتهم كصفوة تؤهلهم لمراكز القيادة وتسهل طريق النجاح أمامهم ، كما في مقدمات تاريخية لفهم النقابات العمالية والحرفية مع بدايات التاريخ العربى الاسلامي لمحمد المرباطي . مبررات وجود النقابات الإجتماعية عموماً هي نفس مبررات مؤسسات المجتمع المدني لأن النقابات الإجتماعية تعمل في ذات الإتجاه والإطار إجمالاً ، ولأن مفهوم المجتع المدني لايرفض أي مؤسسة لمجرد انها تقليديّة ، فهو لا يرفض القبيلة بل القبليّة ( التعصب القبلي ) ، كما لايرفض الطائفة بل الطائفيّة ( التعصب الطائفي ) ، كما لايرفض العشيرة بل يرفض العشائريّة ( التعصب العشائري ) ، وكما لا يرفض مفهوم المجتع المدني الأحزاب السياسية ومنها الأحزاب الدينية السلميّة. لكن مع بناء الدولة الحديثة ضيقَ كثيرون مفهومَ المجتمع المدني ليتحول الى أداة للتهميش والإقصاء والحذف والهدم والإهدار والتفريط بمؤسسات المجتمع المدني التقليدية وبناها التحتية فتسبب ذلك في معاداة تلك المؤسسات التقليدية وفتح جبهات للصراع وشروخ عميقة إضافة الى تدعيمه لخلق الفراغ الكبير فالعجز الأكبر الذي ترتب على تورم مركزية الدولة فتمكينها من الإبتعاد السريع المنفلت عن الشورية والتشاركية فالوقوع في شرك الإستبداد المستدام والتخلف . لـمـاذا نهدم ما لا يجوز هدمه ، وحتى قبل أن نبني البديل أو المـُكـّمل المـوازي ؟ لـمـاذا نهدم ما يمكن إصلاحه لتطويره وتفعيله و لشبهات عرضية وأعراض جانبية يمكن إحتواءها ومعالجتها ؟ كيف أصبح َ الهدم هو الأصل بدلاً من بناء الجديد الموازي لإصلاح وتطوير ما هو قائم وموجود ومتجذر مما صقلته التجارب وحولته القرون من سلوك عابر الى تقليد راسخ ومتجذر ؟ هل لأننا مهوسون بتقليد المستورد ، وبشمولية مؤدلجة مسيـَّسة ، وبعد تجريده من ظروفه وملابساته وخصوصياته وجذروه ،وبدون عرض خصوصياتنا عليه ؟ لـمـاذا يتحول البعض من الإنفتاح الى الحداثية الى الحداثوية ؟ كيف يمكن معالجة ذلك ؟ الأسئلة المتقدمة بحاجة الى بحث مستقل وقد ناقشنا بعضها في بحث سابق بعنوان : مـع نـذرالـحرب الأهـلية على أرض العراق ( العـشائـر العـراقية والفراغ القائم ) ، ونضيف على ذلك : التناقض بين مفهوم المجتمع المدني والبُنى التقليدية : تـُسـمى القبائل والعشائر والمجموعات الدينية والإتنية ونقابات النسب الواحد كنقابة الطالبيين مثلاً بالبُنى التقليدية وللمفكِّرين والمثقفين المؤمنيين بمؤسسات المجتمع المدني رؤيتين مختلفتين حيال البُنى التقليدية المتسامحة : الأول : إيجابي يجد فيها تعبيراً عن المجتمع المدني على أقل تقدير . الثاني : سلبي يتشبث بالتفسير الحداثوي المتحجر الضيق لمفهوم المجتمع المدني فينعت تلك البُنى التقليدية بالقديمة والمتخلفة والرجعية التي تمزق الوحدة الوطنية وتناقض الحداثة وتعرقل العملية السياسية والعملية التنموية وتجهض مشروع الدولة الوطنية ( أو القومية ) ويرتب على ذلك ضرورة تهميشها لتفكيكها أومحاربتها وتصفيتها . الـعـراق مـثـالاً : تشبث حزب البعث العراقي بالنظرة السلبية للبُنى