الحكومات والشركات... أيهما المسؤول عن تشويه العولمة؟

 

 

 

اجتمع "المنتدى الاجتماعي العالمي" -والحركة المناوئة للعولمة التي يمثلها- في نيروبي يوم السبت الماضي؛ غير أن اللافت هو أن ما بدأ كحدث سنوي في تشيلي قبل ست سنوات –في أعقاب المظاهرات المعارِضة للعولمة في سياتل عام 1999- أصبح حدثاً مخيباً للآمال بالنسبة لمعظم وسائل الإعلام الدولية. فقد جعل المنتدى نفسه غير مناسب لمستقبل الاقتصاد العالمي لأنه، من بين أسباب أخرى، استهدف الأهداف الخطأ: الرأسماليين، والشركات الكبرى، ومؤسسات دولية من قبيل "البنك الدولي" و"صندوق النقد الدولي".

والحال أن المناهضين للعولمة المجتمعين في نيروبي، والذين يريدون إبطاء، بل قلْب حركة العولمة، على حق بخصوص نقطة واحدة، وهي أن عالم ما بعد الحرب الباردة أضحى مكاناً خطيراً على نحو متزايد، لأسباب من بينها الجانب القاتم من العولمة؛ حيث باتت أمراض جديدة تعبر الحدود؛ وازدهرت المتاجرة في النساء والمخدرات؛ وأصبحت الشركات الملوِّثة تنتقل إلى بلدان حيث القوانين أقل حزماً وصرامة، وأضحت الأسلحة الفتاكة تجد طريقها بسهولة إلى أيدي من يمتلكون المال. أما المظاهر الحقيقية التي تشكل العولمة -من قبيل انتقال الأفكار، والرأسمال، والتكنولوجيا، واليد العاملة- فليست بالأمر الجديد؛ فإذا كانت سفن الشحن والإنترنت قد ساهمت في تسهيل التجارة، فإن البضائع والخدمات كانت تنتقل بين الحدود منذ قرون عدة. وعليه، فما الذي زاد مؤخراً من أخطار العولمة؟

الواقع أنه بدلاً من إلقاء اللوم على الرأسماليين والشركات، فمن الأحرى انتقاد الحكومات؛ ذلك أن "البنك الدولي" و"صندوق النقد الدولي" من صنع الحكومات التي تديرهما. أما الشركات، فليست مسؤولة سوى أمام المساهمين فيها (وليس أمام مفهوم فضفاض مثل الخير الاجتماعي)؛ كما أنها خُلقت من رحم القوانين التي تسنها الحكومات وتعتمد عليها. وهكذا، فإن أشرار العولمة المشهورين لا يعملون سوى وفق المحفزات والإكراهات التي تحددها لهم الحكومات.

لقد كان من المفترض أن تجلب نهاية الحربِ الباردة الأمنَ والرخاء إلى العالم. فعلى سبيل المثال، كان الكثيرون في إدارة كلينتون يوافقون فرانسيس فوكوياما في رؤيته حول "نهاية التاريخ" -التي تحدث فيها عن عالم مستقبلي للتجارة حيث تُخاض الحروب بسبب أمور من قبيل معدلات الفائدة وقوانين الهواتف النقالة- فسكَّ مستشار كلينتون الأول في شؤون الأمن القومي، "أنتوني ليك"، مصطلح "التوسيع" بدلاً من "الاحتواء"، مجادلاً بأن من شأن نشر الديمقراطية في العالم أن يجلب السلام والرخاء.

ولكن بدلاً من ذلك، أدت نهاية الحرب الباردة وبداية العولمة إلى فترة تميزت بهيمنة الولايات المتحدة، وهي فترة تبين لاحقاً أنها ليست عهد الأمن والرخاء الذي بُشر به العالم. وهكذا، ولأول مرة في تاريخ العالم، فُرضت العولمة السريعة على عالم أحادي القطبية؛ غير أن السنوات الخمس عشرة الأخيرة أظهرت أن ذلك يشكل خلطة خطيرة.