الاجتماعية التقليدية وقد عبَّر إيديولوجياً ومنهجياً عن رفضه العلني المطلق لها بالخلط بين القبيلة والتعصب القبلي ، وبين الطائفة والتعصب الطائفي ، حيث أعلن أنها من "مخلَّفات الاستعمار وعومل زعماء البُنى التقليدية على أنهم مثال للرجعية والتخلف ، وساوى مثلاً بين القبائل والعشائر وبين الإقطاعية ورأى فيها خطراً يتهدَّده. وفي مرحلة متأخرة كان يُنظر إليها على أنها نقيض للقومية العربية والوطنية العراقية. وقد سعى إلى محاربة وإضعاف البُنى التقليدية من جهة ، وغير التقليدية الفتية من ناحية ثانية ، والى تغذية التوتر القديم الجديد المؤسف بين هذين القسمين من البُنى من جهة ثالثة وبتفسيرات وتشريعات شمولية سياسية إقتصادية أمنية متناقضة ذات قشور سطحية حداثوية مخادعة لم تفلح في شيء سوى زرع المزيد من جذور التمزق للنسيج الإجتماعي والمعاداة والعدوات والتعصب والعصبية القبلية التي تغولت لتتسرَّب بإشكال مختلفة إلى الدولة بعد أحداث حرب الخليج الثانية وإنتفاضة عام 1991 الشعبية التي أُجهضت حيث أضطر صدام وقتها على الإنفتاح الإنتقائي الجزئي التكتيكي الطائفي على بعض أطراف البُنى التقليدية فقط ، ولم يكن ذلك لتغير في الرؤية الى تلك البُنى بل من باب فرق ْ تـسد ، و لأن نظام صدام كان حينها بحاجة ماسَّة لتنفيس قسط من التوتر الاجتماعي من جهة وإلى الدعم من جهة ، وأستمر الحال على هذا المنوال حتى سقوط نظام صدام في نيسان عام 2003 ، و في الحقيقة هذه الرؤية الحكومية الى مؤسسات المجتمع المدني التقليدية كانت هي الحاكمة عموماً في العراق مع مد و جزر بحسب ضعف وقوة الدولة ، ومحصلة القوى والمؤثرات والمعادلات الداخلية والخارجية منذ بداية العهد الجمهوري عام 1958 الذي بقي بعيداً عن التشارك في السلطة حتى بالنسبة المحدودة ، والصورة المختلة التي بدأت مع قيام الدولة العراقية الحديثة في عشرينيات القرن الماضي بعد إنتصار ثورة العشرين ( بزعامة المرجع الشيخ محمد تقي الشيرازي ) والتي شاركت فيها مؤسسات المجتمع المدني العراقي التقليدية التي يُطلق عليها إسم البُنى التقليدية ، ومما تجدر الإشارة إليه أن مؤسسات المجتمع المدني التقليدية وغير التقليدية بما في ذلك الأحزاب السياسية والدينية في العهد الملكي كانت حاضرة لكن الرؤية الحكومية والتعاطي معها كان إلتفافياً في الجملة ، وتكتكياً مستنداً الى فـرِّقْ تـسـد بتحويل التنافس الى صراع بين التقليدية وغـير التقليدية من ناحية ، ولحساب غير التقليدية الفتية حينئذٍ ، وبذرائع مخـتـلفة منها التفسير الحداثوي ، أواللبرالوي ، أوالعلمانوي لمؤسسات المجتمع المدني ، والطائفية ، و التخوين والولاء المزدوج ، وزعم تعارض الدين مع الديمقراطية والحداثة والدولة الحديثة ... الـخ ، وبين مكونات كل منهما من ناحية أخرى ، وكل ذلك لتمركز السلطة في الدولة ، والقذف بتلك البُـنى من المركـز بإتجاه المحيط تدريجياً مع البدء بالبُـنـى التقليدية ، حيث لم تُـسجل للدولة أية محاولات منهجية جادة لدعم وتكريس وتطوير تلك البُـنى ومأسسة وجودها المستدام في الدولة العراقية خلال العهد الملكي ، و كـُتِـبَ لتلك المحاولات الأقصائية النجاح فدمرت مشروع بناء الدولة العراقية الحديثة وقادت الى حقبة الإنقلابات التي أشرنا إليها ، و ساهم في ذلك التفسير الحداثوي المتحجر الضيق لمفهوم المجتمع المدني الذي يوصم تلك البُنى التقليدية بالقديمة والمتخلفة والرجعية والطائفية والقبلية ، ويُلزِم ُبمحاربتها وتصفيتها ، وما ترتب على التفسير المذكور من هدر للطاقات و توتر وصراع ومواجهة بين البُـنـى التقليدية وغيرالتقليدية لمؤسسات المجتمع العراقي ، وساق الطرفين للإبتعاد عن قواعد المجتمع المدني في التسامح والتعددية والتشارك في السلطة ، والمأساة ان المشهد نفسه يكاد أن يتكرر اليوم مع تغييرات وتشذيبات ميدانية ، وسيساهم ذلك في خلق فراغ يتبعه إنهيار دموي لحلم بناء الدولة الديمقراطية الدستورية الحديثة في العراق ، وللمرة الثالثة . مـا هـو الحـلّ إذن ؟ - الإعتراف الكامل بالبُنى التقليدية المتجذرة ، وغير التقليدية الفتية لـمـؤسـسـات المجتمع المدني العراقي ، بـما و يـشمل الأحـزاب السياسية و النقابات المهنية والأحزاب الدينية التي لا ترفض قواعد المجتمع المدني ، و كبُنى متفاعلة تتقاسم الأدوار و يـُكـِّمل بعضها الأخر ، لأنه لا تناقض بين البُنى التقليدية و بين الدولة الحديثة ، أو بين الأخيرة وبين الإسلام ، أو بين الأخير وبين مؤسسات المجتمع المدني بالمفهوم الأعم ، أو بين المسلمين وبين تلك المؤسسات كلما وجدوا حرية الى تأســيــسـها وتطويرها كما يسجل التاريخ ذلك ، نعم الشواهد التاريخية تفيد بأنَّ حكام المسلمين من جهة والمجتمع المدني من جهة أخرى كانا متمانعين في الأغلب ، ولأسباب سياسية ورؤى شمولية لاعلاقة لها بالإسلام ، وقد أسقط َ البعض قصوراً أوتقصيراً سلوك الحاكم على المحكوم ، أو على على الإسلام ، أو على كليهما . - الحياد في التعاطي والرعاية المستدامة المتكافئة للقسمين من البُنى المذكورة ، والجدية في تطويرها وتفعيلها وتكريس عقلانيتها بصورة متوازية ، مع الحرص على إشراكها ومشاركتها في بناء الدولة الحديثة بعد الكف عن السياسات القسرية الملتوية لإحلال البُنى غير التقليدية الفتية محل البُنى التقليدية الموجودة أوالعكس ، وذلك لما تقدم َ ، ولتمكين الدولة من لعب دور الوسيط العادل ، و دفع المجتمع المدني كي يتصرَّف على نحوٍ مسؤول يكفل "المدنية" (civility) ، وكخطوة للعمل على تحرير المؤسسات والقوانين لشمول المجتمع المدني في عملية المشاركة . وفي الواقع الجزء الأكبر من العامل الداخلي للأزمة القائمة في العراق يعود الى التعريف الضيق الإقصائي لمؤسسات المجتمع المدني ، والذي تتمسك به بعض البُنى التقليدية ، وغير التقليدية ، كاللبرالوية العلمانوية المؤدلجة في بعدها اللاديني التي مازالت تجاهــد ( بتطميع خارجي ) مراهنة على وصفتها التغريبية المعروفة للعراق ، والتي ستدفع بالعراق الى أحضان الإستبداد مرة أخرى . الأمم المتحدة والبُنى الاجتماعية