والواقع أن الاقتصاد العالمي في حاجة إلى جملة من القوانين والقواعد العالمية؛ والحال أنه طالما لا توجد حكومة عالمية واحدة، فإن إدارة العالم والاقتصاد الدولي تتوقف على ما تقوم به الحكومات الوطنية عبر السياسات التي تسنها على نحو منفرد والاتفاقات التي تعقدها سوية. فإذا كان الكونجرس، على سبيل المثال، يحدد للشركات معايير بخصوص العمل داخل الولايات المتحدة، فيمكنه أن يضيف شروطاً إلى الاتفاقيات التجارية من أجل فرض معايير مماثلة على الشركات الأجنبية التي تنتج بضائع نستوردها.

إن مشكلة عالم أحادي القطبية تكمن في أن الكثير من العبء يقع على كاهل الولايات المتحدة. وهو مثال كلاسيكي لما يصطلح علماء الاقتصاد على تسميته بمشكلة "البضائع العمومية". أما المقصود بالبضائع العمومية فهو أمور مشتركة يستفيد منها الجميع مثل القوانين والقواعد العالمية؛ غير أنه لا يمكن لأي حكومة بمفردها أن توفرها لأسباب منها غلاء تكلفة وضعها والسهر على احترامها وفرضها. وهكذا، فإننا نميل، في عالم يفتقر إلى حكومة عالمية واحدة، إلى هذه القواعد؛ أما عواقب ذلك، فتتمثل بالضبط في ما يقوم مناهضو العولمة بالاحتجاج عليه.

يتجه معظم العالم بأنظاره نحو الدول القوية باعتبارها المسؤولة عن توفير بضائع عمومية من قبيل القوانين البيئية أو محاربة المتاجرة في البشر، والتي من شأنها دفع العولمة نحو نتائج أكثر إيجابية. غير أن ذلك يعني توجه الأنظار اليوم بشكل متزايد صوب الولايات المتحدة. والحال أنه حتى في ذروة قوتها، فإن تأثير الولايات المتحدة كان دائماً محدوداً بسبب عجز الميزانية وغياب الإرادة السياسية. وبمعنى آخر، فإن الجانب القاتم من العولمة ليس نتيجة للعولمة في حد ذاتها، وإنما هو الجانب القاتم من الهيمنة الأميركية.

والحقيقة أنه إذا كان ثمة أمر سار بخصوص التراجع النسبي لقوة الولايات المتحدة، فيكمن في أنه يفتح الباب أمام دول قوية أخرى للانضمام إلى لعبة إدارة العالم. وهنا يشار إلى أن أكبر مستفيد من العولمة بعد الولايات المتحدة هو الصين، البلد ذو الاقتصاد الفتي، والنفوذ السياسي المتنامي، والمصالح المختلفة في مناطق كثيرة من العالم -ولاسيما في أفريقيا- حيث تعد الولايات المتحدة غائبة تقريباً. فإذا تعاونت الولايات المتحدة والصين على وضع قوانين للمرحلة المقبلة من العولمة، فإنه يمكن القول إن العالم بعد عشر سنوات من اليوم لن يكون أغنى فحسب، وإنما أكثر أمناً ونظافة وعدلاً، بل وسيغدو مكاناً مفعماً بالأمل. أما في حال عمل البلدان، كلاً على حدة، على تحقيق أهداف متضاربة، فإن الشركات الكبرى ستفعل بكل بساطة ما تُجيد الشركات فعله دائماً، أي تحقيق الأرباح على حساب معظم القيم الأخرى. وعليه، فإذا كان أعضاء "المنتدى الاجتماعي العالمي" يرغبون في أن يصبحوا مواكبين للسياق الجديد ويكبحوا الجوانب القاتمة من العولمة، فسيتعين عليهم أن يواجهوا واقع سياسة القوة الكبرى. وهذا يعني صرف تركيزهم عن الرأسماليين والشركات وتوجيهه نحو واشنطن وبكين.

*متخصص في العلوم السياسية

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر: الإتحاد الإماراتية- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"-27-1-2007