التقليدية يعتقد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) أنَّ منظمات المجتمع المدني (CSO) تشمل : منظمات المجتمعات المحلية (community based org) ومنظمة حقوق المرأة والمجموعات البيئية ومراكز البحث الفكري والتكتلات الدينية والحركات الشعبية الأهلية (indigenous people's movements) . فيشمل هذا التعريف للمجتمع المدني البُنى الاجتماعية التقليدية ( منظمات المجتمعات المحلية ) ، والمجموعات الدينية والإتنيات ( الحركات الشعبية الأهلية ) ، فهو تعريف أكثر إنفتاحاً ، ويخالف العلاقة الحداثوية المتوتِّرة مع البُنى التقليدية ، والتي تصف الأخيرة بالبُنى المعرقلة للعملية التنموية، وعليه - فحـسب برنامج الأمم المتحدة الإنــمائــي - البُنى الاجـتماعــيـة التقليدية الراهنة العريقة الوجود مثل القبائل والعشائر والمجموعات الدينية والإتنية والنقابات الإجتماعية وما نحو ذلك تعتبر جــزءً من مؤســســات المجتمع المدني. إذن من ْ يبحث عن التقدم الى الأمام يجب أن يتحاشى التفسير الإختزالي للتغيير ، ليضع حداً لإعمال القطيعة مع مكـتسبات الماضي ، ويمأســس لتعايش التغيير مع الإستمرار حتى لا يتحول التغيير مدخلاً للتغريب الذي يأتي عادةً نتيجة التفسير الإختزالي للتحديث ، ويقود الى خلق مقاومة للتغيير ، والإصطدام مع تحدّيات أكثر صلابة , فالفشل في خلق محيط اجتماعي مناسب وبُنى إجتماعية متماسكة للتغيير, تفضي إلى التقدم والحداثة ، وبإختصار فالتعامل غيرالرشيد مع التراث هو يقف حجر عثرة في طريق التنمية والتقدم والحداثة ، لأنه يستنزف الطاقات ، ويتسبب في خلق مقاومة للتغيير . مقاومة التغيير: في التاريخ الحديث القريب ، و منذ قرن تقريباً : الجميع في العراق مثلاً ينشد التغيير والتنمية والتقدم والحداثة لكن شيئاً من ذلك لم يقع ، لماذا ؟ لأن التغيير يـُقحم في إتجاه إختزالي يقاطع التراث كله ، ويعتمد إستراتيجية القوة – الإكراه فيخلق مقاومة للتغيير ، أوعدم رغبة للقيام بالتغيير ، أوعدم إسناده ودعمه ، هذا إضافة الى الأسباب الأخرى لمقاومة التغيير عموماً مثل الخوف من المجهول ، نقص الشعور بالحاجة للتغيير، الخوف من فقد المكانة ، تهديد المصالح ، اختلاف التفسيرات المتعلقة بالتغيير، , و... الخ ، ولمواجهة تلك المقاومة تقترح طرق عديدة منها التثقيف والاتصال الفعال ، والمشاركة الفعلية للآخرين، المؤازرة والدعم للأفراد الذي سيواجهون مصاعب ومشكلات التغيير، التفاوض والإتفاق مع مقاومي التغيير ، وعرض بعض المبادلات عليهم لضمان دعمهم . إذن مواجهة القوى المعارضة للتغيير أيضاً تملي المفهوم الواسع الذي أشرنا إليه لمؤسسات المجتمع المدني ، لأنه هناك ثلاث استراتيجيات للتغيير المخطط : استراتيجية القوة والإكراه : تستخدم السلطة والمكافآت والعقوبات كحوافز أساسية لخلق التغيير. فيستجيب البعض خوفاً من العقوبات أو رغبة في الحصول على المكافآت. استراتيجية الإقناع المنطقي : تستخدم الحقائق والمعرفة الخاصة والحجج المنطقية لإحداث التغيير مفترضة أن العقلاني الرشيد سيقرر دعم ومساندة التغيير من عدمه مستنداً على سلامة تفكيره ومصلحته. لذلك لا بد من قيام وسيط التغيير بحشد قدراته لاقناع الآخرين بأن التغيير سيجعلهم أفضل من السابق. استراتيجية المشاركة : تستخدم طرق المشاركة في اتخاذ القرار والتوكيد على القيم المشتركة لخلق التغيير. إنها تستلزم تمكين وإشراك الأطراف التي تتأثر بالتغيير بصدق وفاعلية في التخطيط واتخاذ القرارات الرئيسية المتعلقة بالتغيير. ويتطلب تطبيق هذه الإستراتيجية تنمية إتجاهات الدعم والإسناد للتغيير من خلال المشاركة أو التمكين والتي تستند بدورها على بناء القيم الشخصية ومعايير الجماعة والأهداف المشتركة لكي يظهر الدعم والإسناد طبيعياً . مشكلتنا الأساسية في التغيير : تكمن في إقصاء استراتيجية المشاركة الأكثر فاعلية وعملانية ، وجدوائية ، لإحتواء مقاومة التغيير ، وإنجاز التغيير الناجح المستدام ، والركون الى استراتيجية القوة والإكراه بالدرجة الأولى والرئيسية ، والى استراتيجية الإقناع المقنع بالتسقيط ، والدعاية ، و العاطفيات والشعارات والمزايدات ، وما أشرنا اليه من رؤية ضيقة ، وتعامل إقصائي مع البـُني التقليدية لمؤسسات المجتمع المدني في العهدين الملكي والجمهوري بالعراق خير دليل على ذلك ، وهذا حول "اين كـنا ؟" في التغيير ، يبقى : "اين نحن الآن ؟" في التغيير أتصور في نفس الإتجاه الضيق الإقصائي لمؤسسات المجتمع المدني ، حيث الرهان مازال قائماً على الوصفة اللبرالوية العلمانوية التغريبية المؤدلجة بعد حرق أوراق معارضي ذلك ، والذين يوصمون بالتقليدين والبـُنى التقليدية ، وهذا ما سيدفع بالعراق الى أحضان الإستبداد والتغريب مرة أخرى ، ويوقف عجلة التغيير والتقدم والتنمية والتحديث . "اين نريد ان نصل ؟" إذا كنا نريد حقاً الوصول بالعراق الى ديمقراطية دستورية وتنمية مستدامة وتحديث لابد من التغيير الذي يستند على استراتيجية المشاركة في التغيير ، وذلك يملى مشاركة البـُنى التقليدية وغير التقليدية معاً ، والإعتزاز غير الشوفيني بالهوية ، والتعامل الرشيد مع التراث . الخلاصـة : إذا أقتربنا من الواقعية ، وتمسكنا بإقتصاديات التغيير وتكاليفه وجدوائيته ، وأبتعدنا عن التفسيرين الليبرالوي والحداثوي الشموليين لمفهوم المجتمع المدني ، وعن الإستنساخ والشمولية والأدلجة والتسيـيـس في التعاطي مع المفهوم ، وتعاطينا معه وظيفياً وسسيولوجياً فسنرى بأنه يشمل أيضاً البُنى التقليدية ، القبلية والإتنية والدينية كالعشيرة والطائفة والنقابات الإجتماعية كنقابات النسـب الواحد أيضاً الى جانب النقابات المهنية ، والأحزاب السياسية والدينية ، ومنظمات المجتمع المدني ( CSO ) المســتحدثة كالمجموعات البيئية ومراكز البحث الفكري ومنظمات حقوق المرأة وما نحو ذلك. هذا وفي تاريخ المسلمين أنواع عديدة من المؤسسات التي تـُعد تعبيراً عن مؤسسات المجتمع المدني على أقل تقدير لكننا سنسلط الضوء في القسم الثاني على نقابات النسب الواحد ، وعلى نقابة الطالبيين كمثال.
|